ابن عربي شاعر الإنسانية والمحبة الشاملة
كان التصوف الإسلامي قد اجتاز
مسافة طويلة حين بدأ محي الدين بن عربي الحاتمي الطائي (560-638 هـ/1165-1240 م)
يكتب مؤلَّفاته الغزيرة في أواخر القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي).
ففي الشطر الأخير من القرن الثاني للهجرة
كانت (رابعة العدوية) قد أسستْ مذهبها في الحبِّ الإلهي، الذي صار فيما بعد جزءًا
من نظرية المعرفة الصوفية، والتي سوف يُصار إلى تطويرها على يد ابن عربي نفسه،
لتصبح نظرية في المحبة الشاملة.
وليس من السهولة بمكان أن يلمَّ المرء
حتى بالمحاور الكبرى لتراث الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي إذا حصر نفسه ضمن مقالة
واحدة ضيقة المساحة. ففضلاً عن أن مؤلَّفاته هي من الكثرة بحيث تكاد أن لا تحصى،
وبالإضافة إلى أن نصوصه شديدة التعقيد، بحيث لا تعنو كثيرًا للفهم الصافي، في بعض
الأحيان على الأقل، فإن منهجه الكثيف مركَّب من عناصر شديدة التبايُن والتنوع.
وبسبب من كثرة الينابيع وتَبايُن أصنافها، فقد جاء مذهبه غنيًّا بالمحتويات
والرموز والأفكار الشديدة التنوع؛ بل لعل في الميسور أن يقال بأن تراث الشيخ
موسوعة صوفية قائمة بذاتها.
ومما يزيد الأمر تعقيدًا أن ابن عربي
قد صمَّم سلفًا على أن يبعثر مذهبه داخل كتبه، ولاسيما داخل الفتوحات
المكية الذي يشبه دغلاً من الأدغال الكثيفة لكثرة ما يحتوي من الموضوعات والأفكار
والأخيلة والصور والمفاهيم. يقول الرجل في مقدمة الفتوحات:
أما التصريح بعقيدة الخلاصة، فما أفردْتُها على التعيين، لما فيها من الغموض،
لكن جئت بها مبدَّدة في أبواب هذا الكتاب، مستوفاة، مبيَّنة، لكنها كما ذكرنا
متفرقة. فمن رَزَقَه الله الفهمَ فيها، يعرف أمرها، ويميِّزها من غيرها؛ فإنها
العلم الحق والقول الصدق، وليس وراءها مرمى، ويستوي فيها البصير والأعمى. تُلحِقُ
الأباعد بالأداني، وتلحم الأسافل بالأعالي.
فالشيخ لا يريد لأحد سوى خاصة الخاصة
أن يستوعب المستوى الأعلى بين مستويات مذهبه الخاص. ولا مرية في أن كتاب " الفصوص"
الذي ألَّفه في دمشق سنة 627 هـ/1229 م، هو أوضح مرجع يمكن للمرء أن يعتمده بكثير
من الثقة، إذا ما أراد أن يفهم مذهب ابن عربي، وذلك لأن مآربه واضحة، ولأن أسلوبه
أقل وعورة من أسلوب الفتوحات.
ومما هو جدير بالذكر في هذا السياق أن
لابن عربي بيتًا من الشعر يؤكد توجُّهه صوب بناء مذهب يضمُّ جميع أصناف العقائد.
يقول:
عَقَدَ
الخلائقُ في الإله عقائدًا .. وأنا اعتقدتُ جميعَ ما عَقَدوه
ولعل هذا النزوع أن يكافئ بالضبط قول (هيغل)
بأن مذهبه قد احتوى على جميع المذاهب السالفة. وربما جاز الزعم بأن مذهب كلٍّ من
الرجلين هو بنيان تركيبي أو توليفي؛ إذ إن الفلسفات القديمة حاضرة فيهما حضورًا
ناصعًا.
