كان الشيخ الشعراوى وما يزال وسيظل أقنومة على مسيرة الدعوة الإسلامية الأزهرية المصرية والعربية على السواء، الشعرواى الذى خاض غمار الأمة ومشاكلها من أبسطها إلى أدقها دون أن يُشعِر الآخرين بصوته أو يحتج مرة لنفسه أو يقول كما قال آخرون معاصرون فيما بعد: هأنذا،
ومخطئ من حاول فهم الشعراوى من خلال كتبه، فقدراته تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، ومصيب من استمع إلى الشعراوى وخاصة فى سنيه الأولى فأرهف السمع وأعمل ذائقته وهو يستمع إليه فى استرسالته حول القرآن أو قضايا الأمة،
فتجد الشيخ وكأنه يسيل رقة وعذوبة وفكرا رائعا يصهل ويمزج ما بين الحاضر والماضى، ذلك لأن الشعراوى كتابيا لا وجود له نسبة إليه شفهيا
وستجد الشعراوى وهو يتحدث بعيدا عن التفسير بالمعنى الأصولى ستجده منطلقا فى لغته فى سلاسة وبراعة لا توصف ولا تقدر بثمن، ذلك لأنه لم يكن ضيفا غريبا على اللغة ولا متحككا بها فى اصطناع مرهق، وإنما هو ذائقة أفرزتها كثير من القراءات المتنوعة والثقافات المختلفة
فتجده فى فكر الفيلسوف وأدب الكاتب وقريحة الشاعر ولا تكاد تجد له مثيلا إذا خرج عن السياق، وانطلق اللهم إلا رجلا لا أعرفه أنا فى المعاصرين بالطبع
أقول ذلك لأننى عندما تحدثت فى الحلقة الأولى بعنوان (ظواهر مصرية دعوية معاصرة عايشتها تستحق التوقف) وقد بدأت بالشيخ محمد حسان، ثم بدا لى أن المقصود بلغة حسان التى نوهت إليها ووصفتها بالرهق والمشقة بدا لى أن الكثيرين لم يستوعبها، وإنما فهموا قصدى على النحو المخالف، وقلت: إن لغته تتحدر كما الصخرة من عل،
ولذا تحدثت هنا عن الشعراوى لأن البعض أساء الفهم ظانا أننى أتهم لغة حسان، وهذا ليس بوارد، وإنما فرقت بين لغتين: متحدرة شاقة ومشقة لصاحبها لأنها لغة من حفظ وعانى على حين غرة، وهى تذكرنا بمدى ضعفنا المعاصر عامة الثقافى واللغوى، وبين لغة سهلة ومنقادة وعذبة كلغة الشعراوى وهى لغة من هضم اللغة فانقادت إليه، لا لغة من انقاد إليها هو على رهق، وهى تذكرنا بمدى ما كانت عليه مصر قبل 23 يوليو من شيوع ثقافى وفكرى عظيم
هناك فارق شاسع سببه الثقافة والتربية الأزهرية التى كانت فيما يبدو قديما جزءا لا يتجزأ من لسان الأزهرى، فضلا عن ثقافة خاصة ومرهفة للشعرواى أتاحته له فترة عصره مزج فيها بين القديم والجديد من التراث الأدبى والدينى معا، وكيف لا وقد كان شاعرا ومعجبا بشوقى وتشرف بمقابلته ذات يوم والنقاش معه، وهذا هو الفارق الشديد بين عالم دين مثقف حقيقى وبين عالم دين أصولى فحسب، أو لا يتقن حتى فن الأصول
لقد ثبت للجميع بما لا يدع مجالا للشك أن رجل الدين أو الداعية عامة كلما تمكن من ثقافة عصره ولغتها كلما كان أوصل للناس وأكثر تأثيرا فيهم، وسوف تجد هذه الظاهرة فى كتابات سيد قطب كلها، وهذا ما جعلها مثار إعجاب المعجبين من الوسطيين والمتطرفين على السواء، فلم يملك هؤلاء كلهم فى الحقيقة أقصد أمثال الشعراوى وسيد قطب وغيرهم إلا سببا رئيسا فى اقتراب الناس من الدين وهو ما أشرت إليه..ثقافة العصر والتراث معا، ولذا لا تكاد تجد لهم اجتهادا خاصا فى الأصول بل ولا ذائقة فى التفسير تفوق الأوائل أو حتى تحاذيهم، ففى هذه النقطة ما ترك الأوائل فى رأيى إلا القليل لمن واتته فرصة وملكة الاجتهاد الدينى الأصولى الحقيقى كالإمام العلامة المعاصر (الطاهر بن عاشور)، والذى ينبغى أن تفرد له سطور طويلة جدا فى الحديث عن فنه فى استيعاب القديم والجديد أيضا، ولو ولد ابن عاشور فى عصر الصوتيات والمرئيات ما أظن أن أحدا كان يجاريه براعة ورشاقة فى الأصول ولا الثقافة الجديدة ولغة العصر
الشعراوى اكتسح بيوتنا كما اكتسح عقولنا دون أن نحس غرقا أو صداما، لذا وصل إلى الناس جميعهم القاصى والدانى..الجاهل والعالم والمثقف، حتى أضحى مثار حديث الأمة العربية والإسلامية كلها، ووضع بصمته على التراث الشفهى المعاصر خاصة وضعا يكاد يكون أدبيا أكثر منه دينيا وفكريا أكثر منه أصوليا،
ولكن ابن عاشور وأمثاله ممن هم أقدم منه بكثير كالباقلانى والجرجانى وغيرهم قد وضعوا الصعب العسير من فن اللغة وعبقرية البلاغة وخاصة الإعجاز القرآنى دون أن يشعر بهم أحد أو يحس، فأين نحن اليوم من كل ذلك؟
بقلم
هشام السيد القن
صباح السبت 21/9/2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق