أمام مرآة غرفتها بالفندق وقفت الكاتبة المعروفة "أماني" تتأمل أناقتها قبل المؤتمر المنعقد بذات الفندق بعد قليل، وكان المؤتمر قد انعقد لمناقشة روايتها الحاصلة على أكبر جائزة يحصل عليها روائي، كذلك للرد على أسئلة الصحفيين المصطفين على الجانبين من مدخل المؤتمر، إنه لشيء مرعب حقا، لذلك وقفت تراجع أمام المرآة ما سوف تقوله للجمهور وهي متوترة قليلا: قرائي الأحباء، لا، فأغلبهم ليسوا من قرائي، سيداتي سادتي، ولا هذه أيضا، فماذا تركت لمقدم المؤتمر إذن؟ أعزائي الحضور، نعم هذه تليق، أعزائي الحضور أشكر اهتمامكم بكتاباتي وروايتي "عن الحاضر الغائب اتحدث"، في الواقع هي أروع ما كتبت على الإطلاق.
التفتت جانبا عن المرآة متلعثمة وكأنها تتوارى عن الجمهور، لتدير حديثا جانبيا مع نفسها: لقد علمني كل شيء هذا الأحمق "نديم"، ولكنه لم يعلمني كيف أواجه الجمهور، ليت كان هذا المؤتمر قبل رحيله ليساندني كما كان يفعل دائما، أتذكر حين كنت أعاني من الضجيج ولا أستطيع كتابة كلمة بسببه، أتذكر كيف علمني مواجهة الضجيج بكل بساطة، قال لي بصوته الخشن: كنت مثلك أعاني من الضجيج، وعندما سافرت إلى دولة مفعمة بالضجيج وجدته غير مؤثر على الإطلاق، وذلك لأنني لا أعرف حرفاً من لغتهم، وكنت فيهم كالأبكم الأصم، فعلمت أن الضجيج الحقيقي هو الكلمات التي تعرفينها حين تنطلق في محيطك وتعلق بعقلك الباطن، وعلاجها ألا تعتبري هذه اللغة لغتك وتمضي نحو هدفك الراسخ في عقلك الباطن من كلمات تعرفينها.
هكذا تعلمت منه مواجهة الضجيج وكانت أسهل الطرق لمواجهته.
يقرع أحدهم باب غرفتها: -سيدتي، باقي على نزولك قاعة المؤتمر أقل من ربع ساعة وعليك أن تستعدي.
أجابته: -حاضر، سأكون بالقاعة قبل ذلك.
وقفت مجددا أمام المرآة تهيئ نفسها وتبدأ في مواجهة جمهورها في شخص المرآة: أعزائي الحضور، أرجو منكم التماس العذر إذا بدا ارتباكي قليلا، فأنا لم أعتد على حضور مثل هذه المؤتمرات من قبل.
توارت عن المرآة مجددا لتتحدث إلى نفسها: -لا، حضرت كل المؤتمرات التي اصطحبني بها نديم، أنا أكذب على نفسي، لقد تسلمت معه جائزتين في دولتين مختلفتين، أتذكر آخرهما وكان باقي على حضورنا المؤتمر أقل من نصف ساعة، وكنا في طريقنا لقاعة المؤتمر، وفجأة، وقعت عيونه على حديقة شبه خالية من الناس رغم أنها تشبه الجنة في جمالها، نظر في ساعته ثم التفت لي وقال: -لازال أمامنا متسعٌ من الوقت، لنقضيه معا في تلك الخميلة.
صمتت قليلا وكأنها ركبت قطار العودة للذكريات تستعيد تلك اللحظات، حين عانقها بجانبه الأيسر بقوة، ثم جذبها أمامه وعانقها بشوق زائد عن المعتاد رؤيته في أفلام السنيما، فرت منه جالسة على نجيلة الحديقة ناصعة الخضار، وبدوره قفز وجلس بجانبها يبادلها أروع لحظات الحب الذي لم تره في قصص العشاق، ويستفيقا على رطوبة تتسلل إليهما، يبدو أن البستاني بالغ قليلا في رش النجيل فأصبحا مبتلين ينظر كل منهما إلى مؤخرة الآخر المبتلة ويضحك، وفجأة، ينظر إلى ساعته ويقول: المؤتمر على وشك الانعقاد! لم يكن نديم الذي قال، بل كان مساعد منظم المؤتمر يذكرها بأن الربع ساعة قد مضت، فأجابته بصوت دموعها المرتعش: -حاضر، أوشكت على الانتهاء.
