انحنى جحيش بن مرة على طرف الغدير يعب بحفنته بعضا من الماء يروي عطشه وهو يرقب بنصف عين فرسه الأبقع يشرب حذوه من نفس الغدير ويرفس الطين بحدوته.فنهض حتى استوى على صخرة وأنشد بحنق:
لحى الله جحشا اذا ما عطش
شرابه كان من طين وقش
اذا جن ليله ثراه افترش
وبينما كان يمسح لحيته الشعثاء لمحها ٱتية ،كانت تسير مثل فرس دهماء تضرب الأرض بحافرها غير عابئة برمالها المفترسة يزين حوشبها خلخال من فضة مزين بالزمرد يصدر جلجلة تثير حواس الموتى المدفونين تحت كثبان الصحراء ،وكأن كل المكان لها خدم وحشم يطيعها لا تخشى شرا ولا لوما.
أليست ابنة عتادة ابن كعب شيخ الشيوخ ومالك هذه الفيافي والأغنام والنوق وصاحب السيف البتار والسطوة والجاه!
لكن ساعة القضاء لها غفلة من الغرور والكبر وقد اختفى بلحظة جاه أبيها وحسنها الأخاذ إذ إلتف ثعبان على ساقها حتى سرى السم إلى أوداقها ،وتهالكت المياسة فوق الرمال وثناثرت خصلات شعرها مثل وشاح نجدي وصاحت بأعلى صوتها : ياويلاه...وكان القاضي عبيد بن الريحان قد ترجل من صهوة فرسه يبحث عن مكان ٱمن يقيل فيه هربا من جنون زوجته وبطشها فوقعت عينه على المياسة وكان يجهل انها بنت كعب وقد صار قلبه يتخبط مثلما تخبطت فوق الرمال كأنها يمامة محجلة وقعت في الشراك والتبس عليه الأمر وما عرف رأسه من عقبه وخر كصم الجندل فصار يسمع لقلبه قعقعة كصوت بعير مذبوح بسكين مشروخ وتلون وجهه فصار أحمر كلون اللهب وانتفخت أوداجه فصارت مثل فطيرة أم بحتر العبسية و إقترب منها رويدا رويدا وقد تصبب العرق من جبينها ونقل الثعبان سمه إلى دمها فجحظت عيناها وارتعش فمها فقال:
يا ذات الزبرجد والديباج
مرحى لحسنك الوهاج
فرددت وهي ترتعش: قاتلك الله ،قاتلك الله
وهل هذا وقت غزل؟
فأردف القاضي:
قاضي القضاة قاتله الهوى
والنارأكلت قلبه والحشى
ازيح زعاف السم والقذى
وأظفر بالدرة عبلة الشوى
إنه العشق يا سادة يسلب اللب فتصير مثل قشة في مهب وقد صار القاضي يتمايل كالمثمول وهو ينظر خفية إلى الوجه المستدير الوضاء كأنه الكوكب الدري ويتبع بعدسة عينه المرتعشة طيف القد المياس يتمايل كأنه غصن البان ولعن سرا زوجته ام لسان زبيدة وأبيها الأعور بن فرنان
وفجأة هب جحيش وقفز إليها كغراب بلا ريش، بلحية شعثاء عيناه كقنفد يبحث عن ماء.. وربط فخضها بطرف ثوبه المهلهل وطمأنها وهو يردد : لاتخافي أنا معك
ثم أوقد النار وحمى طرف سيفه البتار ولكعها لكعا مكان قرصة الثعبان حتى صاحت صيحة سمعها موتى الكثبان وحملها بين يديه كفارس همام ووضعها فوق ظهر الأبقع وطار بها يسابق الريح .
فناداه القاضي وقد التوى كاحله وتعثر حتى زرع أنفه الأجدع في التراب:
أيها الصعلوك ابن الصعلوك
ذر الغيد الحسان إلى الملوك
فالتفت إليه جحيشٌ باسما وقال :
من ساوم حرة عند المصاب
ماجنى غير طين وتراب
فلا يعيب الرجال فقرا
ولكن الخساسة مايعاب..
بقلم بسمة الطهاري
من حدثتنا بسيمة