عيناكَ هذا المساء، وأنت تلتفت إليّ قائلا:
كنتُ متحمّسا...
عيناك.
يداك كانتا تنزاحان عن المقود، كأنّك في ذاتك كنتَ تعجنُ تمثالي، أيّهما يا ترى كان الأشهى لديك؟ أن تصنعني وتنحتني في خيالك أو أن تراقصني وتقرعَني، في إحدى تلك الخشبات التي سكتَتْ.
نعم لقد أطفأتنا هذه البلاد، أيننا من تلك الحناجر الصّارخة في الزّحام، للبحر وللسّماء وللطّوب ولذرّات الهواء، لقد تعلّمتُ مثلك.. قبلك ثمّ معك ثمّ منك جملتك الموجعة والتي كان بي وقتها أمل ينكرها، ربّما لأنّي كنتُ بجانبك، نقصد وجهة واحدة، وفي قلبينا ينبض شعور واحد...
"ما تتبدّلش، ومشّي رايحة تتبدّل".
إلى هذا المساء، راقب مسافة العمر واحسبها، واذكر لي أنّني إلى هذا المساء ردّدت على نفسي جملتك هذه لأنساك بها، يا شبيه البلاد وأبنائها، يا ابنَها.
كنتَ قد سألتني وقتها: "ألا تفكّرين بالخروج منها؟"
أجبتك: أعشق هذه البلاد، لكن بعد الذي رأيته فيها لن أبقى فيها لحظة واحدة، سأخرج ذات يوم"
غصنا في عيني بعضنا حتّى خشيت أن تسهو عن القيادة، وقلنا معا:
"الجزائر، L'Algerie mon amour"!
كنتَ في كلّ مرّة تسألني هذا السّؤال، أقرأ ما خلفه، الجزء الذي سكتّ عنه. كنتَ تريدني أن أذهب معك، وأنا كنتُ أنتظر فقط أن تقولها لأنّني منذ أحببتُكَ حقائبي مركونة عند الباب.
في النّهاية خرجتَ منها وحدك، وتركتني أتأقلم مع سمائها الخالية من أنفاسك. أشرقت شمسها وغابت إلى هذا الحدّ، وأنت لم تتفقّد قلبك، إذا سقط منه قلبه، لم تسأل روحك إذا كانت نسيَت نفسها في تلك البلاد.
لقد زرت المشايخ والرّقاة، جالست العلماء والجهلاء، أهل العشق والذين لا يعرفونه، العاديّين والمميّزين، الأذكياء والأغبياء، المستشارين والأطبّاء، الأطبّاء النّفسانيّين بالأخصّ، حتّى صرت أفكّر جدّيا بدراسة علم النّفس،... كلّ هذا لأتأكّد من أنّ حدسي وشعوري ليسا وهما، أنت أحببتني، نعم وتحبّني، فقط أنت شخص يمكنه الانفصال عن قلبه واعتاد العيش بعيدا عمّا ومن يحبّه. هي الجزائر هكذا مغلولة للأبد بسلاسل لا يكفي عمرنا – كما لم يكف عمر الذين قبلنا – في أن ندرك أوّلها، علينا أن نتقبّلها هكذا، أرضا خصبة لموتنا، أمّا أحلامنا فعليها أن تحلّق فينا، فقط علينا أن نحمي أنفسنا من الحدود، ما لا يجب أن نسمح به مطلقا هو أن يتمّ تخطيط دواخلنا.
على مقاسي، وربّما على مقاسك أقول لك قد نجوت أن تكون كما تشاء، لكنّك لن تفلح أبدا في أن تكون ما يصلح لك وما خُلقت لأجله، لأنّ الوطن الحقيقيّ ليس تلك التّجارب، وأنت في عمقك تعي ذلك (لكن ليس جيّدا، ليس كما ينبغي)، بحقّ اللّه ألم تسأل نفسك أبدا لماذا عثرت عليّ في الوقت الذي توقّفت فيه عن انتظار أيّ شيء من هذا العالم؟
لأنّني أنا العالم.
لقد كانت مظاهرة عيد الاستقلال (05\07\2019) هي آخر مظاهرة خرجت إليها، احتفلت فيها بالخيبة وعدت إلى البيت حالفة بأنّني لن أؤمن مجدّدا بهذا الشّعب. أنت تعلم قبلي
منذ متى كان الجزائريّون شعبا؟ أليس أغلبهم مجرّد أشياء تثقل كاهل التّراب، وبإرادتهم، أنا لا ألوم الذين ليس بإرادتهم الجهل والغباء والأزمات النّفسية العويصة، مجتمعنا بالغ التّعقيد، إنّه غارق تماما في وحل اليأس والتّعاسة، في أفكار سوداء متراكمة. أحيانا الواحد لا يخرج سليما من مناقشة مع والديه، أو أحد إخوته فما بالك بشعب على مرّ التّاريخ يعاني، تخيّل؟!
إنّه لجنون أن نتوقّع شيئا من أشخاص لا يعرفون لماذا هم في الخارج، حتّى أنا مع الوقت صرت أخرج لمجرّد الصّراخ وتغيير جوّ الكهف الذي كنتُ مدفونة فيه، وبالأكثر لأزغرد وألتقط الصّور، لأنتشر بها على صفحاتي، حتّى تظنّ لمّا تراني أنّي عشت بدونك، أنّني سعيدة وأعيش شبابي، وأنت محاط باللّواتي يعرفن جيّدا كيف تعاش الدّنيا، الدّنيا التي أنا بالذّات لا يعنيني شيء فيها سواك.
كانوا قد تفرّعوا إلى عصابات هم أيضا، حتّى الزّوالية أصبح لهم مسيرة لوحدهم وجهة مخصّصة لهم! النّوفمبري يشتم الدّيسمبري والمدني يشتم الباديسي، وألقاب غير مفهومة نشأت في طيّات هذه الثّورة، كلّ شيء يبدأ موحّدا ويتفرّق لا يُعوّل على اكتماله. لم أردّد من تلك الشّعارات الغريبة شيئا، إلّا لمّا أردتُ أن أتذكّر صوتي، الواحد كان ينسى حتّى صوته في ظلّ اختلاط الأصوات، كنتُ أريد أن أتأكّد من أنّني هنا في نفسي وسأعود إلى البيت بعد قليل.
لقد حصلنا وهذا المهمّ، على كومة صور، خاصّة على الدّراجات النّارية، وكانت الكثير من الممنوعات مباحة في تلك الأيّام، لكن ما دام كان الخطر قد بدأ يلوح لي، كفرتُ بالجمعة واستبدلتُ ساعاتِ التّسكع الصّاخبة تلك بما تعرضه MBC من مسلسلات، وبدأت أصنع الحلويّات والمبسّس في تلك العصريّات، كما بدأت بالتّدحرج نحوك حتّى وأنا ملفوفة بثلج رجل آخر. لقد كنتَ تقترب، تقتربّ جدّا، لهذا كان على كومة الثّلج جدّا أن تتحطّم على صخرة سنة كاملة ونيف فوقها، حتّى أشرع في التّكون من جديد.
...
30\08\2022
من كتاب حقائب السرو