مسحت عتبات جفنيها حتى لا تسقط دموعها فتتلف المكياچ الذي عانت في رسمه ساعات، ووقفت مجددا أمام المرآة ممسكة جفنيها بمنديل تمنع الدموع التي سلكت طريقا آخر حين ارتعشت الشفاة رعشة الحزن والشوق والبكاء، لقد أقنعت المرآة بالاعتذار عن حضور المؤتمر، خرجت مسرعة لتلحق بالمنظم وتعتذر عن الظهور بالمؤتمر، ولكنها اصطدمت بباقة زهور مواجهة لباب غرفتها تهنئها بالجائزة وتوصيها بالثبات مكتوب بها: اثبتي ولا تتلعثمي حبيبتي وتذكري أن الضجيج لا يأتي إلا لو أصغينا لكلماته التي نعرفها، حبيبك نديم.
اقتربت وهي في حالة ذهول، دعست عينيها لتتأكد أن ما تراه صحيحا، إنه خط "نديم" لا شك في ذلك، ولكن كيف، نظرت حولها بعيون فاحصة لكل ركن بطرقة الغرف، تسير نحو القاعة تائهة، يسير بجوارها منظم المؤتمر يحدثها وهي لا تسمعه، اعتبرت ضجيجه كلمات متناثرة في محيطها، زحام رجال الصحافة والتليفزيون من حولها لم يهزوا لها طرفة عين، لم يستوقفها في هذه اللحظات غير وجود "عصمت" صديق "نديم" وهو يهز لها رأسه ليعطيها الثقة، ففهمت على الفور بأن الرسالة كتبها نديم بخط يده وأعطاها لصديقه كوصية وهو على فراش موته، حتى يكون موجودا في يوم تتويجها بالجائزة الكبرى، صعدت إلى منصة المؤتمر، لم تجلس عليها، بل أخذت ميكروفون مقدم المؤتمر وتحدثت إلى الحضور واقفة: -أعزائي الحضور، عن الحاضر الغائب أتحدث، لا أقصد تكرار اسم روايتي، ولكني أتحدث عن صاحب وحيها، نعم، إنه وحيي وأستاذي وحبيبي، مَن لا يصدق بأنه بيننا اليوم روحا، يذهب إلى باقة الزهور أمام باب غرفتي ليرى توقيعه بتهنئتي، وإن كان مَن حملها صديقه وليس هو، أشعر بأنفاسه جواري الآن، أشعر به يؤازرني لأثبت أمامكم في أول مؤتمر لي بينكم، "عن الحاضر الغائب أتحدث" الرواية لم تكن إبداع روائية، بل كانت حُبَّا يحرك القلم بالمشاعر.
لم تستطع إيقاف نزيف دموعها فتساقطت ومعها خطوط من الكحل الأسود، فصفق لها الحضور ووقف أحد الصحفيين يسألها: -لمَن اليوم تهدي الجائزة؟
أجابته بلا تلعثم: -إلى استاذي وحبيبي الحاضر الغائب "نديم".
هلل الحضور بتصفيق وصيحات تشبه الصراخ، لصراحتها وجراءتها وحبها، وبدأت الكاميرات تلتقط لها الصور بشغف وأصوت تكتكات الكاميرات تكاد تغطي أصوات الجمهور، حتى ظهرت باليوم التالي بجميع المجلات غلافا يظهر جمال وجهها ولكن بخطين من الكحل بادئين من العين إلى أسفل الخدين. وبينما كان الجميع يحتفل بنجاح النجمة الموهوبة، كانت تحتفل هي مع حبيبها، مصطحبة معها نفس باقة الزهور ومعايدته عليها تتجاذب معه الحديث، كانت جالسة بجوار لحده وكأنها تراه وتشعره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق