"
قررت فرنسا إعادة سفيرها ؛ لذا سيعود مع عددٍ من الدبلوماسيين إلى فرنسا في
الساعات المقبلة ، وسننهي
تعاوننا العسكري مع سلطات الأمر الواقع في النيجر لأنها لم تعد ترغب في مكافحة الإرهاب
، سيتم تنظيم عودة جيشنا في الأسابيع المقبلة ،
لسنا هنا للمشاركة في الحياة السياسية أو نكون رهائن بطريقة ما للانقلابين
، سيعود أفراد قواتنا بطريقة منظمة في الأسابيع والأشهر المقبلة وسنتشاور مع
الانقلابين لأننا نريد أن يحدث ذلك سلميا ، سيعودون بنهاية العام".
كانت هذه تصريحات الرئيس الفرنسي
"ماكرون" في مقابلة تلفزيونية عبر القناتين الأولى والثانية ، حيث تحدث
وهو في كامل أناقته مخفيا إحساسه بمرارة الهزيمة الثالثة في القارة السمراء.
وجاءت تصريحات ماكرون كنتيجة انهزامية طبيعية
لتطورات الأحداث المتسارعة في النيجر وبعد ساعات من قرار المجلس العسكري في النيجر
بمنع الطائرات الفرنسية من التحليق في أجواء البلاد وإغلاق مجال النيجر الجوي بوجه
فرنسا ، وذلك بحسب بيان صدر عن هيئة الطيران المدني في النيجر نًشر الأحد على موقع
وكالة الامن والملاحة الجوية في افريقيا ، حيث أوردت الرسالة أن المجال الجوي
للنيجر مفتوح أمام جميع الرحلات التجارية الوطنية والدولية باستثناء الطائرات
الفرنسية أو الطائرات التي تستأجرها فرنسا وبينها طائرات أسطول شركة الخطوط الجوية
الفرنسية.
لم يكن القرار الفرنسي اختياريا ولكنه في
الحقيقة استسلام لأمر واقع فرض نفسه بقوة ليست فقط قوة السلاح متمثلة في المجلس
العسكري بل أيضا قوة الرفض الشعبي والسياسي النيجيري الرافض للوجود العسكري
الفرنسي على أرض النيجر حتى من قبل الإطاحة برجل فرنسا المخلص "محمد بازوم"
.
عندما أعلنت المجموعة العسكرية الحاكمة في
النيجر منع الطائرات الفرنسية أو الطائرات التي تستأجرها فرنسا من عبور المجال
الجوي للبلاد رغم السماح بذلك لجميع الرحلات التجارية الوطنية والدولية ، وعندما
قررت الانسحاب من اتفاقيات التعاون مع فرنسا _ بعد قرارها السالف في أغسطس الماضي
بطرد السفير الفرنسي في النيجر وتجريده من حصانته الدبلوماسية وإلغاء تأشيرة دخوله
_ أقول عندما اتخذ المجلس العسكري الحاكم في النيجر هذه الإجراءات فإنه كان يهدف
إلى إرسال رسالة واضحة وصريحة وقاطعة إلى فرنسا وأذنابها داخل النيجر وداخل مجموعة
غرب أفريقيا الاقتصادية إكواس بأن بازوم لن يعود وفرنسا لن تستمر على أرض النيجر.
إن
"ماكرون" المنهزم المغرور لم يحسن قراءة الأوضاع والأحداث في مستعمرته
الإفريقية "النيجر" ، وفي خضم أسلوبه المضطرب و قراءته الخاطئة ازداد
وضع السفير الفرنسي والقوات الفرنسية بالنيجر سوءا ، وبالمقابل اكتسب المجلس
العسكري في النيجر العديد من المكاسب ونقاط القوة أهمها وأخطرها التأييد الشعبي
الرافض أصلا للوجود الفرنسي كله على أرضه.
لقد خسرت فرنسا كل الرهانات التي اعتمدت عليها ؛ ومن ثم جاء خطاب
مكرون "تكتيكيا" وليس "استراتيجيا" بعد أن فقدت فرنسا الأمل
في حدوث تدخل عسكري من طرف المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا مثلما حدث سابقا
في دول أخرى وفي حالات مشابهة وبمساندة ودعم فرنسيين.
لقد اعتمد ماكرون في معالجة أزمة النيجر خطابا معلنا ومكررا يتمثل في
عدم الاعتراف بشرعية الانقلابين والقرارات الصادرة عنهم وفي نفس الوقت الدفع بالمجموعة
الاقتصادية لدول غرب افريقيا من أجل التدخل وإعادة نظام بازوم الى السلطة ، ثم بدا
له أن هذا رهان خاسر وأن المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا تتلكأ في قرارها
التدخل العسكري ، وفي غضون ذلك أعلنت فرنسا على لسان ماكرون أن سفيرها في النيجر
لم يعد يجد من الطعام إلا بعض الحصص الغذائية المقدمة من القوات الفرنسية ؛ ومن ثم
، وتحت تأثير الضغط الشعبي والسياسي داخل فرنسا ، اضطرت فرنسا إلى أن تعلن عن سحب
السفير بعد ساعات من قرار السلطات العسكرية في نيامي بحظر مجالها الجوي على
الطائرات الفرنسية. وحتى هذه اللحظة لا توجد معلومات واضحة ومؤكدة تتناول كيفية
نقل الدبلوماسيين والسفير من النيجر الى باريس أو توقيت وصولهم والمكان الذي سوف
يصلون اليه ، وهنا يجدر بنا أن نشير إلى أن عودة السفير والدبلوماسيين ستكون على
أية حال أسهل بكثير من إعادة 1500 جندي فرنسي من الموجودين في النيجر ؛ فهؤلا ء الجنود
إما أن ينقلوا إلى دول مجاورة ما زالت فرنسا تتمركز فيها أو تتم إعادتهم إلى فرنسا
، وفي هذا السياق أشار ماكرون في حديثه التلفزيوني إلى أن فرنسا تتشاور حاليا مع الانقلابين
_الذين لا تتعترف يهم فرنسا طول الوقت !!! _ كي يتم انسحاب القوات الفرنسية في ظروف هادئة.
وفي الطرف الأخر من المعادلة كان المجلس العسكري الحاكم في النيجر يرسخ
من وجوده في سدة الحكم ويعمق البعد الشعبي والسياسي لذلك الانقلاب ، في ظل تعامل
أمريكي هادئ وحذر تجاه كل ما يحدث في النيجر انتهى بأن أرسلت الولايات المتحدة
الأمريكية سفيرة لها الى نيامي. وبدأ المجلس العسكري متمثلا في رئيس وزراءه يستقبل
السفراء الغربيين في نيامي ، وتزامن مع ذلك تحرك إقليمي في مالي وبوركينا فاسو حليفتي النيجر من أجل تحقيق اختراق ما للغرب الأفريقي والبحث
عن شركاء جدد. تزامن مع كل ذلك مظاهرات واحتجاجات منددة بالوجود الفرنسي في النيجر
تؤكد أن وجود ما يقرب من 1500 جندي فرنسي منتشرين في النيجر بحت عنوان "مكافحة
الحركات المتشددة" غير قانوني. وتلاشت حدة الدعوات إلى تدخل عسكري يعيد
النظام الدستوري في النيجر ، وفي نفس السياق أكد رئيس البلاد السابق محمد يوسوفو أن
الحل التفاوضي وحده هو الذي سيمهد الطريق لعودة سريعة إلى نظام ديمقراطي مستقر وأن
التدخل العسكري الخارجي لن تحصى عواقبه البشرية والمادية وسيكون مصدرا لعدم
الاستقرار الدائم.
وهكذا بدا لماكرون وأذنابه
في إفريقيا أن عودة بازوم لحكم النيجر أصبحت مستحيلة ، وأن فرنسا أصبحت من الماضي
، وأن فرنسا قد خسرت نفوذها في النيجر التي كانت تشكل نقطة ارتكاز رئيسية لها في
المنطقة وكانت لفرنسا بمثابة تعويض لها عما خسرته في مالي وبوركينا فاسو عبر
حليفها وتابعها المخلص بازوم . لقد خسرت فرنسا مجددا دولة أفريقية ثالثة وسوف تخسر
وجودها في "تشاد" قريبا.