.post-outer {-webkit-touch-callout:none; -webkit-user-select:none; -khtml-user-select:none; -ms-user-select:none; -moz-user-select:none;}

بحث

سارق النظرات..قصة قصيرة بقلم/ محمد البابلي




عُذرًا أيُّها الحاكي ,, هل وصفتني بسارقِ النظراتِ ؟ حقاً .. أضحكتني يارجل ! قد يكون هذا الوصف أكثر تأنقا من وصفي بـ"متلصص النوافذ". 
أجل,إنها إحدى عاداتى السيئةِ التى أُحبها , يليها التدخينُ , ثم القهوة..وجميعهم يقضى عليَّ ببطء
أعترفُ أننى كنتُ أختلسُ .. أقصدُ أسرق النظرات على حدِّ قولِك , ولكن , كان هذا منذُ زمنٍ بعيد , أكثر من عشرين عاماً , على نفس مقعدى هذا ونفسِ الزاويةِ من البلكون ونفس المشهد ,لا .. ليس نفس المشهد , هو يبدو مثلة ولكنة نيجاتيف , فقط المكان يحتفظ ببصمتة ، هل تعي ما أقصدُ قولَه ، إليك تجربةً بسيطةً أقرِّبُ لك من خلالها وجهةَ نظرى , انظر إلى "اللمبة" المضيئة دون أن ترمش لمدة دقيقة ، ثم أغمض عينيك بشدة , سترى فى ظلمة عينيك بصمة اللمبة مضيئة , لكنها نيجاتيف , لا أقصد بهذا الكلام فلسفة معينة ولكن , هذه هى الحقيقة , أصفها كما أراها , ربما أكون قد بالغت فى رؤيتها بصرا, ولكن صدقنى أراها هكذا ببصيرتي
هيه,, ليس من الأدب الإطالة فى الكلام , لنعود إلى سرقة النظرات .. انظرإلى هذا البيت المواجه لشرفتى وبلكونتى , انظر الى نفس الشرفة والبلكونة المساوية لنفس الدور, هذه هى الخزينة التى كنت أسرق منها النظرات ولا تنفذ وقتها , إنها لأُسرةٍ مكونة من أب وأم وثلاث فتيات تشبهن الزهور , يتفاوتن فى الأعمار قليلاً , ولهنَّ أخٌ لم ولن أره وإلا  كان أول من سيردعنى ويمنعنى متابعة أسرته ، يقال إنه كان جندياً بالجيش وشارك فى حرب "عاصفة الصحراء" ولم يعد , ويبدو أن رحيل هذا الشاب هو الذى كسر هذه العائلة التى لم تكن تكف عن المرح والمناسبات السعيدة والبهجة الغير مصطنعة , لذلك ,, كنت مرابطاً يومياً , طيلةَ الليل أراقبهم خلسة ، ولا أبرح مكاني حتى تغلق نوافذهم عند النوم , وأحيانا ,, لا يغلقون النوافذ ويكتفون بإسدال الستائر صيفاً , وكان هذا مرهقاً جداً لى ,, كنت أظل جالساً لعلى أرى كتفاً عارياً أوساقاً مكشوفةً أوأيًّا مما يرغب فى رؤيته مراهق , وأذهب للنوم عندما أيأس ,, كثيراً ما تمنيت أن أكون واحدًا من تلك الاسرة ولكن , ليس بصفتى أخا لهم , ربما ,, ضيفاً باستطاعتة تقبيلهن جميعاً , هكذا تمنيت ويالأمنيات المراهقين
لن تصدق أننى فى تلك الفترة عرفت كل أشكال الفساتين الخاصة بكل واحدة منهن حتى أمهن , كذلك بيجامات النوم التى يرتدينها وأذواقهن وألوانهن ، وفى بعض الأحيان , عند مناسبة من المناسبات , أرغب فى أن يصل صوتى لهن لأقول لإحداهن ,, ارتدى الفستان الفلانى لأنة الأفضل لتلك المناسبة ، ولكن يمنعنى الخجل فأنا أعلم جيدا بأنى ,, مجرد شخص متطفل يسرق النظرات
أما بالنسبة لاصغرهن فكانت تتصرف وترتدى ما أشاء وكأنها تتبع تعليماتى ربما كان هذا لتقارب السن بيننا , لأنها تَصغرنى بعام أو عامين وفى الحقيقة هى الوحيدة التى كانت تفاجئنى وتوجه عينها نحوى ، وسرعان ما أهرب بعيوني لكوني ,, كما تعلم "خجول" وأتظاهر بأنى منهمك فى متابعة شيء أخر , وتأتى دائما جرافات الحياة لتغذي بنا أرضها البور, ويصر أبى على الانتقال حيث أشار (جحا) وقال (بلدك اللى فيها اكل عيشك) ، ويصر أيضا على بيع الشقة لعدم حاجتنا لها , ولكن, أمى تُصِرُّهي أيضا على الإبقاء عليها بحجة , ربما لانجد الراحة هناك فنعود ، وطبعا وافقتها الرأى!, ربما لا أجد هناك نوافذ !. 
وفى تلك الليلة جلست تحت إنارة البلكون ,, لم أطفئها وكأني ,, أودعهم بوضوح ملامحى ، ولم يلتفت لى منهم غيرصغيرتهم , نظرت إليّ وكأنها تعلم برحيلى , ثم أغلقت النافذة ,, هل تعلم ,, لم أرى تلك النافذة إلا بعد عشرة سنوات , وكأنها لم تفتح من وقتها !, وكأنها كانت تفتح لى أنا فقط , وكأنى نضجت حين فارقت المكان , فلم أبحث عن نوافذ بعدها
مات أبى وجئت أبحث عن ذكراه هنا ، فهناك لا تستجمع أى ذكرى
جئت أبحث عن ذكراه فوجدتني ,, أبحث عن ذكرياتي ولم أجدها !. وأخذني الفضول لأسأل عنهم جاراً كان صاحبا سطحيا لي , فقال
-
 إن الحزن طاردهم بكل قسوة بعد وفاة أخيهم الذى لا أعرفه فى حرب الخليج , وبعده أمه حزنا علية دام عامين , ثم رحل الرجل وبناته ,, ولا نرى إحداهن إلا كل فترة طويلة لدفع فواتيرالمرافق ، وأن اللون الأسود لايفارق ملابسهن حتى بعد زواجهن ، أما بالنسبة للنوافذ فتظل مغلقة حتى إذا تواجدت إحداهن
وعدت من حيث أتيت وأصبحت بين ماضٍ متحطم ومستقبل خاوِ , لاطعم لا لون لا مشاعر ، يصلح لبقاء رجل آليًّ بلا أحاسيس ,, وتفتحت نوافذ أخرى من نوع آخر , شاشات صُنعت لتسرق نظرك ,, كم أحتقرها وأحتقر أسراها , حيث لاحياء للناظر والمنظور ولا أخلاق !,, وأدركت أني ظلمت ( جحا ) أقصد أبى حين نقلنا ؛ فقد أصبحت الدولة بأكملها نيجاتيف خلال عشرة أعوام أخرى . ورحلت أمى لأصبح وحيداً بشكل رسمي ، فأنا وحيداً كنت قبل رحيلهما . وقررت العودة للبصمة الأولى .. أقصد لبيتى القديم ، أجلس ساعات طويلة أنظر إلى نافذة مغلقة , أترقب فتحها ربما يتلاشى النيجاتيف ويعود البوستيف , وبعد يأس دام شهور .. وفى يوم أكرهه كبقية أخوته ، أخرج فى المساء الى البالكون وأنا أرتشف القهوة .. والمفاجأة !  نافذة الغرفة مفتوحة وهناك ضوء خلف الزجاج المغلق , وإذ بسيدة وقفت خلف الزجاج بقميص نومها , ووضعت كفها علية ناظرة نحوي وكأنها تُحيِّنى , أما أنا انتفضت قرون مشاعرى وارتبكت بشدة , وأضأت نور بلكونتى لأُدقق فى ملامحها , عله يساعدنى على ذلك , وأضع قدماً أعلى الكوبيستا وأخرى على الأرض ويداى فى وضع استعداد وكأنى سأقفذ إليها , فابتسمت لتصرفاتى الخرقاء , وأنا عرفتها من ابتسامتها ,, إنها الفتاة الصغرى لقد صارت سيدة رشيدة , وفجأة يظهر فى المشهد رجل ضخم الجثة !,, ولولا ملابسه الداخليه بيضاء لظننت أنه غوريلا أو مارد سكن البيت المهجور!, رأيته يسحبها ويغلق النافذة , من الواضح أنه زوجها , ولكن كيف !!, الفرق بينهما أضخم من جثته العملاقة , وقررت أن أتحدث إليها فى اليوم التالى إذا أتيحت لنا الفرصة ، وجافانى النوم حتى جاءنى كالإغماء ، وكان أول شئ فعلته حين استيقظت هو خروجى إلى البلكون , ولكن عادت الأمور كما كانت عليه والنوافذ مغلقة وكأن ماحدث ومضة أمل فى العودة , وكأنه عودٌ من الكبريت اشتعل فى الظلام ثم انطفأ بمجرد إشتعاله . فارتديت ملابسي لأخرج من القوقعة وأجوب الشوارع المردومة بالأتربة والضجيج الغير مبرر ، ولكن عند آخر درجة من سلم الكهف يفاجئنى البواب برسالة تركتها إحدى السيدات لي ، وأدركت وقتها شيئين ,, أولهما , أن جارتى الحبيبة هى التى تركت الرسالة ، فأنا لا أعرف غيرها الآن فى هذا المكان, والثانى ,, اكتشافى بأن العمارة التى أسكن بها لها بواب جديد يعمل منذ خمس سنوات , ولا أدرى بكم من المال أصبحت مدينا له . وصعدت من حيث نزلت ، وقبل أن افتح باب شقتى قررت فتح المظروف أولاً , ودخلت وأنا أقرأ رسالتها وكان هذا محتواها
-
 عزيزى المتلصِّصُ خلفَ الستائر , اشتقتُ إليكَ وإلى رصاصِ عيونك المتبجحة , لن أسألك عن مدى اشتياقِكَ لى , فلقد بدا عليك هذا حين رأيتنى , أيها الأحمقُ ,, كدتُ أظنُ أنك ستلقى بنفسِك من البلكون حين رأيتنى , ولا أنكرُ أن هذا الشعورَ راودنى عندما رأيتك ، رغم أننا لم نتحدث مطلقا معا ، كما أنني على ثقةٍ بأنك حتى الآن لاتعرف اسمى , إننا نمثلُ الذكريات لبعضنا البعض , ليتكَ لم تغادر ,, وليتني كذلك , ربما بقاؤنا كان سيغيرُ بعضَ المعالم لواقعنا المؤلم
دعنا الآن من ذكريات الألم التى محتها دقيقةٌ واحدةٌ حين التقينا ثانيا , قل لى ,, لماذا لم تتزوج حتى الآن وقد عبرتَ النصفَ الأول من عمرك ؟, وأعلمُ أنك ميسورَ الحال,هل تنتظر إحداهن ؟ , يالوقاحتي , امرأةٌ متزوجة تُـلَمِّحُ لرجلِ أعزب إن كان تمنى زواجها يوما ما !, أرجو المعذرة
أعلم أنك اندهشت عندما رأيت زوجى _خليجي الجنسية_ ، والفارقَ الكبيرَ فى السن واللون والحجم , وأؤكد لك أنه ليس المال ، ولكنْ من أجل الاحتواء الأبوى والتوجيه , وإعمالاً لنظريتى التى تعلمتُها من الحياة , أن أقبحهم شكلاٌ أحنهم قلبا ، ولا تنسَ أنك سببٌ فى ذلك , تسرق من شيءٍ فى الأساس هو لك
عزيزي متلصصُ النوافذ ,, ربما نلتقى يوماً ما , إذا قرر أحدُنا البقاءَ فى دنيا الذكريات فيأتية الآخرُ ,, فأنت الوحيد الباقى لى من ذكريات المكان , وأنت الوحيدُ الذى كانت عيونى تتلصصُ عليه داخل شرفتهِ دون أن يشعر , إلى اللقاء الغير معلوم , (أمل) , هذا هو اسمى الذى لا تعرفه
هكذا تلقيت رسالتها وتأكدت أننى كنت أحمقاً منذ زمن بعيد , حين كنت أسرق النظرات بدلا ًمن أن آخذها كحق أنا أولى الناس به دون الغرباء
وعلى هذا الحال يمرُّ عامٌ كاملٌ وأنا فى نفس مكانى , أنتظر, قررتُ أن أبقى هنا فى دنيا الذكريات كما أشارت , ربما تأتى لتفتح النوافذ من جديد وتضىء الأماكن كلها , البلكونات , أعمدة النور , زينة الأعياد,, ربما تأتى لتزيل الأتربة العالقة على الشيش والزجاج والوجهات وأبواب المحال المغلقة واللافتات القديمة , ربما تأتى لتسقى النباتات التى كادت أن تموت عطشاً على قصارى الشرفات المغلقة , ربما تأتى وتعود معها المعانى الجديدة لأساطير الحواديت المنسية" أُمنا الغولة" نبيلة الاخلاق التى لا تأكل إلا الأشرار, و"الشاطر حسن" الذى يدافع عن "ست الحسن والجمال" من مؤامرات زوجة أبيها ,, و"أبو رجل مسلوخة" الذى لا نذكر منه غير قدمٍ واحدة , وحواديت أبلة فضيلة , لتحكيها لى ,, أقصد لتحكيها لك أيها الحاكى ,, فما أنا إلا ضميرك الذى ينصحك بأن تصلح من الآن نافذة عيونك , حتى لا تراها عندما تعود "نيجاتيف" . 

تمت .. قصة قصيرة لـ / #محمد_البابلي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق