لا يشك الملاحظ في أن الموسيقى الشرقية، ومن ضمنها العربية، غنائية في الأصل. وهذا فرق جوهري بينها وبين الموسيقى الغربية الكلاسيكية. ونقصد من هذا التبايُن، أن من الموسيقى الغربية ما هو مجرد عن الغناء؛ وإن كان بعضه لا ينفصل عنه كجنس الأوبرا وما يندرج تحته من صنوف. ولا شك أن إدراك الموسيقى في حال تجردها، هو أعلى ما يكون من إدراكها. وهذا يُشبه إدراك المعاني المجردة لدى العقل الفلسفي، بالمقارنة إلى إدراك المعاني في لغتها الأصلية، الأدبية وغيرها... بل إننا قد جعلنا سابقا العقل الموسيقي (عقل المؤلف الكلاسيكي)، أعلى من العقل الفلسفي نفسه. وهذا، لأن التجريد لدى الموسيقي أعلى منه لدى الفيلسوف؛ ما دام الفيلسوف لا يستغني عن القالب اللغوي الذي يصوغ به فلسفته. أما الموسيقي، فهو من أول قدم مع المجردات، وإن كان له حد أدنى من الارتباط بالحس، في الأصوات (الدرجات والطابع الصوتي) (degrés et timbres). وهذا هو ما يجعل الموسيقى لغة المواجيد، من المرتبة البدائية، وقبل أن يتعلق بها التفصيل العقلي. ولقد ذكرنا في مقال سابق أن الموسيقى تسبق في المرتبة اللغة المعتادة، لأنها مُجمِلة لها وسابقة عليها. لكنّ هذا، لا يعني أنه في مستطاع الموسيقي التعبير بالموسيقى عن آراء مخصوصة في مجالات مخصوصة؛ لأن ذلك يدخل ضمن خصوصيات اللغة المعتادة. وقد غلط كثير من الموسيقيين عند دخولهم في المقارنة بين الموسيقى واللغة، وعندما تعصبوا أكثر من اللازم للموسيقى، ظنا منهم أنها ينبغي أن تكون وسيلة التواصل العامة؛ من دون أن يفرقوا بين المعبَّر عنه: هل هو من المواجيد الشعورية، أم من المعاني التفصيلية المضبوطة؟...
والمجتمعات الشرقية -بما فيها العربية- هي مجتمعات كان (ولا زال) يغلب عليها إدراك اللغة وعلى رأسها الشعر؛ لأن الشعر يعد أعلى ما يُدرك من اللغة، عند استثناء الوحي الإلهي. بينما المجتمعات الغربية، وإن كانت قد بدأت مشابهة -في القرون الوسطى وما قبلها- للمجتمعات الشرقية، لم يلبث أن غلب عليها فيما بعد -ومنذ العصر اليوناني- إدراك المعاني الفلسفية المجردة؛ وهو طريق مواز للمعاني الشعرية. وهكذا امتازت المجتمعات الشرقية في الشعر بما هو سابق على الموسيقى؛ بينما سيتوجه العقل الغربي نحو موسيقى فكرية، هي ما بعد الفلسفة. وهكذا وإن اتحدت الموسيقى الغربية مع أختها الشرقية في المجال العام، فإنهما ستختلفان اختلافا جوهريا من حيث الإدراك، وبالتالي من حيث التوظيف التعبيري...
وإن نحن رجعنا إلى سوق الشعر العربي في الجاهلية، سوق عكاظ، فإننا سنجد القصائد تُنشد فيها من قِبل ناظميها، مع مصاحبة آلات إيقاعية بسيطة. وهذا، قبل أن تظهر التنظيرات للبحور الشعرية، كما هي معلومة اليوم. ونعني من هذا، أن النظم في بدايته، كان يستند إلى الإيقاع الموسيقي، لا إلى البحور بما هي بحور؛ وإن كانت هي ذاتها ليست إلا نماذج من الإيقاع، لكن بالنظر إلى الكلمات، لا إلى الموسيقى. ولا يخفى هنا، أن الإيقاعات المصاحبة للشعر، ما كانت لتنفصل عن ألحان بدائية، تتكرر جملها اللحنية برتابة؛ كما هي الحال في الإنشاد الديني (الصوفي العتيق مثلا). وهكذا، فعندما تطورت الموسيقى الشرقية، فإنها كانت ملازمة للشعر، غير قابلة للانفصال عنه. وهذا، هو ما جعل موسيقانا غنائية بالأساس؛ إلى الحد الذي ما زال الجمهور عندنا، لا يقبل الموسيقى الآلية منفردة إلا نادرا، وفيما بين المتخصصين وحدهم. فإن نحن نظرنا إلى المقدمات الموسيقية التي كان يعتمدها الملحنون لأغاني أم كلثوم -مثلا- وهي أكبر نموذج غنائي معاصر، فإننا سنجدها لا تُقبَل لدى الجمهور إلا باعتبار أن أم كلثوم ستدخل في الغناء بعدها. ولو افترضنا أن أم كلثوم لم تغن في مرة من المرات، فإننا كنا سنرى الجمهور يخرج غاضبا، وكأنه لم يسمع شيئا؛ أو كأنه قد خُدع. وهذا يعني أن المجتمع الشرقي، لا يُدرك الموسيقى مجردة، مهما كابر المكابرون. بل إن كبار الملحنين، وهم موسيقيون بالاعتبار، لا يلحنون إلا قصائد شعرية، يُلبسون فيها اللغة ثوبا لحنيا، لا ينفصل عنها. ولم يسلم من هذا النمط كبار الملحنين: كعبد الوهاب والسنباطي وفريد وبليغ حمدي والموجي من مصر، وكالبيضاوي وعبد السلام عامر من المغرب، وكعائلة الرحباني وفيليمون وهبي من لبنان؛ وغيرهم، من الأقطار العربية الأخرى. وكل ما أنتجه هؤلاء من موسيقى بالمعنى الأصلي، يبقى نادرا، وغير بعيد عن نمط التلحين الغنائي (lyrique). وأما التعبير لدى الملحنين المذكورين آنفا، فيبقى ضعيفا وضمن أساليب بدائية، لا تبلغ الفكر الموسيقي المعروف لدى الغربيين في هذا المجال.
وبما أن الألحان الشرقية العربية غنائية في أصلها، فلا بد من التمييز فيها بين تلحين القصيدة العربية وتلحين الشعر العامي (الزجل). ولا شك أن ما غلب على التلحين، وبالتالي على الموسيقى، هو الإدراك العامي؛ بسبب كون الموسيقيين في الغالب، على ثقافة متوسطة أو ضعيفة. وهذا، لأن المجتمع كان لا يجمع في نظره بين ما هو علمي في العادة وما هو فني؛ للأسباب المعلومة، والتي على رأسها هيمنة العقل الفقهي وانفراده بتوجيه الإدراك العام للمجتمع. وهنا ينبغي أن نرتب الملحنين الذين سبق ذكرهم، لكونهم نماذج يُقاس عليها، من جهة مقدرتهم على تلحين الشعر الفصيح، فنقول:
- إن أقدر الملحنين العرب، على تلحين الشعر العربي: السنباطي في المصريين؛ وهو عبقري في إنتاج الألحان العميقة (التي يصفها بعضهم بالصوفية!)، وإن كان التنميط يغلب عليه أحيانا. وأما من غير المصريين، فكان أحمد البيضاوي (وكنا قد التقيناه مرة في مقر الإذاعة المغربية في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، رحمه الله)، وعبد السلام عامر من المغرب. وهذا لخصوصية لدى المغاربة، وهي اعتمادهم (وهم في الأصل أمازيغ) على اللغة الفصحى في التعليم (فيما سبق لا الآن). وبهذا السبب، صار المتعلم منهم أفصح من المشارقة الذين هم أكثر عروبة؛ أو هكذا ينبغي أن يكون الأمر...
- أما محمد عبد الوهاب، فقصائده الفصيحة التي أفلح فيها، نادرة؛ وبالتالي فهو لا يُحسن تلحين الشعر الفصيح، وإن كانت مقدماته دائما عبقرية، من الناحية الموسيقية (قصيدة "متى ستعرف أنني أهواك" لنزار قباني، والتي غنتها نجاة، نموذجا)؛ بل إن بعض أولى قصائد عبد الوهاب كانت أفضل من متأخِّراته. ولا نرى سببا لذلك فيما يبدو، إلا أنه ربما كان لشوقي عند ملازمته له، الأثر في الرأي على الألحان حينما كانت تعرض عليه. وعندما فقد عبد الوهاب السند اللغوي، عاد إلى الإسفاف والعامية في التلحين. ونعني من هذا، أنه كان أحيانا يلحن اللغة الفصيحة بالطريقة العامية؛ وهذا لا يكون أبدا!...
- وأما بليغ حمدي، ورغم أنه كان من أكثر الناس عبقرية في إبداع الجمل الموسيقية، وفي تنويع الإيقاعات، فإنه كان لا يصلح لتلحين الشعر الفصيح. وكثير من الناس يعلمون قصته مع قصيدة "من أجل عينيك" التي كانت أم كلثوم تنتظر منه تلحينها، لظنها بمقدرته على تلحين الشعر الفصيح، كمقدرته على تلحين الشعر العامي. فلما طالت المدة، وعجز بليغ، أخذت أم كلثوم القصيدة وأعطتها للسنباطي الذي لحنها بحسب الطلب في مدة شهر من الزمان. ولقد كان السنباطي متسرعا، في بعض جملها، بسبب قصر المدة ربما، رغم عبقرية اللحن في الأصل. وهذا يُدركه من يكون عالما بالجمل وطريقة تلحينها، أي من كان ملحنا وناقدا موسيقيا.
- وأما محمد الموجي، وعلى براعته في التلحين وفي تجديد الجمل، فإنه لم يكن يقوى على تلحين الشعر الفصيح. فهو يُشبه من هذا الوجه بليغ كثيرا...
- أما اللبنانيون، فمع أن إلفهم بتلحين الشعر الفصيح كان قديما، من جهة الكنيسة، إلا أنهم كانوا على غرار ترانيم الكنيسة يتعسفون في تلحين الكلمة. ونعني أنهم كانوا يكسرونها داخليا، من جهة إيقاعها الوحدوي (الجرس). هذا مع تميزهم بجمل لحنية قصيرة، تخالف ما درج عليه المصريون ومن سار على دربهم.
ولقد كان لغلبة إدراك العوام على الموسيقى، الأثر السيئ، الذي جعلها لا تتطور بالوتيرة اللازمة، في مقابل نظيرتها الموسيقى الغربية العالمة. بل إن ما غلب على التلحين كثيرا، هو ما كان مناسبا لمرتادي المقاهي والخمارات. وهذا قد حط من الذائقة العامة للمجتمع، وجعل النخب العلمية الدينية على الخصوص، تنظر إلى المجال الموسيقي نظرة دونية. ولا تزال الموسيقى العربية، إلى الآن، تعاني من هذا الانحطاط، وإن دخلت الدراسة الأكاديمية عليها. ومما يؤكد ما نذهب إليه، غلبة الإيقاعات الشعبية الراقصة على الألحان، وإن كانت مما يُقدم على المسرح.
وأما الدليل على نقص تذوق المجتمعات الشرقية للموسيقى، فهو عدم إنصاتهم إليها باهتمام. فهم إذا أعجبهم اللحن، لا يتورعون عن التصفيق أثناءه، أو عن الصراخ؛ وهذا لا يمكن أن يفعله من يُدرك معاني الألحان؛ كما هو شأن الجمهور الغربي، عند استماعه للعروض الكلاسيكية.
ولعل من أسباب بقاء الموسيقى العربية متخلفة، تركها عُرضة للمتاجرة الرخيصة، من قبل أصحاب الملاهي وقاعات الاستقبال في الأوتيلات. وأما الحكومات، فإنه لا يتجاوز اهتمامها جانب التدريس، على ما به من نقص؛ وعلى ما يسوده من عشوائية وفوضى؛ ليبقى الموسيقي بعد دراسته مسدود الأفق، ومـُرغما على النزول إلى "ما يطلبه الجمهور". وهكذا، فإن الموسيقى بدل أن تكون واجهة حضارية لمجتمعاتنا، قد ظلت محل شبهة ودليل تخلف، مهما أريد لها من قبل أهلها...
وحتى تخرج الموسيقى من قفص الغنائية، فإنه لا بد من تربية موسيقية للمجتمعات. ولا تتحقق هذه التربية، إلا بعد خروج المجتمعات ذاتها من القهر السياسي الذي يجعل الموسيقى لديها شأنا ترفيّا، لا يطوله معظم الشعب. وهكذا، فإن الشأن الثقافي، يتضح أنه شأن سياسي بامتياز. وسنعود إلى الغناء الصرف، في مقال مستقل بإذن الله، لنبيّن أهم معالمه وخصوصياته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق