عبقرية اللغة العربية..الكاتبة الجزائرية آمنة تباني

إن من يتأمل التراث العربي الخالد، ويقرأ بعمق نتاج الأدباء والبلغاء عبر العصور، سيدرك يقينا أن اللغة العربية تنفرد عن غيرها من اللغات بقوة البيان وسحر التعبير. فقد استطاع أصحابها تطويع ألفاظها ببراعة فائقة، ليجعلوا من المعاني العميقة صورا واضحة وجلية، وتفننوا في أساليب البلاغة حتى وصلوا بها إلى مراتب الإبداع.
ويكفي الباحث في جماليات هذه اللغة أن يمر على نماذج تاريخية خالدة؛ مثل دفاع "النعمان بن المنذر" عن أصالة العرب أمام كسرى، أو الحكم والأمثال البليغة المأثورة عن "الإمام علي بن أبي طالب"، وصولا إلى خطباء صدر الإسلام المفوهين كزياد والحجاج. ثم تلا ذلك عصر "كتاب الرسائل" الذين زخرفوا اللغة بأقلامهم، كعبد الحميد الكاتب وابن المقفع والصاحب بن عباد؛ فصاغوا نصوصا تدهش العقل وتطرب الوجدان، فكانت ألفاظهم لينة كالشمع، ومعانيهم واضحة كضوء الصبح، وكأن قارئ نصوصهم يتجول في رياض غناء تجري من تحتها الأنهار.
ورب متسائل عن سر عظمة العربية نقول له إن السر يكمن في كونها الوعاء المثالي للمعاني؛ فهي الثوب الذي يمنح الفكرة جمالها وزينتها. وقد ملك العرب ناصية لغتهم، فاشتقوا منها ما شاؤوا، وتصرفوا في فنون المجاز والاستعارة والكناية، فكانوا يعبرون عن المعنى الواحد بطرق شتى، تتراوح بين الاختصار البليغ والإطالة الممتعة، وهو ما أعطى العربية صبغة الإعجاز .
هذا التفوق والكمال اللغوي لم يأت فجأة، بل كان ثمرة قرون من التراكم المعرفي وتتابع البلغاء، حتى ترسخت الملكة اللغوية في الألسن. وظلت اللغة تتطور وتزداد رقة وعذوبة جيلا بعد جيل، حتى أصبحت لغة الروح والوجدان قبل أن تكون لغة الكتابة والخطابة.
ولكن، أتى عليها دهر من الزمن وتبدلت الأحوال، فغابت شمس الازدهار اللغوي وضعف شأن أهلها، فهجرت أساليبها الرصينة وجفت أقلام كتابها، حتى أصبحت كنوزها حبيسة الخزائن والمخطوطات القديمة. ولم يبق منها في العصور المتأخرة إلا لغة هزيلة، تشكو الركاكة واللحن والسطحية والبساطة الممجوجة واضطر الكتاب في الكثير من الأحيان لاستعارة كلمات أعجمية لعدم قدرتهم على تطويع مفردات لغتهم الأصلية.
لكننا مع ذلك لم نعدم وجود جنود مخلصين من الأدباء والمثقفين ممن كرسوا أقلامهم وجهودهم لإحياء ما اندثر من معالمها، مستلهمين خطى المتقدمين ومحاولين محاكاة بلاغة الكبار، سعيا لاستعادة مجد هذا اللسان العربي المبين.

تعليقات