سمراء
.. حادة الملامح قوية البنية .. قصير شعرها ، حالك السواد .. صوتها الخشن يثير
الرعب فى نفسى حين تنقض بكفها الثقيل كمطرحة الخبز على وجنات براءتنا .. نظرة من
عينيها الجاحظتين كافية جدا لأختزن لها كل مشاعر كراهية ممتزجة بالخوف .. لم تكن
حصة الدين تمر معى و معها بسلام .. فقد كان الفزع يوقف الآيات فى حلقى حين توجه
عصاها المدببة لتخترق صدري و تطلب منى أن أتلو سورة الصف أو الفجر .. و حين اتعثر
خوفا ، تشبعنى ضربا بعصاها الحادة و شرر نظرتها .. نعم كرهتها ، كانت تمقتنى ، و
ترانى عنيدة أرفض السير معها بعد انتهاء اليوم الدراسى .. فقد اعتادت ان تصحب معها
يوميا بعض تلاميذ الفصل لتنظيف شقتها و حمل أكياس الخضر و الفاكهة و لوازم بيتها
.. كان أطفال الرابع الابتدائي يتحدثون ببراءة يرسمون لوحة أمام عيني لمسكنها ..
الكراسى المذهبة و تابلوهات الكانڤاه التى تزين الجدران و أواني تحمل زهورا
بلاستيكبة يغمرونها من حين لآخر في طبق عميق في حمامها الواسع .. استرعى انتباههم
كم زجاجات العطر المتنوعة الشكل على "التسريحة" و زجاجات طلاء الأظافر و
أصابع أحمر الشفاه التي تتمنى رفيقتي في الفصل أن تملك مثلها حين تكبر قليلا ..
الصبية يتحدثون بخبث عن ملابسها " "النايلون" البرتقالية و الحمراء
و الفستقي فى الحمام و خلف باب حجرتها .. يتحدثون أيضا عن كمية الأكواب و الصحون
التى تنتظرهم لغسيلها و تجفيفها و لا تسمح لأحدهم بإطفاء عطشه بشربة ماء إلا في
كفه من صنبور في طرقة دورة المياه .. كل تلاميذ الفصل لا يحبونها لكنهم يخضعون و
يستسلمون لأوامرها خشية الرسوب و العقاب .. فقط أنا .. كنت أرفض أوامرها بشدة .. و
أخبرها ان أمى تنتظرنى خارج المدرسة و فى حال التأخير ستتصل أمى بخالى الضابط
للبحث عنى .. لا أدرى كيف دفعنى خيالى لهذه الكذبة البيضاء .. ! كنت انتظر انتهاء
درس الدين و نصيبنا من العقاب العسير .. الضرب المبرح على الخد يترك وجعه أياما ..
و لا أدرى كيف كنت أعاند الدموع و صراخى أمامها تحت سيف اتهامى بعدم الإحساس و هى
تتعمد شد ضفائرى التى تتعب أمى كل صباح فى تجميلها بالشرائط الحمراء التى يحسن
اقتنائها أبى لتجدل مع شعرى البنى الكثيف جدا الطويل .. لم يهون علىَّ الوجع غير
زميل طيب خفيف الظل يجلس فى المقعد الخلفى اعتاد ان يشاكسنى فى غفلة المعلمة ..
كان يمازحنى و أسعد فى الحديث معه حين يقول : " لا تحزنى من الأبلة المجنونة
" و كثيرا ما يشاركنى طريق العودة .. و أحيانا يقفز من نافذة الفصل ٱلى حديقة
المدرسة ليعود سعيدا ليقطف لى وردة .. كان للورد البلدى رائحة غضة طيبة .. حين
تستكين الوردة فى كفى و يتسامى عبقها لكل مسامى .. نعم .. أذكر ذلك جيدا.. البراءة
و الصدق و طعم الحياة .. تفوقت جدا فى اللغة العربية و أحصل على أعلى درجة فى فصول
الفرقة الرابعة .. إذ كانت أمى تتابعنى بدرس إملاء يومي و تحثنى على تحسين خطى ..
حين تختار مقاطع من التي يداوم عليها ابي .. فى حال الحصول على درجة التفوق تمنحنى
بعض الحلوى .. أمى شجعتنى على الكتابة و قراءة الصحف فى عمر لم يتجاوز السابعة ..
أبى كان يلتفت للنحو و قواعد الصرف و ينشط عقلى بكثير من الأمثلة و يكافئنى
بالجلوس معه حين يمسك بأقلام البوص و فرشاة الرسم .. كان هذا ممتعا و كان أبى
فنانا بارعا حنونا هادئ الضحكة .. كالمعتاد تدخل " الأبلة كاريمان " و
نحن نتغامز عليها و نضحك بيننا و بين أنفسنا .. قيام .. جلوس .. بجفاء شديدة يبدأ
صباحها و تتحدث من اليمين بدأت الدرس .. سؤال محدد كل منا ينطق مثنى لفظين .. و
ممنوع التكرار .. " فاهمين " .. ! ارتفعت الأصوات بالترتيب .. شجرتان ..
مثمرتان .. ولدان .. مجتهدان .. بنتان .. مؤدبتان .. مدرستان .. أمبنتان .. لاعبان
..ماهران .. و حين حل دوري شعرت أن معجم العربية قد اكتمل .. و كدت أن أڨع في فخ
شرها .. لكن الله معي في تلعثم نطقت : ' قلمان .. و و اسمك يا أبلة " ضحك
الفصل كله .. و صحت فيهم " كريمان " نعم اسمها أبلة " كريمان
" .. " كريم " مفرد و المثنى " كريمان " .. ! الفصل يضحك
.. و صفعتان كانتا نصيبى منها .. و اتهام شديد بالغباء .. صفعة و صدمة .. كنت أثق
فيما تعلمته فى البيت " المهندسان بارعان .. البنتان مؤدبتان .. الشيخان
كريمان .. نجحت ابلة كريمان فى أن تصيب بطنى بالوجع و الغثيان يوم حصة الدين و
المكوث فى المنزل ، تفوقت مدرسة الفصل فى أن تجعلنى أكره الدين و دروسه ، و لا
أذكر من كتاب التربية الدينية غير ثقله و غلافه المانيلا البرتقالى و قد تصدره اسم
" سعيد العريان " .. و أنا أتعجب بينى و بين نفسى .. كيف يكون سعيدا و
هو عريانا .. و لماذا هو " عريان "! خفت أن أبوح بأفكارى و تساؤلاتى و
تشبعنى " كريمان " الشريرة ضربا و اتهاما بالبلادة و التخلف العقلى ..
أثار تأخر التلاميذ و عودتهم إلى بيوتهم شكوكا كثيرة .. و كثرت الأقاويل مع أولياء
الأمور قبل إلتقائهم في الاجتماع الدوري و مواعيد الدخول و الانصراف ثابتة لم
تتغير .. بالضغط و الوعد بالأمان وشى الأولاد إلى ذويهم بإجبارهم على تنظيف شقتها
و ما يجدونه من رعب اتفق الأهالى على رفع محضر إلى الشرطة و شكوى مجمعة من الآباء
.. كنت ارقب فى صمت و الأطفال يتهامسون و كأنى من عالم آخر .. و لأول مرة "
المرأة الشريرة " خائفة و قد اعتلى ملامحها الحزن و السواد .. اقنحمت أبلة
" حياة " ناظرة المدرسة الفصل و تحدثت مع الأولاد و أمرت المدرسة الخروج
من الفصل بلهجة حادة و قد بثت فى النفوس الغضة روح الأمان .. توالت الحكايا من سوق
الخضر و الصعود المرهق على الأقدام من الطابق الأرضي حتى الطابق السادس حتى بريق
شقتها و جمع ملابسها العارية الملونة و ترى أبلة " حياة " آثار التعذيب
على الأجساد النحيلة من كدمات .. أحيلت مدرسة الفصل إلى التحقيق و تم إيقافها عن
العمل .. سعدنا جميعا و كانت سعادتى أكبر فلقد ثبت لى انى الأكثر ذكاء بكذبتى
المدهشة " أمى فى انتظارى خارج المدرسة " و ترسخ داخلى حقيقة تثبت مهما
كانت بريق قرطها الدائرى الكبير و الأساور الذهبية فى معصميها أنها لم تكن تشبه أى
أنثى .. فجأة تحول الانكسار داخلى إلى انتصار .. أنا على يقين أن " كريم
" مفرد مذكر و " كريمان " مثنى مذكر .. ..
بحث
مثنى مذكر .. قصة بقلم المبدعة المصرية ليلى حسين
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق