.post-outer {-webkit-touch-callout:none; -webkit-user-select:none; -khtml-user-select:none; -ms-user-select:none; -moz-user-select:none;}

بحث

من"عشقته متوحدا"..بسمة الطهاري

ظلت صديقتها الصدوق الكتوم معلقة على نفس الجدار لسنوات، مستديرة ،لامعة ،مزخرفة الأطراف بخطوط دقيقة مذهبة تحيطها بعض لوحات زيتية بريشتها عليها جنائن من الورد ومشاهد للشمس وهي تتمطى هنيهة ماقبل الغروب بلون وردي مضرج بالحمرة مثل صبية خجلى ، إقتربت من صديقتها برشاقة ورمت لها قبلة سريعة وابتسمت لها وكأنما تستدرجها للبوح بصدق فقابلتها بخدين مثل تفاح شهي وأسرت لها : لازلت جميلة ولم يتغير شيء ،غير ...ثم تلعثمت بالحديث فأومأت لها أن تواصل البوح بلاخوف فلا شيء سيخيف امرأة تحمل كل الجمال في جراب الروح

قالت لها بصوت مترفق : يا جميلتي وصديقتي التي لن اقوى على غشها ،إنك لا تزالين جميلة لكن ذلك الخط البغيض الذي إرتسم فوق جبينك رأيته اليوم واضحا فلاشك أنه تطاول على حسنك في غفلة منك ،وتلك الهالات الخفيفة حول عبنيك رأيتها اليوم اكثر قتامة فربما تطاولت على حسنك في غياب النوم والراحة.
فرفعت يدها تتحسس جبينها وطافت بعينيها تتحسس ما حولهما بأصابع طويلة رشيقة ثم ابتسمت لمرٱتها الصدوق ابتسامة جميلة وقالت لها : انتظريني قليلا ،سأعود..
وأقبلت وبيدها القليل من بودرة فاتحة وضعتها بلطف حول عينيها ثم داهمتهما بكحل عربي من الإثمد ومررت القليل إلى جبينها حتى اختفى الخط اللعين وغادر على استحياء ،عندها قهقهت ورمت إلى مرٱتها قبلات متتالية قائلة: كم أكن المحبة والتقدير لمخترع المساحيق ،فهو على الأرجح رجل طيب عادل كريم لم يسمح أن تستحوذ بعض الإناث بغطرسة على الجمال بينما تنكسر قلوب الأخريات ،فلاشك أنهن سواسية في الإشراق فقد فهم هذا الرجل اللعبة وولج إلى عقر دار قلوب الرجال وما يخامر عقولهم من حمق في حضرة الجمال فأقسم ثلاثا أن عاشق الجمال أحمق،أحمق ،أحمق...
إن الجمال هو الروح التي لا تشيخ ولا تتغير ولا تهرم ولا يتلاشى جمالها أبدا وهذا السر لم يدركه سوى قليل من الرجال لعل منهم مخترع المساحيق نفسه وبعضا من أصحابه وقليلا من فلاسفة الأنوار وبعض المؤمنين.
بينما كانت تبتسم وتترشف قهوتها وتشرد بخيالها إلى ما وراء ٱخر نقطة من تلك البنايات الشاهقة قبالة شرفتها أحكم أبنها امير قبضته عليها وعانقها بشغف وهو يتطلع إلى وجهها ويردد كلمات غير مفهومة ..
ددداا ديي دي دي....
ربما قال لها بلغته المتفردة أحبك ماما فقد ارتسمت غمازته الجميلة وهو يرنو إلى ملامحها كما يرنو العاشق المتيم إلى محبوبته فعانقته وشبكت أصابعها بأصابعه وراقصته بخفة وهو يقلدها وينساب من بين يديها بلطف ثم يعود إليها بينما تنبعث من التلفاز موسيقى هادئة مع صوت فريد الاطرش : قلبي ومفتاحو دول ملك ايديك في مساه وصباحو بيسألني عليك ...
إن المرٱة تبتسم كلما إقتربا منها وجنائن الورد تتفتح فوق الجدران زاهية وبعض من الملائكة تطوف بهما فالمحبة خالصة لا ريب فيها وهذه اللحظة السعيدة بين الأم وابنها لا خوف فيها من الماضي والحاضر والمستقبل..
فجأة يقطع هدوء اللحظة صوت بائع المثلجات وهو ينفخ في صفارته العجيبة ذات الصوت المعهود الذي يطرب له الصغار و يجذب انتباههم كلما سمعوه فترفرف قلوبهم الصغيرة فرحا متسابقين إليه ليختاروا من بين الألوان الزاهية مذاقا لذيذا لمثلجاتهم ،فيلتفت إبنها يمنة ويسرة ويفلت من بين يديها واضعا كفيه فوق أذنيه في حركة متكررة وهو يصرخ صراخا قوياً وكأنه يستغيث ويترجى البائع أن يكف عن التصفير ،لكن البائع لا يكف عن ذلك بل يصير تصفيره أقوى مع أسراب الأطفال القادمة نحوه..
صار طفلها ينتفض وكأن به مسا ثم يضرب الجدار بقبضته مرارا فتتشظى الشمس ويصير شكل الغروب مثل حرب غاشمة ،صارت أمه تطوف حوله وتحدثه بلطف تحاول تهدئته لكنه لا يستجيب إليها بل يدفعها عنه بقوة وهو يصرخ حتى أحمر وجهه وجحظت عيناه واختفى بريقهما وخبا الحب فيهما فصار مثل عدو لا يضمر غير الدمار.
إن ردات فعل الطفل المصاب بالتوحد تجاه الحواس شديدة أو ضعيفة جداً. فهو قد ينزعج بشدة من ملمس أو روائح أو مذاقات معينة قد يجدها الٱخرون عادية وكذلك الأمر مع الأصوات فقد يتجاهل بعضها في حين تزعجه أصوات أخرى بشكل شديد مثل صرير الأبواب وصفارات سيارات الإسعاف وصوت المكنسة الكهربائية فما تراها أنت اصواتا عادية قد يسمعها الطفل المتوحد مثل قعقعة سيوف وسط حرب ضروس فتراه ينط بخفة هنا وهناك مثل المحارب وهو على أهبة الدفاع عن نفسه رغم كل ما يحاصره من خوف ،وقد ظلت الأم تبتسم رغما عنها وتنط معه وكأنها تبارزه وتردد ضاحكة : أمط لثامك يا ابن الوهاج
إنها تمازحه وتقهقه ليهدأ لكن قلبها يبكي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق