إنها نعمة و ربما لعنة النسيان ، نعمة حينما ينسينا كل الأحزان التي تجرفنا أحيانا كطوفان لا يرحم ، و لعنة حينما يُنسينا أنفسنا ، و هل يعقل أن ينسى المرء نفسه ؟ فمن يتذكر بعدها يا ترى ؟ في الحقيقة ليس هناك نسيان تام أبدا ، كما ليس لباقي الأشياء كمال أيضا ، فلكل شيء إذا ما تم نقصان و لا جدال في كلام الشاعر كما لا جدال في نقصان الأشياء أو كمالها .
النسيان شيء ندعيه فقط ، و كلما استيقظت الذاكرة أعادت لنا شريط كلما فات ، هي حدة الألم فقط من تتناقص لا غير ، أو ربما نمثل النسيان لنعزي أنفسنا فيمن فقدناهم ، و إلا لما خلدنا ذكرياتهم كل عام مرة ، أو كلما بعثرنا صورهم أمامنا من ألبوم الذكريات لعلنا نجد بينها بقايا من حنين أو وحشة لهم .
لكن أصعب نسيان لا يُغتفر نسيان المرء لنفسه ، أو تناسيه ربما لعله يؤكد وفاءه لغيره أكثر من نفسه ، وحينما يبقى أمام نفسه و قد رحل عنه كل أولئك الذين كان أكثر وفاء لهم ، تذكر نفسه من جديد ، و كأنه ولد مرة أخرى ليجد نفسه رأسا لرأس مع نفسه ، و كم يحتاج المرء كي يعتذر لنفسه ؟ قد لا تكفيه كل كلمات القواميس و بكل اللغات ، لن يجد كلمة تعزيه في نسيان نفسه أو تغفر له ما فعله بها . حينما يكتشف كم كان ظالما و قاهرا لها ، و ما كانت تستحق منه ذلك ، بل حتى أولئك الذين كان أكثر وفاء لهم لن يغفروا له ، سيكتفون بكلمات قليلة مفادها أنت أردت فعل ذلك بنفسك و ها قد فعلته فلا عذر لك في لومنا . و بماذا يجدي اللوم بعد فوات الأوان و لا أكثر تعبيرا من ذلك المثل المغربي الذي يقول "البكا من مور الميت خسارة" أي أن البكاء على الميت ليس له فائدة و لا جدوى ، كما ليس للندم أو اللوم جدوى بعد فوات الأوان ، حينما يجد المرء نفسه _رجلا كان أو امرأة_و قد أفنى عمره عن رضا و طيب خاطر لإسعاد غيره في الوقت الذي لم يفكر أحد في إسعاده .
فهل تجد هاته الكلمات آذانا صاغية تستوعبها و تحفظها حتى لا تتكرر نفس القصص المزعجة و نبدو أكثر غباء حينما لا نفهم الدرس و لا نستفيد منه ، فلا داعي كي نعيش جميعا كل المآسي كي نخرج بالنتيجة نفسها في الأخير ، يكفي أن نأخذ العبرة من الغير فهذا يوفر علينا الكثير من التعب و العناء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق