.post-outer {-webkit-touch-callout:none; -webkit-user-select:none; -khtml-user-select:none; -ms-user-select:none; -moz-user-select:none;}

بحث

أمسية القرآن..الحلقة الأولى .. بقلم الأستاذ/هشام القن


الحلقة الأول: القرآن بين العقل والنقل واللغة:

مقدمة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله خاتم النبيين ورحمة الله للعالمين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد..
فلم يدر فى خَلَدى يوما ما أن أخوض ركاب هذا اليم، كما لا أحسبنى يوما أهلا لذلك، ولكن لم تفارقنى أيضا لحظات عشتها بين جنبات هذا الكتاب الكريم على مدار سنوات طويلة ألهث فيها جِيئة وذِهابا، أبتذل الفهم وأمتطى صهوة فرسان بذلوا كل غال ونفيس وسط هذا الخضم على مدار قرون، فلم يشفع لى كثرة وقوفى بباب المعانى، ولا استدراجة الألفاظ إلى بريق مفاوزَ صعبة وصلدة، لكن حسبى أننى بعد سنوات طويلة من شغفى بعالم الأدب وعكوفى على اللغة- بطبيعة تخصصى- حسبى أنه أشبعنى تيها وتدلها فى معانى القرآن، حتى استوقفتنى كل كلمة وكل نظم، فلم يمر سريعا دون أن يستثيرنى أو ينال منى بشىء عظيم من الجهد والتأمل لم أكن أحزِره أو أحدِس به من قبل.
ولذا فقد يكون من الصعب أن نقترب من هذا المِحفل العظيم اقتراب اللغوى، أو نمتهن الطريق إليه امتهان الأديب الحذق بعالم البيان كما فعل آخرون، لا هذا ولا ذاك كان مقصدى نحو هذا النص المعجز، وإنما كانت أمور عدة تحدو بى نحو ركائبه البعيدة والقصية، لا شك منها هذا الاتجاه فى اللغة والأدب، لا بقصد ابتناء تأويلات تحذو هذا الحذو من اللغة والأدب فحسب، فلطالما خاض هذا من قبل كثيرون، ولكن بقصد استكناه روح المعرفة من هذا الكتاب الخالد، إيمانا يقينا أنه مقياس نادر الحدوث قلما يحدث فى حياة الأمم، وكونه مقياسا فإنما ذاك لكونه لفظا ومعنى من رب العالمين، لا يتطرق إليه الوهم ولا يخلق بكثرة الرد وكر الأيام والأزمنة، بل يزداد بها نشاطا وإسباغا نديا على العقل والمشاعر بأجنحة من الرؤى والمعانى متجددةً ومؤثرة كأنها وليد اليوم وكلِّ يوم
ثم لم أصدق يوما أننى سأمضى وسط هؤلاء العظام أتلمس حضورهم ومسالكهم فيه عبر التاريخ، فبالرغم من أن هذا أسعدنى كثيرا، لكن كم أضنانى أيضا بحكمة ودرس ليس باليسير، فلا اللغة وحدها أسعفتنى ولا معارفُ قُيد بها عقلى على مدار سنين، ولا أدبٌ ثقبٌ كفانى مؤنة هذا السفر الطويل وسط مجاهل الكلمات ومضايق المعانى وشعابها، لم يكن شىء من هذا فحسب، بل اضطررت اضطرارا أن أسلك مسالكهم من الأصول وأن أحاذى مفاهيمهم وأخترق طرائقهم بحذر وعلى وجل شديد فى فهم نظم القرآن وبلاغته على الوجه الذى فهمه العالم المسلم من قبل الثبتُ الثقة، لا الأديبُ ولا اللغوى فحسب، وإن كانت تلك الأخيرة (أعنى الأدبَ واللغة) قد مثلت لى مشعلا أضاء لى الطريق وسط مهامهَ خطيرةٍ من صراع الكلمات والأفكار والألفاظ واختلافاتٍ لا حصر لها.
وشىء آخرُ دفعنى إلى كل هذا وهو ما هالنى فى كتب التفسيرات من اختلافات ربما وصلت إلى درجة الخلافات، وفاقت كل يسير إلى الاتفاق، بل وبالغت أحيانا فى التعسف ضد ظاهر النص ومراد الآيات
وكذلك حرصى كمسلم على أعظم كتاب عرفته الأمم أن يندس وسطه روايات لا خلاق لها تؤطر لمفاهيمَ خرافية تارة وميتافيزيقية كما يفهمها المفكر تارة أخرى، ولمن أراد أن يستزيد فليقرأ هذا التفسير العظيم لهذا الرجل الثبت ابن كثير ثم ليتأمل كيف كانت تلك الروايات الإسرائيلية وبالا على مادة التفسير وعذوبة القرآن، صحيح أنها مادة خصبة استقى منها الأدباء والشعراء وصناع الأساطير، لكن ليس القرآن مجاله، صحيح أنها دلتنا أحيانا كيف تفكر الأمم السابقة لكنه ليس بحجة، هذا لما خالف من أقوالهم أقوالَنا من عقيدة وشريعة وقصص محكم، وإلا فإن المعصوم قد أجاز التحديث عنهم مقيدا أي فيما لم يكن مخالفا عندنا فى شىء مما ذكرنا، وذلك لقول المعصوم: "حدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج" ، وبشروط عدها العلماء
ولكن قال ابن حجر في الفتح: (قَوْلُهُ لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ) أَيْ إِذَا كَانَ مَا يُخْبِرُونَكُمْ بِهِ مُحْتَمَلًا لِئَلَّا يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ صِدْقًا فَتُكَذِّبُوهُ أَوْ كَذِبًا فَتُصَدِّقُوهُ فَتَقَعُوا فِي الْحَرَجِ وَلَمْ يَرِدِ النَّهْيُ عَن تكذيبهم فِيمَا ورد شرعنا بِخِلَافِهِ وَلَا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ فِيمَا وَرَدَ شَرْعُنَا بوفافه نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ التَّوَقُّفُ عَنِ الْخَوْضِ فِي الْمُشْكِلَاتِ وَالْجَزْمِ فِيهَا بِمَا يَقَعُ فِي الظَّنِّ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ مِنْ ذَلِكَ)انتهى
قلت: والمقصود بالتصديق والتكذيب هنا هو ما كان على الإجمال مما خص أمر العقيدة، ويدلنا عليه مناسبة الحديث فيما رواه البخارى في صحيحه عن أبى هريرة: (كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم و"قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون"البقرة136
قلت: وهو حرص من المعصوم لحفظ جناب الإسلام والقرآن، حتى لا يكون عادة أن يجتمع إليهم المسلمون ثم يسمعوا إليهم في ذلك فيصير دينا، فقد بان من حديث أبى هريرة أن ذلك كان يحدث كثيرا مطلقا غير مقيد، وهذا خلاف مقصد الرسول من التحديث عن أهل الكتاب في قوله: " بلغوا عنى ولو آية وحدثوا عن بى إسرائيل ولا حرج"، لأنه قصد التحديث فيما يستأنس به مما لا يخالف آيات القرآن والإسلام، وأيضا بدون قصد اجتماع ولا تعيين أشخاص، ولذا حذر في نهاية الحديث فقال: "ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"
ويحتمل أن يكون المقصود بالكذب هنا مرتبطا بمسألة التبليغ فقط، أو مسألة التحديث عن الرسول والإسلام من خلال أخبار بنى إسرائيل فقط، أو الاثنين معا، والأرجح الثانى لارتباطهما معنى في الحديث هنا أي التبليغ والتحديث السابقين، لأن الوقوع في الكذب من خلال نشر أخبار بنى إسرائيل أكثر ورودا منه في تبليغ القرآن والإسلام، لعدم استئمان صحة أخبار بنى إسرائيل فى نفسها بعد وقوع التحريف فى كتبهم، ولعدم استئمان من بلغ عنهم أخبارهم من المسلمين فربما تساهل فيها لكونها لا تمت إلى أصول الإسلام ومادته فلم يعتن بحسن حفظها ونقلها، أما القرآن والإسلام فهما معكوف عليهما دراسة وعملا من خلال مجتمع المسلمين كله محفوظان بإذن الله تعالى، كما أن أخبار بنى إسرائيل لا يعرفها إلا القليل ممن اطلع عليها أو استمع إلى أهلها فيها فلا يشيع الخبر شيوعا يستحق البحث والاجتماع عليه للنظر فيه بجد
قال الخَطَّابى البُسْتى الشافعى فى شرحه لسنن أبى داود المسمى ب (معالم السنن) تعليقا على قول المعصوم "حدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج": قال (ليس معناه إباحةَ الكذب في أخبار بني إسرائيل ورفعَ الحرج عمن نقل عنهم الكذب، ولكن معناه الرخصةُ في الحديث عنهم على معنى البلاغ وإن لم يتحقق صحةُ ذلك بنقل الإسناد، وذلك لأنه أمر قد تعذر في أخبارهم لبعد المسافة وطول المدة ووقوع الفترة بين زماني النبوة. وفيه دليل على أن الحديث لا يجوز عن النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ بنقل الإسناد والتثبت فيه(انتهى
قلت: وقول البستى فيه نظر بل لا معنى له إلا أن يتعاطف الرسول في التحديث عن بنى إسرائيل ويحب ذلك فيندب المسلمين إليه، لا لشىء إلا انقطاع السند، وكأن المتن كان صحيحا غير متهمين به، فيشفع لهم صحة المتن مع وقوع السند، وهذا مخالف للواقع، فقد نهى النبى كثيرا عن الاستماع إليهم في دينهم على وجه الاهتمام وتداول صحفهم أو الاعتقاد بصحة ما فيها وغير ذلك مما يطول، بل وطعن القرآن صراحة في كذبهم على الله وشراء الأثمان وتحريف الكلم من بعد مواضعه
فليست القضية في تعذر وجود السند في أخبارهم لبعد المسافة وطول المدة ووقوع الفترة بين زمانى النبوة كما قال، لأن ذلك معلوم بداهة، وهذا لا يشفع لهم في شيء، إذ أن اتهامهم كان في تلاعبهم بالكتاب نفسه ومعانيه وتفسيره للعامة والتكسب منه وشراء الأثمان، وهذا ما يمنع حقيقة إطلاق الأمر في "حدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج" فهو مقيد كما سنرى
فقول المعصوم "وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج" بعد قوله: "بلغوا عنى ولو آية" فيه معنى للندب الخفى أو الاستئناس فقط، ومعناه: وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج عند تبليغكم عنى أيَّة آية تحديثا ينصر تلك الآية ويعضدها ولا يخالفها متى وجد ذلك أو مثيله أو ما يرتبط به صدقا لدى بنى إسرائيل مما لم يخالف لدينا تلك الآية أو غيرها من الآيات
إلا أن يكون بالأمر نسخ، فيكون قوله: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم" قد نسخ قوله: "حدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج"، ولكن بان لى أنه لا تعارض ولا نسخ، والله أعلم، فيمكن الجمع بينهما بمعنى: حدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج فيما يستأنس به من آيات الله التي تبلغونها ويعضدها دون أن يكون تصديقكم على وجه الجزم حتى لو بان لكم من ظاهرها الصدق، ولا أن يكون تكذيبكم أيضا لهم بدون مبرر أو على وجه الجزم فيما لم يخالف شيئا عندكم دون أن تصدقوهم فتقعوا في حرج تكذيب ما حقه التصديق، وكلوا الأمر إلى الله فيهم
ويبدو أن هذا ما أورده ابن حجر في شرحه السابق لحديث البخارى "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم"، وهذا معناه والله أعلم أن يقف المؤمن على حياد ودرجة واحدة من أخبار بنى إسرائيل مما لا خبر عند المسلمين عنها خبرا جازما ولكن لا تخالف في ظاهرها أيضا شيئا في الإسلام، وإلا فلو خالفت لما كان هناك احتراز في التصديق والتكذيب ولوجب التكذيب فورا، وهذا هو النوع الثانى من الأخبار الإسرائيلية الذى أشار إليه صاحب (منارُ القارى شرح مختصر صحيح البخارى) بقوله (....الثاني: ما لم يرد في ذلك في الكتاب أو السنة ولا يعارضهما، فهذا يَحتمل الصدقَ والكذب كسائر الأخبار العادية، ويجوز روايته للموعظة والاعتبار، شريطة أن لا يُؤخذ على أنه قضية مسلمة، أو يُستدلَ به على حكم شرعي، أو يُقدَّمَ على حقيقة من الحقائق العلمية الثابتة......)انتهى
قلت : إذن فكلام ابن حجر وما نقله عن الشافعى فى تفسير "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم" مقيد ولا يحمل على إطلاقه أنه على الحياد من كل أخبار بنى إسرائيل وإنما لما قلناه فى مناسبة هذا الحديث، وإلا لما جاز التحديث عنهم بحال ولأجاز فقط المشرعُ أن يحدثوا هم عن أنفسهم أو منعه كليا
والتأييد والتعضيد المفهومة من بعض أخبار بنى إسرائيل لما يصدق القرآن والإسلام هنا ليس معناه إيجاد دليل عند بنى إسرائيل لما هو آية لدى المسلمين وتصديقا لها، فقد أعلن القرآن صراحة أنه مصدق الذى بين يديه من الكتاب أي التوراة والإنجيل أي جاء يصدقها لا العكس أن تصدقه هي، لأن التصديق يكون من الحديث للقديم، إذ أن القديم عولج وجرب وعرف ولم يعد بحاجة إلى من يصدقه، فالجديد هو ما يحتاج إلى قديم يصدقه، وهو ما يعرف بتواصل الجديد مع القديم إنجاحا لتجربة الجديد
فالنصرة أو الاستئناس هنا ليست بحثا عن تصديق القديم للجديد (القرآن)، كما أن هذا لا يمكن مع اتهامهم بالكذب والتحريف، فبان أن المقصود هنا هو تصديقه إياهما في أصلهما الذى نزلا به وما تبقى منه مما لم تعبث به أيديهم بعد، وكذلك تثبيت معنى واحدية الدين وهو الإسلام رغم تعدد الأسماء التي خالفته من يهودية ونصرانية وغيرهما والتذكير بالأصل الذى نسى ليلتفتوا عما هم فيه إلى هذا الجديد الذى أعادهم إلى هذا الأصل مرة أخرى، وبالتالي إسقاط كل دين سوى الإسلام لأن تكرار القديم بصيغة الجديد أو على لسان هذا الجديد إعلان لعدم جدواه في صورته القديمة، ومن ثم فهو إعلان أيضا للأخذ به في صورته الحديثة أو من مصدره الحديث وهو القرآن والسنة فقط ، فيكون الارتباط بالماضى قد تفكك بعد أن ظهر في أبهى أثوابه العصرية، وإلا فما داعى الربط بين الأمر بتبليغ آيات القرآن والإسلام والتحديث عن بنى إسرائيل؟
ولذا أخذ الأمر إلى نشر آيات الإسلام لفظ التبليغ بينما أخذ الندب إلى نشر أخبار بنى إسرائيل بعدها صورة التحديث، لأن التبليغ إيصال معنى واجب لمنتهاه بقوة لمن يجب عليه، أما التحديث فهو مجرد نشر المعنى فحسب لكلٍ
وأورد صاحب (منارُ القارى شرح مختصر صحيح البخارى)) : والحاصل أن الأخبار الإِسرائيلية ثلاثة أنواع: الأول: ما وافق القرآنَ والسنة موافقة صريحة، فهذا مما ينبغي روايته وتبليغه لأنه حق وصدق لا شك فيه. الثاني: ما لم يرد في ذلك في الكتاب أو السنة ولا يعارضهما، فهذا يَحتمل الصدقَ والكذب كسائر الأخبار العادية، ويجوز روايته للموعظة والاعتبار، شريطة أن لا يُؤخذ على أنه قضية مسلمة، أو يُستدلَ به على حكم شرعي، أو يُقدَّمَ على حقيقة من الحقائق العلمية الثابتة. الثالث: ما عارض الكتابَ أو السنة، فهو كذب محض، لا تجوز روايته إلاّ لتفنيده وتكذيبه، وذلك لما فيه من تكذيب لله ورسوله.
بقلم/ هشام القن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق