هل رأيت يومًا شعبًا يقدّم مسيئيه في الصدارة؟ هل شاهدت وطنًا يُختزل اسمه وتاريخه في سلوكيات مبتذلة وألفاظ خادشة تنتشر عبر شاشات الهواتف ووسائل التواصل؟ كيف أصبح "أبو ذيل" و"أبو شبيكة" و"أبو حلق" رموزًا يتابعهم الملايين ويتخذهم الشباب قدوة؟ وهل حقًا تستحق مصر بتاريخها العظيم وحضارتها العريقة أن تُختزل في صورة مُشينة يصدرها من لا يعرفون قيمة الوطن ولا معنى القدوة؟ وهل سألنا أنفسنا يومًا، هل هناك شعب آخر يفعل مثلنا، يتهافت على تتبع من يهين صورته، ويمنحه الشهرة والضوء والمساحة ليعبث باسم الوطن وكرامته على الملأ؟
الحقيقة المؤلمة أن ما يحدث على الساحة لم يعد مجرد تصرفات فردية شاردة، بل ظاهرة مستفحلة باتت تهدد الذوق العام، وتمتد آثارها إلى أعماق بنية المجتمع وقيمه. الهجوم على "نمبر وان" وأمثاله لم يكن يومًا بدافع شخصي أو رغبة في الهدم، بل لأنه يمثل ظاهرة خطيرة تتجاوز شخصه إلى فكرة قدوة زائفة تتصدر المشهد، تُصدّر ألفاظًا خادشة، وسلوكًا مبتذلًا، وصورة تسيء لقيم المجتمع، حتى أصبح المشهد مكتظًا بصور أشد بذاءة، يتزاحم فيها "أبو ذيل" و"أبو شبيكة" و"أبو حلق"، ممن يتباهون بسلوكيات غريبة ومنفرة لا تمت لهوية مصر الحقيقية بصلة. والمؤسف أن هذه النماذج باتت تحظى بمتابعة الملايين، فتؤثر في وعي الشباب وقيمهم، وتفسد الذوق العام.
الأخطر من ذلك أن هذه الصورة لا تتوقف عند حدود الداخل، بل تخرج إلى الخارج، فتُصدّر عن مصر وأهلها صورة سطحية مشوّهة لا تعبر عن تاريخ البلد ولا عن حضارته. ولم يقف الأمر عند الألفاظ والسلوكيات فقط، بل وصل حد إهانة علم مصر واسم مصر ذاته، سواء بتصرفات مباشرة أو بمظاهر مبتذلة ترفع العلم في مشاهد مخجلة لا تليق برمز وطني له قدسيته ومكانته. وما كان يجب أن يُمس علم مصر في أي مشهد هابط أو محتوى سوقي، لأنه رمز لوطن ضحّى من أجله الرجال وسالت من أجله دماء الشهداء. حين يُرفع العلم في يد من يسيء ولا يدرك قدسية الرمز، تصبح الإهانة مزدوجة: إهانة للوطن، وللشعب، ولتاريخ طويل من الكفاح والكرامة.
وهذه الظاهرة لم تعد تقتصر على الحفلات والمهرجانات والمشاهد المسرحية أو شاشات الفضائيات، بل بلغت ذروتها عبر تطبيقات مثل "تيك توك"، ذلك الفضاء المفتوح الذي تحول من منصة ترفيهية إلى ساحة فوضى أخلاقية، تتصدر فيها مشاهد العري المقنّع، والإيحاءات الرخيصة، والمحتويات التي تُهين الذوق وتنسف القيم. لقد أصبح "الترند" هدفًا في ذاته، حتى وإن كان على حساب الكرامة والعقل والضمير، بل على حساب الوطن أيضًا. لا معيار يعلو فوق عدد المشاهدات، ولا قيمة تُحترم أمام سطوة "الإعجابات"، فكل شيء مباح ما دام يُثير الفضول ويجذب التفاعل.
يتسابق البعض على تقديم أسوأ ما فيهم من أجل لحظة شهرة زائفة، يتحول فيها الشخص من مجرد فرد عادي إلى "مؤثر" تتلقفه وسائل الإعلام، وتتبناه الشركات، ويتابعه ملايين، بينما رسالته الوحيدة هي تقديم صورة هابطة عن نفسه، وعن وطنه من حيث لا يدري. الخطورة هنا لا تكمن فقط في ضياع المعايير، بل في الأثر العميق الذي تتركه هذه المشاهد في نفوس الأجيال الصغيرة، التي تتلقى هذه الرسائل كأنها النموذج الأعلى، وتظن أن هذا هو الطريق المختصر للنجاح والقبول.
إن ما يجري على تيك توك ليس مجرد تسلية أو حريات شخصية كما يروّج البعض، بل هو معركة على الهوية، واعتداء ناعم على القيم، وتزييف ممنهج لصورة مصر وشعبها، حيث يغيب صوت العقول الواعية، ويعلو ضجيج التفاهة، ويُختزل المجتمع في رقصة مبتذلة أو نكتة خادشة أو مظهر شاذ. بل إن الأدهى أن تيك توك أصبح مصدر دخل، فيُكافأ فيه من يُسيء ويُشهّر، ويُهمَّش فيه من يُفكر ويبدع. بينما الشعوب الواعية تعرف أن احترام قيمة الوطن واجب وطني مقدس، وتدرك أن الكلمة والصورة والسلوك في الفضاء العام مسؤولية لا عبث فيها.
هل رأيت يومًا شعبًا آخر يفعل ذلك؟ هل توجد دولة في العالم تجعل من المسيئين والمتجاوزين والمتنطعين قادة للرأي وصانعين للترند؟ هل هناك من يسمح بأن يصبح من يتاجرون بالابتذال هم المتحدثون باسم شعبهم وبلدهم؟ المؤكد أن الشعوب الحية تحافظ على صورتها، وتحمي رموزها، وتمنع أن يتحدث باسمها من يسيء أو يشوه. وحين تسكت المجتمعات على العبث، فإنها تشارك فيه ضمنًا. ونحن اليوم أمام مشهد عبثي تتصدره وجوه لا علاقة لها بمصر الحقيقية، مصر العريقة، مصر التي صنعت التاريخ والفن والعلم والثقافة.
لقد آن الأوان أن نستفيق. آن لهذا العبث أن يُكبح، وأن تعود القيمة للقدوة الحقيقية، والصورة المشرفة، والكلمة التي تبني ولا تهدم. مصر أكبر من "نمبر وان"، وأطهر من "أبو شبيكة"، وأكرم من أن يمثّلها من يبيعون الحياء في سوق الرخيص. إن استمرار هذا المشهد ليس مجرد خلل عابر، بل جريمة مكتملة الأركان في حق الوطن، قبل أن تكون جريمة في حق الأجيال القادمة. والتاريخ لا يرحم من يتخاذل، فإما أن نكتب تاريخنا بما يليق، أو يُكتب عنا ما لا يليق. والله من وراء القصد.