بصدد حديثه عن شغف المسلمين في القرون الوسطى بالكتب واقتنائها، وكثرة العلماء والمؤلفين يقول مؤرخ الحضارة الكبير " ول .ديورانت " في كتابه الضخم (قصة الحضارة ) : " إن عدد العلماء في آلاف المساجد المنتشرة في البلاد الإسلامية من قرطبة إلى سمرقند لم يكونوا يقلون عن عدد ما فيها من الأعمدة " و في وسعنا أن نستدل من هذا القول على ضخامة ما خلفه علماء المسلمين – الذين لا يكاد يحصيهم العد – من تراث علمي وفكري وأدبي، ابتداء من الرسائل الصغيرة إلى الموسوعات الضخمة .
وإذا كان "ول . ديورانت " قد أشار إلى البعد المكاني لانتشار علماء المسلمين من قرطبة غربا إلى سمرقند شرقا فإن البعد الزمني يساعدنا في تمثل ضخامة هذا التراث وفي تفسير هذه الضخامة كذلك . فعلى مدى ثمانية قرون ، ابتداء من القرن الثاني الهجري ( الثامن الميلادي ) إلى نهاية القرن التاسع الهجري ( الخامس عشر الميلادي ) كان علماء المسلمين يشتغلون بالعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية والطبية والرياضية وسائر المعارف القديمة... ومحصلة هذين البعدين المكاني والزماني ، ترينا أن أي مدى بلغت ضخامة التراث العربي، ويكفي أن نذكر في هذا الصدد مكتبة قرطبة في الأندلس ( في عهد المستنصر في منتصف القرن الرابع الهجري ) التي جمع فيها المستنصر عن طريق وكلائه في شتى الأقطار الإسلامية نسخا مما ألفه علماء المسلمين إلى عهده، ويقال إن هذه المكتبة كانت تضم أربعمائة ألف مجلد. ولنا أن نتصور كم كانت خزائن " دار الحكمة " التي أنشأها الخليفة العباسي المنصور في بغداد تضم من مؤلفات، وكذلك "دار العلم " ، التي أنشأها الفاطميون في مصر ؛ فقد كانت هذه الدار من أعظم الخزائن التي عرفها العالم الإسلامي فيما مضى، وأكثرها جمعا للكتب النفيسة من جميع العلوم . هذا عدى المكتبات وخزائن الكتب العامة والخاصة التي لا يمكن حصرها.
ليس في وسع أحد أن يتصور حجم ما خطته أقلام العلماء والمفكرين والأدباء من المسلمين في شتى فروع المعرفة في حدود ما تبقى منه حتى يومنا هذا ، فضلا عما امتدت إليه نوازل الزمن من بالتبديد أو الإحراق أو الضياع . فمن المعلوم تاريخيا أن حدث سقوط بغداد في أيدي التتار كان نذير شؤم للتراث الذي خلفه أسلافنا المسلمون ؛ وقد "روي أن مياه دجلة جرت سودا من كثرة ما ألقي فيها من الكتب والصحائف" ، وكذلك تعرض هذا التراث في الأندلس لمحنة فظيعة ، بعد انتهاء دولة المسلمين هناك وسقوط غرناطة سنة 1492 م ؛ فقد أمر الكاردينال فرنسيسكو خيمينيث دي ثيسنيروس عراف الملكة إيزابيل فاتحة غرناطة، وصاحب النفوذ السياسي الهائل بإحراق الكتب العربية في ساحة باب الرملة في غرناطة د، ولا سيما ما كان متصلا بالأدب أو الفكر أو الدين ، وبخاصة المصاحف المخطوطة ، وبأن تباد كل الكتب العربية نهائيا من كل إسبانيا. و يفوق عدد المخطوطات التي أحرقت أنذاك كل تصور . حيث قدرها أكثر الباحثين بثمانين ألف كتاب. وعلى بعد خمسين كيلومترا من مدريد شيد سنة 1567 م دير ضخم جمعت إلى مكتبته بقايا نفائس المخطوطات التي سلمت من ذلك الحريق فكانت بضعة آلاف مجلد ، ثم ضم إليها نحو أربعة آلاف مخطوط سنة 1720م حين استولى بعض قراصنة الإسبان على مركب السلطان زيدان سلطان فاس، وكانت تلك المخطوطات في جملة الآثار النفيسة التي سلبوها من ذلك المركب. و بهذا بلغت المخطوطات في مكتبة الإسكوريال نحو عشرة آلاف مخطوط .
و في 7 حزيران عام 1761 م سقطت صاعقة على الدير أحرقت قسما كبيرا من هذه المخطوطات، و لم يسلم منها سوى ألفي مجلد لا تزال إلى عصرنا في تلك الخزانة التاريخية"
وهذا غيض من فيض عن الأرقام المذهلة لأعداد الكتب التي احتوتها المكتبات العربية العامة والخاصة في العالم الإسلامي القديم؛ منذ ميلاد وازدهار الحضارة الإسلامية إلى بلوغ أوجها ثم تقهقرها منتصف القرن السابع الهجري أمام الغزو المغولي وسقوط بغداد سنة 656 هـ وإلى وقوع البلاد الإسلامية تحت الحكم العثماني منذ سنة 923 هـ، مع الوضع بعين الاعتبار ما أفلت من نوازل الزمن من هذه الكتب والتي مازال منها ما يشغل مكانا يتفاوت ضخامة وضآلة في مكتبات العالم الكبرى إلى يومنا هذا ، نذكر منها المكتبة الضخمة بمدينة " ألماآتا " عاصمة كازاخستان، و مكتبة الجامعة الكاثوليكية الأمريكية في واشنطن .
وتراث كل أمة هو نسغها الحضاري، وجذورها الممتدة في أعماق التاريخ، ومن أجل هذا تحرص جميع الأمم المتوثبة للنهوض والتطور في تأسيسها لواقعها الجديد على النبش والحفر في تراثها، ومن ثمة الفرز والغربلة وانتقاء ما هو صالح لروح عصرها، وما يمكن أن يكون له مغزى ودور فعال في بناء واقعها الجديد.
لكن ما يدعونا للأسف هو واقع حال الأمة العربية التي ما انفكت تحاول النهوض منذ استقلال أقطارها وتحرر اغلب شعوبها من براثن الاستعمار الغربي التقليدي منذ ما يربو عن قرن ونصف قرن، ومع كل ما بذل باحثوها ومفكروها وتواصل النشاط من جانب المجامع اللغوية والجامعات والهيئات العلمية في البحث عن الكتب والمخطوطات التراثية العربية الاسلامية وتحقيقها وإعادة طبعها بداية من عصر النهضة إلى يومنا هذا، أقول على الرغم من كل هذا تواصل هذه الجهود من جانب المجامع العربية والجامعات والهيئات العلمية مايزال ما جمع وحقق ونشر من هذا التراث – على قيمته العظيمة – هزيلا جدا بالنظر إلى حجمه، هذا من جهة الالتفات إلى جمعه وتحقيقه ونشره، ومن جهة أخرى ما تزال الدراسات المتعلقة بهذا التراث حيية تتلمس طريقها ببطء جيلا بعد جيل نحو بناء تصور أشمل وأعمق لهذا التراث ولمضامينه الإنسانية.
فكم نحن بحاجة إلى تفعيل هذين الدورين وتجنيد الجهود البشرية والمادية بهدف استنباط المضامين الفكرية والروحية والإنسانية بعامة، التي تمثل جوهر هذا التراث.
آمنة تباني / الجزائر
