ظلت عائشة تعجن ثم تظيف إلى العجينة كل مرة قليلا من زيت الذرة وتغمس يديها القمحيتين في إناء صغير من الماء وتعود الى العجينة تطوعها حتى تنصاع إليها رطبة لينة الملمس فترش فوقها قليلا من حبات الينسون ثم تشكلها أقراصا صغيرة وترميها وسط الفرن.
أربعون قرصا من الخبز الشهي المحشو بقليل من البصل والبقدونس والهريسة وشريحة من البطاطا المقلية مع الثوم و ربع بيضة مسلوقة ستنفذ رائحته إلى أنوف المارة على "الكورنيش" وسيتسابقون إليها فرادى وجماعات يسدون رمقهم بدينار فقط. وضعت الأقراص وسط سلة من السعف وغطتها بمنديل نظيف ،ثم أسدلت فوق فستانها الأسود نقابا فلم يبد منها غير عينيها اللوزيتين تبرقان فطنة وجمالا.
لن يتعرف إليها أحد من أقاربها ولا جيرانها أو أصدقاء الجامعة فملامحها مطموسة خلف النقاب وستغير من نبرة صوتها الرخيم ككل مرة يقترب منها زبون من معارفها،فيصير صوتها أجش وستظخم الألف والكاف وهي تقول له: "كعبتين بألفين".. المهم هو أن تجني مالا حلالا ولو كان قليلا يساعدها على رعاية طفلها اليتيم دون أن تمد يدها أو تقبل بلقمة باردة مغموسة بالمن.
ٱه يا عائشة كم قست عليك الأيام بعد رحيل زوجك وكم صرت مطمعا لكل من هب ودب وهاهو طفلك يكبر أمام عينيك وعلى وجهه ملامح باهتة ينقصها توهج الأطفال ،يحمل عاهة غريبة لا دواء لها سوى الصبر وقد صارت العاهة عاهتك فجعلت منك امرأة جبارة لا تغلب فكل ذي عاهة جبار.
لا أحد اقترب منها اليوم منجذبا لرائحة الخبز الطازج مثل أمس،قالت في سرها وهي تهدأ من روعها: كل يوم ورزقه
وظلت الى مابعد العصر تقلب عينبها بالمارة من خلف نقابها وتتفرس في الوجوه السعيدة المترفة وتعد أساور الذهب في معاصم النساء ثم قامت متثاقلة لتعود بسلتها الى البيت ولم تبع منها غير أربع اقراص.
كانت تردد بعض الأدعية وهي تسير ثم تخاطب ربها متلطفة: ربي إني نويت الحلال وعشقته فارزقني حلالا وبارك لي فيه.
ثم تفر من مٱقيها دمعة ساخنة وهي تتذكر محاولاتها الكثيرة في كسب اللقمة الحلال وكيف طردت مرارا من مكاتب المحامين والأطباء وبعض الشركات الصغيرة وهي ترفض التحرش والمساومة على كرامتها وشرفها.لكن لا بأس قالت وهي تمسح دموعها : سأعود غدا عند الصباح وأصنع فطائر لذيذة ستروق لهم.
كانت منهكة جدا لكنها هرولت مسرعة نحو البيت إذ عليها أن تأخذ ابنها من الحضانة قبل الساعة الخامسة وفجأة لمحته في سيارته الفارهة وسط زحمة الطريق وتلاقت الأعين للحظات.
،ليتها لم ترفع النقاب ولم يتعرف إليها ، إنه جار قديم أحدب متزوج وله بنت في عمر ولدها وقد لاحقها مرارا وتكرارا لكنها كانت تنفر منه دوما لأسباب لا تعلم كنهها. وقد أوقف سيارته وطلب منها بلطف أن يقلها فركبت بحذر شديد وجلست متململة وشعرت بعينيه تطوفات بفستانها الأسود الباهت الذي يشي بسرها وفقرها.
عند الوصول إلى منزلها إنعطف قليلا على الطريق ونزل
بخفة جالسا تحت قدميها ثم قبل حذاءها وهي مذهولة ومافتئت تردد: عيب ،لا لا مايصيرش..
ثم استوى واقفا وقال لها : اقسم بالله أنني أحبك وأنني مستعد أن أقدم لك الملايين ،فقط أريد ان أراك سعيدة.
تفرست بملامحه برهة وهي صامتة وكأنها تستنجد بقليها الذي لا يخطئ ابدا في تقييم البشر ،إنه الصديق الصدوق الذي لا يغشها وهي تتبعه دوما وكأنه الحدس الذي لا بخطئ والبصيرة التي لا تعمى وقد حدثها سريعا بأن وراء هذا الرجل شر وفتنة فرأته بعينى قلبها رجلا يحمل رأس ذئب بأنياب حادة...
أنقذها من صمتها قائلا : أميرتي أنا مجنون بك
فقالت له بهدوء : سنتحدث لاحقا ،علي العودة الٱن .
عادت الى منزلها مرفوعة الهامة وألقت نظرة خاطفة على وجهها المستدير فلمحت به نورا وسكينة ، نزعت عنها حذاءها المثقوب ورمته بعيدا وكأنها تامره ان يصمت ويحمل ذله وقبحه بعيدا عنها ثم تحسست بطنها وسمعت لها عصافيرا تزقزق من شدة الجوع فقامت إلى خبز السلة تأكله بنهم شديد وهي تتخيل قطع البطاطا شرائح من لحم مشوي ..
إن المرأة الحقيقية تفر بعيدا وبكل ما أوتيت من قوة حتى لا يمس رجلا شعرة من خصلاتها ،إن الحرة تمقت أن تباع وتشترى ولو بسطت أمامها كنوز الدنيا وربما إستسلمت في لحظة أمان واحدة شعرت فيها أنها بحجم كنوز الدنيا يقلب
رجل عشقته.
الهي ماهذا الفقر؟
ماكل هذه العراقيل التي تحول دوني ودون رزقي؟
إن طعم الفقر مر مثل العلقم لكنه يلسع الروح قبل اللسان ومرارته لا تؤذي الحلق لكنها تسمم أوردة القلب المسكين.
كانت تدعو في جوف الليل وهي ممدة فوق فراشها تطلب النوم فلا يأتي إذ قصمت ظهرها الديون وعلبها ان تسدد إيجار البيت وثمن الحضانة وتوفر دواء طفلها حتى رن هاتفها عن رسالة مريحة كانت بمثابة بصيص من نور وسط دهليز قاتم.
كتب لها : السلام عليكم أخيتي يا عائشة
فردت : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته اخي الكريم عبد الله
وجدت نفسها تتحدث عن نفسها وطفلها وألمها وخوفها وضعفها الذي أخفته سنوات طويلة.
قال لها : كوني فقط بخير ، أريدها خالصة لوجه الله ،لا رياء فيها ولا طمع ولا تجمل.
فأجابته : أخي الغالي , أعدك بأن لا أوقعك في شراك عيني وأن أحميك مني ومن نفسك فأنت غير كل الرجال يوسفي الروح والمحيا وسأقوى على ما عجزت عنه زليخة فأجتث العشق إن داهمني يوما من سويداء القلب فأدفنه حيا ،وأعاهدك أمام الله أن أظل طاهرة ،قوية ،متماسكة وان كنت بمهب ريح صرصر سأتناسى أنني القشة وسأثبث مثل زيتونة مباركة أصلها بالأرض وفروعها بالسماء..
وقد.ظل عبد الله يعطي ويعطي دون مقابل ،كلما بكت أعطاها وكلما مرض الطفل أو كسر وكلما اشتهت سمكا أو لحما أو تاقت نفسها لفستان أو لعطر فاخر،وكانت تأخذ بسعادة وبحذر وهي ترقب لحيته السوداء الجميلة وثغره الجميل وهو يتحدث وتطرد وجهه الوسيم شر طردة كلما داهمها في المنام فقد قطعت عهدا لن تخونه.
وذات يوم قررت أن تستقل مثل دويلة صغيرة متاخمة لمملكة غنية بخيراتها ،أرادت أن يكون لها حر مالها وتكون يدا عليا مثل يده تعطي وترحم وتتصدق فتشاركا في مشروع صغير لتربية الدجاج البلدي وقال لها ممازحا: خذي نصف الأرباح واعطي إبنك الجميل عشرون بالماءة وتصدقي بعشر للفقراء وتكفيني عشرة فأنا لست طماعا.
إن الكريم إذا أعطى أزجل العطاء وترفع عن الغرور وعن الطمع أما الخسيس ڤإن أعطى بحث عن المقابل وانتظر المدح وطمع في ماء وجهك.
لقد قررت ان تنجح المشروع لأجل عينيه ولأجلها،فهي تريد ان تستقل مثل دويلة صغيرة رغم أن تبعيتها له لذيذة حافظة لكرامتها،صارت تمنح الدجاجات عطفها وحبها فتطعمهن بحنو وكأنها تطعم عبد الله ،وعم الخير وتكاثرن فباتت تخفبهن عن أعين الناس خوفا من الحسد فما احتاجت ولا جاعت يطالعها ريشهن الملون كل صباح ويقتحمن عليها المكان باحثات عنها،
لقد صرن صوبحباتها ووجه الخير والسعد عليها إلى أن أفاق الحظ التعيس من سباته وأبى إلا أن يطرق زجاج مملكتها بيد من رصاص.فقد أفاقت عائشة مولولة ،باكية حتى تحشرج صوتها وهي تردد : الحمد لله ،الحمد لله
عشر دجاجات أخر يمتن اليوم بنفس الطريقة المبهمة بالأمس فقط كن ينقرن حبات القمح ويقاقين.
وعند الغد وجدت دجاجاتها مضرجات بالدماء فركضت بشجاعة وراء الكلاب السائبة عكس المرة الأخرى ونسيت خوفها المتأصل منها ،لاحقتهم مهرولة متعثرة في فستانها وهي تكيل لهم الشتائم ثم عادت بعد أن هربوا تتفقد دجاجاتها ، فوجدت ثلاث منهن بالكاد يتحركن ، أمسكت بدجاجتها الحمراء من نوع الرود تلك الدجاجة البيوض صاحبة البيض الكبير المشوب بالاحمرار لطالما اقتربت منها وأمنت بحضورها وغرست منقارها في الصحن تريد ان تشاركها طعامها ، ثم نظرت الى الدجاجتين الصغيرتين وقد فارقنا الحياة ، حمدت الله سرا وقامت متثاقلة تحتدم بصدرها مشاعر حزينة ساخطة.
ظلت الايام تمضي بنفس الوتيرة فيموت الدجاج تباعا وهي تحاول جاهدة إنقاذه حتى صارت الأقفاص شبه خاوية سوى من بعض الديكة و الكتاكيت .
ظل الطفل يرفس الأرض بساقيه غضبا ثم يطلق عقيرته بالصياح ،يطلب الحلوى والطعام بنفس النهم وبنفس الطريقة المعهودة ويظل يدور حول نفسه مرارا قبل أن ينهال عليها ضربا، فهو لم يتناول دواء الأعصاب منذ يومين.
إلتقطت إبنها بكل قوة وأخذته عنوة الى الحضانة وقد إستقبلها وجه المديرة مقطبا به لوم كثير وكأنها تدين لها بمليون دينار ثم عادت فتأنقت وتعطرت وسرحت شعرها الفاحم وأخرست كل الضجيج الذي يحتدم داخلها وصفعت عقلها وقلبها صفعات قوية متتالية حتى أسكتتهم وهم ضميرها ان يتكلم لكنها صاحت به: إخرس أيها المغفل الأبله .
قررت ان تسير إلى الأحدب غدا كتمثال من شمع ،بارد فتكون له لقمة سائغة ، سيحدثها كثيرا عن هذا العالم الثالث الرازح تحت براثن الفقر والجهل والعجز وسوء الحظ وعن نساء ذكيات حققن المجد ولم يكن لهن ربع حسنها.
ستخون عهد عبد الله وتلتحق بركب نساء كثر على هذا الكوكب قاومن شياطين الإنس والجان حتى ٱخر رمق هي لم تكن سوى قشة صغيرة في مهب ريح صرصر ،خيل لها ذات وهم أنها زيتونة مباركة أصلها في الأرض وفروعها في السماء.
لقد خانت العهد عائشة