العناد عند المراهقين من منظور الصحة النفسية..بقلم الدكتورة/ أسماء محمد سعد

انظر إلى العناد عند المراهقين فهو من أكثر السلوكيات التي تواجه الآباء والمربين وتثير فيهم القلق والحيرة لأن المراهق في هذه المرحلة يسعى إلى اثبات ذاته واستقلال شخصيته فيميل إلى رفض الأوامر والمقاومة والعصيان وقد يظهر ذلك في صور متعددة مثل الجدال المستمر أو الإصرار على الرأي أو تجاهل التعليمات أو الانسحاب الصامت وكل هذه المظاهر ليست دائما تعبيرا عن سوء تربية أو ضعف رقابة بل هي في جوهرها علامة على نمو الشخصية وبداية تكوين الهوية
ولذلك فإن التعامل مع العناد لا ينبغي أن يكون برد فعل غاضب أو عنيف بل بفهم عميق لطبيعة المرحلة ومتطلباتها والمراهق حين يعاند لا يقصد بالضرورة إغضاب والديه بل يحاول أن يشعر أنه صاحب قرار وأن رأيه له قيمة
ومن هنا تبدأ الخطوة الأولى في تعديل السلوك وهي الإصغاء الجيد له ومنحه مساحة آمنة للتعبير عن رأيه دون خوف أو تهديد فالمراهق حين يشعر بأن صوته مسموع يقل تمسكه بالعناد لأنه لم يعد مضطرا لاستخدامه وسيلة لإثبات الذات
كما أن الحوار المفتوح والهادئ يساعده على رؤية الأمور من زوايا مختلفة ويتيح له فرصة التفكير المنطقي بدل الرفض التلقائي ولابد أن يحرص الوالدان على ضبط انفعالاتهما أثناء النقاش لأن الصراخ أو التهديد أو المقارنة بغيره تدفعه إلى مزيد من المقاومة
أما الهدوء والصبر فيرسلان رسالة ضمنية بأنه ناضج ومحترم وأن رأيه له وزن ومن الوسائل الفعالة كذلك وضع الحدود الواضحة فالمراهق يحتاج إلى أن يعرف ما هو مسموح وما هو مرفوض لكن دون قسوة أو تسلط فالحزم الدافئ هو التوازن المطلوب إذ يشعره بالانضباط والأمان في الوقت نفسه ويجب أن تكون هذه الحدود متسقة وثابتة لا تتغير حسب المزاج لأن التناقض في المواقف يجعل المراهق يتمسك بعناده بحثا عن الاتساق ومن المهم أيضا تعزيز السلوك الإيجابي بالمكافأة والتشجيع عند التزامه بالقواعد أو تجاوبه في الحوار
فذلك يدعم ثقته بنفسه ويقوي رغبته في التفاهم كما أن القدوة تلعب دورا محوريا فالمراهق يراقب سلوك والديه أكثر مما يستمع إلى نصائحه فإذا رأى أحدهما يتعصب أو يرفض الاعتراف بالخطأ فسيتعلم أن العناد قوة أما إذا وجد أن الاعتراف بالخطأ سلوك طبيعي فسيقلد ذلك مع الوقت وينفتح أكثر على التغيير وينبغي كذلك تجنب إصدار الأحكام القاسية مثل أنت عنيد أو لن تتغير لأن هذه العبارات تضعه في قالب ثابت وتمنعه من تطوير ذاته ومن المفيد أن يشارك الوالدان ابنهم المراهق في اتخاذ بعض القرارات الصغيرة المتعلقة بحياته اليومية مثل تنظيم وقته أو ترتيب غرفته أو اختيار ملابسه لأن هذا يعلمه المسؤولية ويشعره بالاستقلال
مما يقلل رغبته في التمرد كما يجب توجيهه نحو أنشطة إيجابية تشغل طاقته مثل الرياضة والفنون والعمل التطوعي فهذه المجالات تمنحه متنفسا للتعبير عن ذاته بطريقة بناءة وتخفف من توتره الداخلي ويحتاج الأهل أيضا إلى فهم أن المراهق لا يتغير بسرعة فالتعديل عملية تراكمية تحتاج إلى صبر وثقة متبادلة ومن الخطأ التراجع عن الحوار بعد أول محاولة فاشلة لأن التواصل المنتظم والمتدرج هو الذي يثمر في النهاية وأحيانا قد يكون العناد نتيجة لضغوط نفسية أو دراسية أو شعور بالإهمال وهنا يكون الدعم العاطفي أهم من أي عقوبة
فالكلمة الطيبة والاحتضان والاهتمام اليومي تصنع أثرا عميقا لا تحققه النصائح وحدها كما أن البيئة الأسرية المتوترة تزيد من حدة العناد لذا من الضروري أن يسود في البيت جو من التفاهم والاحترام المتبادل فحين يرى المراهق أن العلاقة بين والديه قائمة على تقدير متبادل يتعلم بدوره كيف يحترم الآخرين وتجنب الإلحاح المستمر على الطاعة الفورية لأن الإقناع أفضل من الإكراه والمراهق عندما يمنح فرصة للمشاركة والشعور بالمسؤولية يتحول عناده تدريجيا إلى رأي ناضج وإصرار إيجابي على النجاح
إذن يجب أن يتذكر الأهل أن العناد مرحلة طبيعية مؤقتة وليست صفة دائمة فإذا تمت إدارتها بحكمة ستنتهي بتكوين شخصية مستقلة متوازنة قادرة على اتخاذ القرار وتحمل المسؤولية بدلا من أن تترك أثرا من التوتر والصدام فالحنان مع الحزم والحوار مع الاحترام هي المفاتيح الأساسية لتعديل سلوك العناد عند المراهقين وتحويله إلى طاقة نضج ونمو تساعدهم على بناء مستقبلهم بثقة واتزان
تعليقات