"موديل" قصة
قصيرة للكاتبة المصرية ليلى حسين قرأتُها مؤخراً في مجلة "الثقافة
الجديدة" "عدد فبراير 2020" وتصدر عن "الهيئة العامة لقصور
الثقافة". وبعد أن تناولتُ القصةَ بالقراءةِ والتأمل وجدتها جديرة بالدراسة
والتحليل والنقد ، بداية من العنوان "موديل" ، وانتهاء بـ "لحظة
التنوير" ومشهد الذل والمهانة لـ "أمينة" إحدى شخصيات القصة.
ومثلما
يصنع معظم شعراء "العالم الافتراضي" في تمردهم على القواعد الفنية وخرق
الضوابط اللغوية كذلك يفعل كتَّابُ ومبدعو القصة القصيرة فلا تكاد تعثر بينهم على
قاصٍ يتقيد بما يرسمه أهل النقد الأدبي من ملامح وما يرسخونه من ضوابط حول هذا
الفن الأدبي شديد الصعوبة. وعلى الرغم من ذلك فلدينا بعض المعايير الأساسية التي
لا يجوز على أية حال التهاون بشأنها سواء أكان هذا التهاون من المبدع أم من
الناقد. ولعل أهم هذه الضوابط والأسس في تقديري أربعة هي: "الصراع
الدرامي" و "لحظة الاكتشاف" و "الحبكة" و "وحدة
الانطباع"..
وهذه الأربع مناط الحكم عندي على العمل القصصي.
غير أن هذا لا يعني ألا يلتفت الناقد إلى عناصر أخرى بالعمل أو أن يغفل عنها
كالحدث واللغة والشخصية وغيرها من عناصر أخرى نتناولها في حينها وموضعها من
الدراسة.
تجري أحداث هذه القصة (موديل) في
واحدة من أرقى بيئات المجتمع وهي البيئة التعليمية الجامعية ، في أكثر وحدات هذه
البيئة رقياً وجمالا وهي _ كما بدى من الأحداث_ كلية الفنون الجميلة ولدي إحساس
قوي _ قد يكون مبعثه قمصان الطلاب وعطورهم_ أن الأحداث جاءت في بدايات السبعينات.
وكما اختارت
الكاتبة موضوع قصتها من الواقع ، اختارت شخوص القصة من الحياة أيضاً ، من داخل
أسوار الجامعة. إنهم أربعون طالبأ منهم أربع طالبات فقط ، ودكتور رمضان الذي
يدرسهم محاضرات الطبيعة الحية ، وعامل الكلية الموديل المحلي ، وأمينة الموديل
الخارجي الأنثوي ، والكاتبة نفسها من شخوص القصة.
وقد
حرصت الكاتبة منذ بداية القصة وحتى نهايتها على عرض شخصياتها واضحة من خلال
الأبعاد الجسمية والاجتماعية والنفسية المختلفة. فالدكتور رمضان أستاذ جامعي
"بهيئتة الغريبة" يتدحرج في مشتيه أمام الطلاب وهو رجل "مكتنز البنية أسمر البشرة"
نظارته سميكة "تبتلع نصف وجهه" ، وهو "صامت دائما" "لا
يبتسم مطلقا".
و"العم
فولى" عامل بسيط في الكلية "داكن البشرة ..هيكل طويل جدا ، نحيل .. عظام
صدره بارزة والشعر الأبيض الناعم يتوج رأسه الذي يشبه كرة البينج بينج". وهو
إنسان شديد الفقر حتى أن "لباسه" مصنوع "من الدمور الرخيص"
و"تتخلله بعض الرقع" فهو يعيش في عوز وحاجة اضطرَّاه إلى أن يجلس شبه
عاريٍ "فى عز البرد" متربعا على الطاولة أمام الطلاب لإعادة إنتاجه من
خلال لوحات فنية تنفصل عن الواقع وتتعالى فوق حقائقه ؛ من أجل "شراء وجبة لا
تتغير فول وفلافل وكوب شاي أسود وسيجارة فرط".
والراوي
، فتاة ، مرحة ، شقية ، تكره الموت منذ طفولتها ، خصبة الخيال.
والزملاء
بالكلية ، مجموعة من "شباب العشرين" على تواصل مع الحراك الفني المحيط
بهم بحكم ثقافتهم وتعليمهم الجامعي ولديهم كشباب اهتمام بمظهرهم وأناقتهم خاصة في
حضرة الجنس اللطيف ، تقول الكاتبة "قال أحدهم ليتها تشبه مارلين منرو أو إحدى
الراقصات الأرمن في الأفلام القديمة....وقد زاد اهتمام كل منهم بهيئته وتهذيب شعره
وسوالفه..والقمصان المشجرة تأججت بالجمال ممتزجة بعطر الياسمين والبنفسج والأربيج
والأبيوم".
والموديل
"أمينة" ، امرأة ، بسيطة الحال ، من قاع المجتمع ، "تمتلك عينين
كاللؤلؤ الأسود تفيضان حزناً..الشفتان فقدتا بريقهما لكن يحتفظان بابتسامة
رضا" ، ألجأها العوز أن تخلع طرحة شعرها و"الجلابية السودا" وتفك
ضفائرها وتعرِّي كامل كتفها الأيسر وترفع قميصها حتى أعلى ساقيها وفي النهاية ، المقابل
، "تلملم من على الطاولة بعض العملات المعدنية تكفي العيش والملح وبعض
الستر"
وقد
جعلت القاصة من نفسها راوٍ للحدث وهذه طريقة محفوفة بالمخاطر تتطلب من صاحبها أعلى
درجات الحياد ومقدرة فائقة على الانفصال التام عن العمل مخافة فرض سلطانه على
الحدث واللغة. وبرغم هذه الخطورة نجد كثيرين من مبدعي القصة المعاصرة يجترؤن عليها
وأكثرهم لا يفلحون.
لقد عرضت
الكاتبة أحداث قصتها من خلال الـ "أنا" السردي ؛ فهي من تعرض الحدث وهي
من تقدم لنا معلومات جزئية وحقائق تفصيلية داخل العمل. ومن ثم بدت وكأنها تعرض
رؤيتها وفلسفتها وذكرياتها من خلال قالب أدبي يجمع بين "المقال" و "القصة"
و"السيرة الذاتية". ثم إن
اعتماد القاصة على "السرد" كتقنية فنية رئيسة
واستخدامها ضمير الأنا السردي جعلها تفرض سلطانها وهيمنتها على هذا العمل.
ولأن الكاتبة اختارت
أن تكون هي الراوي للقصة ؛ فمن الطبيعي أن تأتي لغة العمل انعكاساً كاملاً للكاتبة
نفسها ؛ ومن ثم فاللغة فصحى ، بسيطة وأنيقة ، تخللتها مفردات وتعبيرات معدودات من
العامية المصرية: "الكوبايه - فى عز البرد – الطرحة – الجلابية" جاءت
اضطراراً ومناسبةً.
قصة "موديل" و"رؤية" الكاتبة:
الرؤية
هي البؤرة الفكرية للعمل الفني ؛ فهي تعبر عن مفهوم الكاتب ونظرته للحياة. والمبدع
الحقيقي يبلور رؤىً محددة فيما يقدمه من أعمال فنية. والقاصة ليلى حسين تناولت في
قصتها مشكلتين مجتمعيتين تلميحاً وتصريحا. ففي ذكاء واضح ألمحت الكاتبة إلى شيء من
التخلف المتسرطن في منظومة التعليم الجامعي من خلال إصرار الدكتور رمضان على أن يكون "الموديل فى كل
محاضرة هو تمثال نصفي لبيتهوفن" ، غير أن الاطلاب لم يطل صبرهم ،
و"الزملاء الشباب بدءوا التذمر والتأفف على هذا البيت هوفن الذي لا صلة بينه
وبين الأحياء ولا يمت لأنفاس الطبيعة الحية من بعيد أو قريب" بصلة. ثم إن
القاصَّة مؤمنة حد اليقين بحق الفقراء في عيش كريم _ وهذه القضية هي قوام هذا
العمل الفني الأساس _ لكنها ليست سوى أمنية تتحطم على عتبات واقع مترع بالمذلة والعوز.
وقد جسدت الكاتبة رؤيتها تلك من خلال "الحدث" و"شخصية
الموديل".
حمدي الروبي
ملاحظة هامة:
هذه الدراسة النقدية مقال
مختصر حول قصة"موديل" ، وجميع دراساتي النقدية التي أتابع نشرها على
الإنترنت حاليا هي أجزاء من كتابي الجديد حول "النقد الأدبي المعاصر"
تحت الطبع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق