تدريج الرسوم القضائية..مقال بقلم الدكتور/ أشرف نجيب الدريني

هل يمكن الحديث عن عدالة حقيقية إذا كان الوصول إلى القضاء مرهونًا بالقدرة المالية؟! وهل تُعد الرسوم القضائية مجرد أداة لتنظيم التقاضي، أم أنها قد تتحول إلى عائق يحرم الأفراد من المطالبة بحقوقهم؟ وإذا كانت الدولة هي الضامنة للعدالة، فإلى أي مدى يُمكن أن تفرض رسومًا تُثقل كاهل المجني عليهم، فتجعل التقاضي امتيازًا لمن يستطيع تحمل تكلفته، بدلًا من أن يكون حقًا مكفولًا للجميع؟!

ارتفاع الرسوم القضائية قد يُفرغ الحق في التقاضي من مضمونه الحقيقي، إذ قد يجد الأفراد، خصوصًا من ذوي الدخل المحدود، أنفسهم أمام خيارين كلاهما مر: إما تحمل أعباء مالية لا طاقة لهم بها، أو التنازل عن حقهم في اللجوء إلى القضاء. وبهذا، لا يُصبح التقاضي وسيلة لإنصاف المظلومين، بل يتحول إلى عملية انتقائية لا يستفيد منها سوى القادرين ماليًا، مما يُهدد أحد أهم ركائز الدولة القانونية، وهو مبدأ المساواة أمام القانون. وإذا كان الدستور والتشريعات الحديثة يقرّان هذا الحق، فإن الشريعة الإسلامية كانت سبّاقة في تأكيده، حيث جعل الإسلام التقاضي حقًا مكفولًا للجميع دون تمييز، إذ يقول الله تعالى: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" (النساء: 58)، كما أن النبي ﷺ أقام العدل بين الناس دون النظر إلى مكانتهم الاجتماعية أو قدراتهم المالية.
لم يكتف الإسلام بإقرار هذا المبدأ نظريًا، بل أرسى قواعد تضمن تحقيقه عمليًا، حيث لم يكن اللجوء إلى القضاء مرهونًا برسوم تثقل كاهل المتقاضين، بل كان ولي الأمر مسؤولًا عن تيسير وصول الناس إلى العدالة، وهو ما تجلى في نظام "ديوان المظالم" الذي أنشأه الخلفاء لضمان حق كل فرد في التقاضي. ومن هذا المنطلق، فإن فرض رسوم موحدة على الجميع دون مراعاة أوضاعهم المالية قد يتعارض مع جوهر العدالة، إذ لا يمكن المساواة بين غني يستطيع تحمل التكلفة وفقير قد تمنعه هذه الأعباء من المطالبة بحقه. وهنا يبرز التساؤل: كيف يمكن تحقيق التوازن بين الحاجة إلى تمويل مرفق القضاء وضمان عدم تحول الرسوم إلى عقبة أمام العدالة؟
بالتالي، يظل تحقيق هذا التوازن ضرورة ملحة، خاصة في ظل التفاوتات الاقتصادية التي تجعل بعض الأفراد عاجزين عن تحمل حتى أبسط التكاليف المرتبطة بالتقاضي. ومن هنا، يمكن تقديم مقترح يقضي بتدريج الرسوم القضائية وفقًا لقدرة المجني عليه المالية، بحيث لا تُفرض الرسوم بشكل موحد على جميع المتقاضين، وإنما يتم تحديدها بما يتناسب مع الوضع الاقتصادي لكل فرد. فمن غير المنطقي أن يخضع الفقير والغني للعبء المالي ذاته عند اللجوء إلى القضاء، لا سيما في القضايا التي يكون فيها المجني عليه هو الطرف الأضعف، مثل قضايا التعويض عن الأضرار الجسيمة أو القضايا العمالية أو الأسرية.
ولتطبيق هذا النظام بعدالة، يمكن اعتماد آلية تقوم على تقييم الوضع المالي للمجني عليه من خلال معايير واضحة، مثل الدخل الشهري، الممتلكات، أو الاستفادة من برامج الرعاية الاجتماعية، على أن يتم هذا التقييم ضمن إجراءات سريعة وشفافة لا تعرقل سير التقاضي. ولا يعني هذا المقترح الإعفاء التام من الرسوم، بل يقوم على مبدأ العدالة النسبية، حيث يتم تصنيف المتقاضين وفقًا لقدرتهم المالية، بحيث يُعفى غير القادرين تمامًا، فيما يتم تخفيض الرسوم لمن هم في فئة الدخل المتوسط، بينما يتحمل القادرون كامل الرسوم، وقد يساهمون بنسب أعلى في بعض الحالات.
وبهذه الآلية، يُصبح النظام القضائي أكثر إنصافًا، إذ لا يُحرم أي شخص من حقه في اللجوء إلى العدالة بسبب عدم قدرته المالية، وفي الوقت نفسه لا يتضرر تمويل المرفق القضائي، بل يُعاد توزيعه بطريقة أكثر عدالة تضمن استدامته. كما أن تطبيق هذا المقترح يعزز ثقة المواطنين في النظام القضائي، فعندما يدرك الأفراد أن العدالة ليست مشروطة بقدرتهم المالية، بل متاحة للجميع وفقًا لمبدأ الإنصاف، فإن ذلك يؤدي إلى تقليل حالات العزوف عن التقاضي بدافع الخوف من الأعباء المالية، ويمنع لجوء البعض إلى وسائل غير قانونية لحل نزاعاتهم.
ورغم وجاهة هذا المقترح، إلا أنه قد يواجه بعض التحديات، مثل احتمالية إساءة استخدامه من قبل بعض الأفراد الذين قد يقدمون بيانات غير دقيقة حول أوضاعهم المالية للحصول على إعفاءات غير مستحقة. ولهذا، فإن نجاح هذا النظام مرهون بوضع آلية رقابية صارمة تضمن دقة المعلومات المقدمة، مع فرض عقوبات رادعة على أي محاولة للتحايل. كما أن التطبيق الإداري لهذا المقترح قد يستلزم إنشاء بنية تنظيمية جديدة داخل المحاكم، وهو ما قد يواجه عقبات لوجستية ومالية في البداية، لكنه على المدى الطويل سيؤدي إلى نظام أكثر استدامة وعدالة.
العدالة لا تُقاس فقط بوجود قوانين عادلة، بل بمدى إمكانية الوصول إليها دون عراقيل غير مبررة. ومن هنا، فإن تبني نظام تدريج الرسوم وفقًا لقدرة المجني عليه لا يُمثل مجرد تعديل في الإجراءات، بل هو إعادة صياغة لفلسفة التقاضي نفسها، بحيث يصبح القضاء أداة حقيقية لإنصاف المظلومين، وليس مجرد مرفق يُدار وفق منطق الرسوم الثابتة التي قد تحرم الأضعف من حقه في اللجوء إليه. وهذا التوجه ليس فقط ضرورة قانونية، بل هو تطبيق عملي للمبادئ الإسلامية التي جعلت العدل جوهر الحكم، وأكدت على أن التقاضي يجب أن يكون متاحًا للجميع دون تمييز أو عراقيل مالية تحول دون الوصول إلى الحقوق المشروعة. والله من وراء القصد.
تعليقات