حزمت حقيبتها بعد ان وضعت أهم ما تحتاج إليه في السفر ككل مرة ، لكنها هذه المرة لا تود العودة و لا تود أخذ المزيد مما يذكرها به فهو حتما سيعود و لن يجدها في انتظاره كالعادة فقد قررت الرحيل إلى الأبد ، وقبل أن تغادر البيت أمسكت القلم وبدأت تكتب رسالة الوداع:
احببتك منذ أن أخبرتني أن نور الشمس من أجل عيني يزور فضاءنا وينيره .و منذ أن سمعتَ العصافير تغني بإسمي وتفشيه لك حتى قبل أن نتقابل ونلتقي .ومنذ أن أقسمت لي أن الهواء الذي تتنفسه ما كان ليحييك لولا اختلاطه بأنفاسي. احببتك من أجل كل هذا وغيره ،نعم احببتك وصدقت كل كلمة من كلامك،بل كل حرف منه حتى أصبحت لا يهنأ لي بال إلا بعد سماعه منك،لقد كانت كلماتك تحيي كل ما مات من مشاعر داخل قلبي ووجداني ،كانت كالغيث الذي ينهمر على الأرض العطشى ليسقيها و يرويها فتزهر من جديد ورودا و رياحينا يملأ عبقها أجواء الكون فيعطرها.
لقد كانت روحي لحنا لم يقدر أحد على التغني به ،وكانت عطرا لم يجرأ أحد على اكتشافه ولمسه. بل كانت كتابا لم يفك أسراره أحد قبلك . اعطيتك مفتاح قلبي وسلمتك ابوابه لتدخله بعد أن أبعدت كل حراسه و سرحتهم فلم يعد لهم عندي اي ضرورة بعد ذلك، أصبحت انت الحارس الأمين عليه .وانت حاكمه وآمره وناهيه. أصبحت تعرف كل خباياه .
أنتظرتك طويلا وها قد أتيت ،كنت على الموعد نعم وبعدها لم تف لي بموعد ابدا ،لقد مارست القطيعة مع كل مواعيدي ،هشمت قلبي و سحقته بعد أن سرقته.اشفقت عليه منك كثيرا ،طلبت منه أن يسامحني ان يعذرني على إساءتي له بك ،لم أفكر ابدا انك ستنال مني كما فعلت لم أنس جنة الخلد التي وعدتني بها ،ولا قصورها وانهارها ،لا زلت أذكرها بل حتى إنني لا زلت احلم بها ،نعم احلم بحضنك الدافئ الوثير، احلم بصدرك الحنون الكبير . احلم ان تعود كما كنت ،كما عرفتك في البداية ،ليت كل أيامي معك دامت بداية بلا نهاية .
كنت أنت الفارس الذي لم احلم به لكنه أتى ليحملني على حين غرة و دون سابق إنذار .حملتني على جوادك الجامح الذي يشبهك في جموحك إلى حد بعيد ،طرت بي إلى حيث لا أحد سوانا ،سوى همساتنا الرقيقة الشفافة ،تسترقها أشعة النور و نسمات العبير .
إلى حيث لا ضجيج ولا أنين .فقد أثقل سمعي ما سمعته قبل ان القاك وحينما التقيتك لم يكن بيننا موعد فقد كان اللقاء مرتبا من السماء ،ممن يسمع الدعاء ،لقد كنت دائما أدعو في كل الأوقات ،كنت لا أمل من رفع يدي إلى السماء ، كنت أدعو ان يرزقني الله بقلب حنون يعوضني السنوات العجاف بعد ان نالت مني كل أنواع القسوة وأشكالها ، حتى جف قلبي و أصبح هشا قابلا للكسر بسرعة . وبعدها جئت ومعك الغيث و الثراء وكل الدفء و الوفاء .لكنك فجأة تغيرت ،اعذرك حقا انا أيضا تغيرت، فسنوات العمر تأخذ منا أكثر مما تمنح، لكنك تغيرت بشكل مهول مخيف أصبح حنانك قسوة و همسك صراخا،و دفءك نارا اصطلي بها صباحا ومساء ، كل شيء تغير فيك إلى النقيض تماما، و ها قد جفت منابع قلبي لترويك مرة اخرى، و أصبح قلبي صخرة صماء ، لم أعد اقوى على الهجر و الجفاء ، لا ابدا فقد استنزفت مني كل أسباب و دواعي الصبر ،نفد الرصيد الذي كنت اسحب منه في كل مرة لأعود اليك، و لم أعد أملك إلا الرحيل بعيدا بعيدا عنك ،حيث لا يذكرني بك شيئ ، و لا تراودني ذكرياتي المرة و لا حتى الحلوة ، اود ان انسى كل شيء ،ان تصبح ذاكرتي صفحة بيضاء، يخط عليها الزمن من جديد حكايات أجمل و ألطف. فالوداع الوداع لا اريد تحمل المزيد من الأوجاع.
طوت الرسالة و وضعتها وسط ظرف بجانب المزهرية على الجانب الأيمن من ردهة الباب،أغلقت الباب و غادرت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق