تكحلت فارتبكت هذا الصباح على غير عادتها لعل كحلها صار مربكا أكثر من العادة وملفتًا مع شدة بياض عينيها وقد جلب لها بالأمس مشاكل جمة لم يحلها سوى صبرها وتذرعها بالصمت فقد صارت مطمعا لبعض صعاليك القبيلة كما أثارت غيرة بعض النساء..
حركت العنقاء قنينة كحلها بلطف وكأنها تختبر مدى امتلائها وتبسمت سرا حينما تأكدت انها لازالت تكفيها لشهر آخر ثم تمتمت وقد انفرجت أساريرها : عليا وعلى أعدائي
إنها لا تملك سوى قنينة الكحل العربي هذه وبعض الفساتين البالية التي بهت لونها ورداء أسود،لا تملك أقراطا من الذهب مثلهن ولا أساور من الفضة المزخرفة بالديباج، ولا تمتلك فساتين ملونة مثلهن ولا عطورا من العود الباذخ .
وضعت ردائها الأسود البالي وخرجت من خيمتها تحث الخطى إلى الغدير لتملأ جرتها باكرا قبل حلول الشمس الحارقة وضجت بالضحك خفية وهي تشبه نفسها بفارس يقتحم ساحة الوغى بمنجل
لقد ضج الغدير هذا الصباح على غير عادته بصبايا القبيلة ،هاهي سفانة بنت عبيد ترفل في فستان مخملي مطرز بالعقيق وتسير مثل الطاؤوس وكأن أديم الأرض خلق لها وإلى جانبها صويحباتها بنات الأدهم ابن قتادة تاجر العطور والقماش تفوح منهن رائحة المسك والعنبر وتلك بثينة وصاحبتها هند تنسدل ضفائرهما مزينة بأشرطة من الحرير الأحمر. أمعنت النظر خلف التل فلمحت بعض نساء القبيلة يأتين أسرابًا على غير عادتهن. حتى ميمونة الصنهاجية زوجة المنذر تاجر الذهب قد أقبلت ومعها بنتيها. تسمرت العنقاء ثابتة مثل الوتد واتسعت أحداقها حينما علمت سبب هروعهن فقد علمن بمرور عبيد الله بن زهران النجدي. الفارس المغوار الذي لا يشق له غبار وجهبذ الشعر وصفوة شباب نجد وأشرفهم نسبا وأكثرهم كرما ووسامة. كل تمني نفسها بنظرة استحسان أو بيت من الشعر. لكنها أول من رأته وجها لوجه فأصابها ما يصيب الفقير حين يجد الكنز فلا يدري ما يصنع أيبكي فرحا أم يضحك، لكن عينيها ترقرقت بالدمع وأنشدت.
اني لمحته فوق الأغر
يسير الهوينا بوجه القمر
جليلا نقيا كمثل الدرر
ولا مال عندي به افتخر
فتبا لكحلي سليل الفقر
وولت تحث خطاها إلى مضارب القبيلة وفي قلبها تحتدم مشاعر متضاربة من العشق والكراهية ومن الحنق والرضى لكنها سمعته يناشدها قائلا بصوت
يشبه ترانيم البلابل
ما أنقص الليل حسن البدر
ولا أرهقته خيوط المطر
بسمة الطهاري
من حدثتنا بسيمة