وأيًّا ما كان جوهر الشأن، فإن الفكرة
المركزية في مذهب ابن عربي هي مقولة "وحدة الوجود"، التي تنطوي، بشكل
إضماري، على مبدأ الوصال والاتصال بين جميع أجزاء الكون. ومما هو جد معلوم لدارسي
الفلسفة أن هذه الفكرة لم تكن جديدة البتة في زمن الشيخ الأكبر. فهي صريحة في
المذهب الرواقي الذي رسَّخه رجال شرقيون. بيد أن مذهب وحدة الوجود لم يصبح ينبوعًا
لفلسفة قائمة بذاتها في أيِّ يوم من الأيام إلا على يد ابن عربي قبل سواه. وهذا هو
التجديد الكبير الذي أضافه الشيخ إلى تاريخ المذاهب العالمية. ثم إنه قد عرض نظرية
وحدة الوجود ضمن نسيج مشبع بالجدلية الشديدة الحيوية، بحيث يصح الزعم بأن ابن عربي
هو أول فيلسوف جدلي في تاريخ الجنس البشري. وفضلاً عن ذلك، فإنه قد خلَّص مقولة
"الوجد" من ميدان التجريد الذهني القاحل إلى مناخ ذاتي، يمزج الفكر
بالوجدان الذوقي الشفاف، ولاسيما وجدان الحب الذي هو برهة ضرورية لازمة لهذا
المذهب الكوني الشامل. وبفضل هذه المزية الأخيرة يختلف ابن عربي عن فلاسفة يونان،
وكذلك عن اسبينوزا وشلِّنغ وهيغل، الذين سوف يتبنون مبدأ وحدة الوجود، ولكن على
نحو تجريدي ذهني، ذي طابع آلي فقير إلى الروحانية، أو إلى كلِّ عاطفة وخيال.
إن التاج الذي يتوِّج مذهب ابن عربي
هو أنه جعل من الإنسان غاية غايات الوجود. أما غاية الإنسان نفسه فهي الكمال
حصرًا. وفضلاً عن ذلك، فقد ذهب الشيخ إلى أن التذاذ الإنسان بكماله هو أشد أصناف
الالتذاذ. وفي هذا ثمة سموٌّ شاهق عظيم.
وفي مذهبه أن الشفقة على الناس هي
واحدة من أبرز المناقب الأخلاقية، وأن إقامة النشأة الإنسانية ورعايتها وتعهدها
بالصيانة أَوْلى من هدمها أو إلحاق الأذى بها. وبما أن الإنسان ما خُلِقَ إلا من
أجل الكمال، فإن "من سعى في هدمه فقد سعى في منع وصوله لما خُلِقَ له"،
على حدِّ قول الشيخ في الفص الثامن عشر من فصوص الحكم.
ولقد بجَّل الشيخُ الإنسانَ كثيرًا،
بحيث صار في ميسوركَ أن تقول بأن مذهب ابن عربي هو المذهب الإنساني، أو بأن الشيخ
هو من أسَّس المذهب الإنساني الذي لم يتبلور قبله في أية فلسفة تبلورًا ناصعًا،
ولو أنه عرف الإشارات في مذاهب الفلسفة اليونانية، ولاسيما المذهب الرواقي حصرًا.
يقول ابن عربي في الجزء الثاني من الفتوحات:
فلما أراد الله كمال هذه النشأة الإنسانية، جَمَعَ لها بين يديه وأعطاها
جميع حقائق العالم، وجَعَلَها روحًا للعالم، وجعل أصناف العالم كالأعضاء من الجسم
المدبِّر له. فلو فارَقَ العالمَ هذا الإنسانُ مات العالم.
ويقول في موضع آخر من الكتاب نفسه:
أنت المصباح والفتيلة والمشكاة والزجاجة.
وهذا يعني أن الإنسان الذي رآه ابن
عربي بوصفه سرَّ العالم وروحه وعلَّة وجوده، لا يقل عن كونه القيمة العليا التي لا
تبذها أية قيمة دنيوية أُخرى. وبذلك صار الكائن البشري ماهيةً جليلة عظيمة المقدار
في مذهب الشيخ. وإذا ما تذكَّر المرءُ أن البنيوية، مع ميشيل فوكو، قد أعلنتْ موت
الإنسان والعالم كليهما، فإنه سوف يدرك الفرق الكبير بين هذه الحضارة الحديثة،
التي أُسمِّيها حضارة السخام، وبين الحضارات القديمة التي قدَّست الإنسان وجعلتْه
الكائن الوحيد الذي يستحق السُّكنى إلى جوار الله سبحانه.
بيد أن مذهب وحدة الوجود قد بلغ
أوْجَه حين قال بمبدأ الحبِّ الشامل الذي تحدث عنه الشيخ الأكبر كثيرًا في الفتوحات، كما تحدث عن لوازمه، ولاسيما الجمال والمرأة. ففي اعتقاد الشيخ أن العالم
هو التجلِّي المثالي للجمال، وأنه ما ثمة إلا الجمال وحده. وهو يحمد الله لأنه
أظهر الجمال وسَتَرَ القبح. وعنده أن الجمال سبب الحب؛ وحسب الجميل أن يكون لكي
يُعشَق على الفور.
أما المرأة فما من أحد أكرمها كما فعل
الشيخ سوى الرسول (ص). ففي اعتقاد الشيخ أنه لا يعرف قيمة المرأة إلا من عرف سبب
وجود العالم. بل لقد ذهب الرجل مذهبًا لم يقل به من قبل أيُّ صوفي أو فيلسوف، وذلك
حين قال في الفص السابع والعشرين من فصوص الحكم إن في المرأة
يكتمل ظهور الحقيقة، وذلك لأنها الكائن الوحيد الذي يتبدى فيه الحق فاعلاً
ومنفعلاً في آنٍ واحد.
بيد أن أنصع برهة عبَّر بها الشيخ عن
مذهبه في الحبِّ الشامل، الذي من شأنه أن يعانق جميع أصناف البشر دون تمييز، فهي
تلك التي انطوى عليها ديوانُه ترجمان الأشواق. وهذه هي بعض الأبيات أقبسها من تلك القصيدة النادرة المشهورة التي طالما
درسها الدارسون:
لقد صار قلبي
قابلاً كلَّ صورة .. فمرعى لغزلان، ودير لرهبـان
وبيت لأوثـان،
وكعـبة طائف .. وألواح توراة، ومصحف قرآن
أدين بدين الحب
أنَّى توجَّـهتْ .. ركـائبُه، فالحب ديني وإيماني
إذن، لقد صار الحبُّ ديانة الشيخ
ومذهبه؛ أو لعله أن يكون واحدًا من أمتن ركائز ذلك المذهب.
ولقد أطلق الشيخ الأكبر اسم
"الهوى"، الذي هو الحب، على الله سبحانه، وذلك في هذا البيت الشعري
اللافت للانتباه:
وحقِّ الهوى،
إن الهوى سببُ الهوى . ولولا الهوى في القلب ما عُبِدَ الهوى
ولعل مما هو بيِّن أن كلمة
"الهوى" الثالثة في هذا البيت هي وحدها التي تعني الحب؛ أما
"الهوى" في المواقع الأربعة الأخرى فلا تعني سوى "الله"
سبحانه وتعالى.
ولكن السؤال الذي لا بدَّ له أن يخطر
في البال هو هذا: لماذا راح ابن عربي يتبنَّى المذهب الإنساني وما يقتضيه من
التزام بمبدأ المحبة الشاملة أو مبدأ الإخاء البشري؟ ألا يجوز الزعم بأن الزمن
الذي عاش فيه قد كان بمثابة الحاضنة التاريخية التي أنبتت ذلك المذهب ذا النزعة
الإنسانية؟ وهل من فكر خارج التاريخ؟ فمن غير المعقول أن تتشكَّل المذاهب
والفلسفات بمعزل عن أزمانها، أو على حيدة من ظروفها التاريخية والاجتماعية
والثقافية.
يتمتع الشيخ بخيال سوريالي فذٍّ ونادر
المثال في التراث العربي كلِّه. ولقد دفعه ذلك الخيال العارم أو المتفوِّر إلى
التوكيد على أن العالم يتألف من الصور وحدها. يقول في الجزء الثاني من الفتوحات
المكية: "ما في العالم إلا صور." والجدير بالتنويه
في هذا المقام هو أن الشيخ قد كان أول رائد يعمل باتجاه صياغة نظرية في الخيال من
شأنها أن تحدِّد ماهيته ووظيفته النفسية. ولكم أصاب حين رآه بوصفه برهة وساطة بين
"المعقول والمحسوس"، على حدِّ قوله، أو بين التجريد والتجسيد، إذا ما
تكلَّم المرء بلغة عصرنا؛ وكذلك حين ميَّزه عن العقل، إذ رأى العقل "معقولاً"،
أي مربوطًا، أو مقيَّدًا بالحقائق، بينما جاء الخيال حرًّا طليقًا، يصعد ويهبط
كيفما يشاء. وهذا يعني أن الخيال مظهر من مظاهر الحرية التي حُرِمَ العقلُ منها
لأنه مشدود إلى الوقائع والمعاني التي تندُّ عن كلِّ زوغان. ولكن الشيخ تطرَّف ذات
مرة وزعم في الفصوص بأن "العالم كله خيال في خيال".
ويقف ابن عربي موقفًا إنسانيًا نبيلاً حين يُبدي إشفاقه على البشر، وحين
يجعل الإنسان أكبر قيمة في هذه الدنيا الدنيَّة، أو حين يرى فيه الغاية النهائية
لهذا الوجود كلِّه.
إن علاقة الشيخ الأكبر باللغة
العربية، أو درايته بها وبفقهها، لا تبذها أية خبرة أخرى، حتى وإن كانت خبرة ابن
فارس أو ابن جني.
في الشيخ عاشق دافئ الفؤاد، ذو شعور
روحي عميق وأصيل؛ ومن شأن هذه الحال أن تجعل نصوصه مأنوسة، أو ذات وَقْعٍ يملك أن
ينعش روح الإنسان.
ثمة شاعر جذاب في داخل ابن عربي – وإن
كان شعره لا يخلو من ذلك التليُّف الذي ألمَّ باللغة الشعرية في العالم العربي قبل
ولادته بكثير.
ويتمتع الشيخ بالقدرة على التعبير الرمزي النازح إلى البعيد. ولا يخفى على
قارئه أن بعض رموزه يكتنفها غموضٌ شديد، كثيرًا ما يجرُّ النص إلى برهة الانبهام
المغلق. ويبدو أنه كان يتعمد هذا الصنف من أصناف التشكيل الرمزي، وذلك لكي لا
يستوعب أقواله سوى أتباع مذهبه وحدهم.
وأيًا ما كان جوهر الأمر، فإن ابن
عربي واحد من أندر الكتَّاب الذين كتبوا باللغة العربية، منذ بداية النثر العربي
وحتى يوم الناس هذا. وربما جاز القول بأن نزعته الإنسانية الأصيلة هي أفضل ما لديه
من نزعات. فالإنسان القادر على أن يكون إخائيًّا هو أرقى أصناف البشر. ولا مرية في
أنه قد أثَّر في المذهب الإنساني الذي عرفه طورُ النهضة الأوروبية بعد وفاته
بثلاثة قرون. كما أثَّر – ولو على نحو غير مباشر – في المنظومة الأخلاقية الجليلة
التي تركها إمانويل كانت، والتي استولدها ذلك الألماني من صوفيات الشرق وأديانه،
عند كلِّ مَن عَقَلَ أو تخلَّص من عقدة الخواجه. وربما جاز الظن بأنه كان أسبق
الفلاسفة إلى التأكيد على أن الإنسان هو الغاية التي ما بعدها غاية، أو القيمة
التي لا تبذها أية قيمة دنيوية أُخرى على الإطلاق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق