.post-outer {-webkit-touch-callout:none; -webkit-user-select:none; -khtml-user-select:none; -ms-user-select:none; -moz-user-select:none;}

بحث

الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم أجمعين

أبو بكر الصديق
رضي الله عنه


أولا : اسمه ونسبه وكنيته وألقابه :
هو عبدالله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي ابن غالب القرشي التيمي ، ويلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في النسب في الجد السادس مرة بن كعب ويكنى بأبي بكر ، وهي من البكر وهو الفتي من الإبل ، والجمع بكارة وأبكر ، وقد سمت العرب بكرا ، وهو أبو قبيلة عظيمة .
ولُقب أبوبكر، بألقاب عديدة كلها تدل على سمو المكانة، وعلو المنزلة وشرف الحسب منها:
- العتيق:
لقبّه به النبي ؛ فقد قال له: (أنت عتيقُ الله من النار) فسُمِّيَ عتيقاً وفي رواية عائشة قالت: دخل أبو بكر الصديق على رسول الله ، فقال له رسول الله: (أبشر فأنت عتيق الله من النار) ، فمن يؤمئذ سُمي عتيقاً، وقد ذكر المؤرخون أسباباً كثيرة لهذا اللقب، فقد قيل: إنما سمي عتيقاً لجمال وجهه، وقيل لأنه كان قديماً في الخير، وقيل سمي عتيقاً لعتاقة وجهه، وقيل إن أم أبي بكر كان لايعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به الكعبة وقالت: اللهم إن هذا عتيقك من الموت فهبه لي، ولا مانع للجمع بين بعض هذه الأقوال، فأبي بكر جميل الوجه، حسن النسب، صاحب يد سابقة الى الخير، وهو عتيق الله من النار بفضل بشارة النبي  له.
2- الصديق:
لقبه به النبي  ففي حديث أنس  أنه قال: أن النبي  صعد أحداً، وأبوبكر، وعمر، وعثمان، فوجف بهم فقال: اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان.

وقد لقب بالصديق لكثرة تصديقه للنبي ، وفي هذا تروي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فتقول: لما أسري بالنبي  الى المسجد الاقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناسُ، كانوا آمنوا به وصدقوه وسعى رجال الى أبي بكر، فقالوا: هل لك الى صاحبك؟ يزعم أن أسري به الليلة الى بيت المقدس! قال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك فقد صدق. قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة الى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟!! قال نعم ، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبوبكر الصديق.
وقد أجمعت الأمة على تسميته بالصديق لأنه بادر الى تصديق الرسول  ولازمه الصدق فلم تقع منه هناة أبداً، فقد اتصف بهذا اللقب ومدحه الشعراء:


قال ابو محجن الثقفي:
          وسُمِّيت صديقاً وكل مهاجر
                          سواك يُسَمَّى باسمه غير منكر
          سبقت إلى الإسلام والله شاهد
                          وكنت جليساً في العريش المشهر
وأنشد الأصمعي، فقال:
          ولكني أحبّ بكل قلبي
                          وأعلم أن ذاك من الصواب

          رسول الله والصدِّيق حبَّاً
                                                                                                                         

أرجو غداً حسن الثواب

- الصاحب:
لقبه به الله عز وجل في القرآن الكريم: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة، الآية:40) وقد أجمع العلماء على أن الصاحب المقصود هنا هو أبوبكر ، فعن أنس أن أبا بكر حدثه فقال: قلت للنبي  وهو في الغار: لو أن أحدهم نظر الى قدميه لأبصرنا تحت قدميه!! فقال النبي: (ياأبابكر ماظنك باثنين الله ثالثهما)
قال الحافظ رحمه الله: ومن أعظم مناقبه قول الله تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا......... إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}فإن المراد بصاحبه هنا أبوبكر بلا منازع، والاحاديث في كونه كان معه في الغار كثيرة شهيرة ولم يشركه في المنقبة غيره.
4- الأتقى:
لقبه به الله عز وجل في القرآن العظيم في قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى}

(سورة الليل، الآية: 17). وسيأتي بيان ذلك في حديثنا عن المعذبين في الله الذين أعتقهم أبوبكر.
5- الأواه:
لقب أبو بكر بالأواه وهو لقب يدل على الخوف والوجل والخشية من الله تعالى، فعن ابراهيم النخعي قال: كان أبوبكر يسمى بالأواه لرأفته ورحمته.
ثانياً: مولده وصفته الخَلْقية:
لم يختلف العلماء في أنه ولد بعد عام الفيل، وإنما اختلفوا في المدة التي كانت بعد عام الفيل، فبعضهم قال بثلاث سنين، وبعضهم ذكر بأنه ولد بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر، وآخرون قالوا بسنتين وأشهر ولم يحددوا عدد الأشهر، وقد نشأ نشأة كريمة طيبة في حضن أبوين لهما الكرامة والعز في قومهما مما جعل أبا بكر ينشأ كريم النفس، عزيز المكانة في قومه.
وأما صفته الخِلقية، فقد كان يوصف بالبياض في اللون، والنحافة في البدن، وفي هذا يقول قيس بن أبي حازم: دخلت على أبي بكر، وكان رجلاً نحيفاً، خفيف اللحم أبيض، وقد وصفه أصحاب السير من افواه الرواة فقالوا: أن أبا بكر  اتصف بأنه: كان أبيض تخالطه صُفرة، حسن القامة، نحيفاً خفيف العارضين، أجنأ، لايستمسك إزاره يسترخي عن حقويه رقيقاً معروق الوجه، غائر العينين، اقنى، حمش الساقين، ممحوص الفخذين، وكان ناتئ الجبهة، عاري الأشجاع ويخضب لحيته، وشيبه بالحناء والكتم.
ثالثاً: أسرته:
أما والده، فهو عثمان بن عامر بن عمرو يكنى أبا قحافة أسلم يوم الفتح، وأقبل به الصديق على رسول الله  فقال: ياأبا بكر هلا تركته، حتى نأتيه، فقال أبوبكر: هوأولى أن يأتيك يارسول الله، فأسلم أبو قحافة وبايع رسول الله ، ويروى أن رسول الله  هنأ أبا بكر بإسلام أبيه، وقال لأبي بكر غيروا هذا من شعره، فقد كان رأس أبي قحافة مثل الثغامة.
وفي هذا الخبر منهج نبوي كريم سنَّهُ النبي  في توقير كبار السن واحترامهم ويؤكد ذلك قوله  (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا)
صغيرنا).
وأما والدة الصديق، فهي سلمى بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم وكنيتها أم الخير أسلمت مبكراً وسيأتي تفصيل ذلك في واقعة إلحاح أبي بكر على النبي  على الظهور بمكة.
وأما زوجاته؛ فقد تزوج  من أربع نسوة أنجبن له ثلاثة ذكور وثلاث إناث وهنّ على التوالي:
1- قتيلة بنت عبدالعزى بن أسعد بن جابر ابن مالك:
اختلف في إسلامها، وهي والدة عبدالله وأسماء وكان أبوبكر طلقها في الجاهلية- وقد جاءت بهدايا فيها أقط وسمن الى إبنتها أسماء بنت أبي بكر بالمدينة، فابت أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها فأرسلت الى عائشة تسأل النبي  فقال النبي: (لِتُدْخِلها ولتقبل هديتها)، وأنزل الله عز وجل {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (سورة المتحنة، الآية:8) أي لايمنعكم الله من البر والإحسان وفعل الخير الى الكفار الذين سالموكم ولم يقاتلوكم في الدين كالنساء، والضعفة منهم كصلة الرحم، ونفع الجار، والضيافة، ولم يخرجوكم من دياركم، ولايمنعكم أيضاً من أن تعدلوا فيما بينكم وبينهم، بأداء مالهم من الحق، كالوفاء لهم بالوعود، وأداء الأمانة، وإيفاء أثمان المشتريات كاملة غير منقوصة، إن الله يحب العادلين، ويرضى  عنهم، ويمقت الظالمين ويعاقبهم

- أم رومان بنت عامر بن عويمر:
من بني كنانة بن خزيمة، مات عنها زوجها الحارث بن سخبرة بمكة، فتزوجها أبوبكر، وأسلمت قديماً، وبايعت، وهاجرت الى المدينة وهي والدة عبدالرحمن وعائشة رضي الله عنهم، وتوفيت في عهد النبي  بالمدينة سنة ست من الهجرة.

- أسماء بنت عُمَيس بن معبد بن الحارث:
أم عبدالله، من المهاجرات الأوائل، أسلمت قديماً قبل دخول دار الأرقم، وبايعت الرسول ، وهاجر بها زوجها جعفر بن أبي طالب  الى الحبشة، ثم هاجرت معه الى المدينة فاستشهد يوم مؤتة، وتزوجها الصديق فولدت له محمداً روى عنها من الصحابة : عمر، وأبو موسى، وعبدالله بن عباس، وأم الفضل امرأة العباس، فكانت أكرم الناس أصهاراً فمن أصهارها: رسول الله وحمزة، والعباس وغيرهم.
4- حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير:
الانصارية، الخزرجية وهي التي ولدت لأبي بكر أم كلثوم بعد وفاته وقد أقام عندها الصديق بالسُّنح.

وأما أولاد أبي بكر رضي الله عنهم فهم:
1- عبدالرحمن بن أبي بكر:
أسن ولد أبي بكر: أسلم يوم الحديبية، وحسن إسلامه وصحب رسول الله وقد
إشتهر بالشجاعة وله مواقف محمودة ومشهودة بعد إسلامه.
2- عبدالله بن أبي بكر:
صاحب الدور العظيم في الهجرة، فقد كان يبقى في النهار بين أهل مكة يسمع أخبارهم ثم يتسلل في الليل الى الغار لينقل هذه الأخبار لرسول الله وأبيه، فإذا جاء الصبح عاد الى مكة، وقد أصيب بسهم يوم الطائف، فماطله حتى مات شهيداً بالمدينة في خلافة الصديق.
3- محمد بن أبي بكر:
أمه أسماء بنت عميس، ولد عام حجة الوداع وكان من فتيان قريش، عاش في حجر علي بن أبي طالب، وولاه مصر وبها قتل.
4- أسماء بنت أبي بكر:
ذات النطاقين أسن من عائشة، سماها رسول الله  ذات النطاقين لأنها صنعت لرسول الله  ولأبيها سفرة لما هاجرا فلم تجد ماتشدها به فشقت نطاقها، وشدت به السفرة فسماها النبي  بذلك، وهي زوجة الزبير بن العوام وهاجرت الى المدينة وهي حامل بعبدالله بن الزبير فولدته بعد الهجرة فكان أول مولود في الاسلام بعدالهجرة، بلغت مائة سنة ولم ينكر من عقلها شيء، ولم يسقط لها سن، روى لها عن الرسول  ستة وخمسون حديثاً، روى عنها عبدالله بن عباس، وأبناؤها عبدالله وعروة، وعبدالله بن أبي مُلَيْكة وغيرهم وكانت جوادة منفقة
توفيت بمكة سنة 73هـ.

- عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها:
الصديقة بنت الصديق تزوجها رسول الله  ، وهي أعلم النساء ، كناها رسول الله  أم عبدالله، وكان حبه لها مثالاً للزوجية الصالحة.
كان الشعبي يحدث عن مسروق أنه إذا تحدث عن أم المؤمنين عائشة يقول: حدثتني الصديقة بنت الصديق المبرأة حبيبة حبيب الله ، ومسندها يبلغ ألفين ومائتين وعشرة أحاديث (2210) اتفق البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثاً، وانفرد البخاري باربعة وخمسين، وانفرد مسلم بتسعة وستين، وعاشت ثلاثاً وستين سنة وأشهراً، وتوفيت سنة 57هـ، ولا ذرية لها.
6- أم كلثوم بنت أبي بكر:
أمها حبيبة بنت خارجة. قال أبوبكر لأم المؤمنين عائشة حين حضرته الوفاة: إنما هما أخواك وأختاك فقالت: هذه أسماء قد عرفتها فمن الاخرى قال: ذو بطن بنت خارجة، قد ألقي في خلدي أنها جارية فكانت كما قال: وولدت بعد موته، تزوجها طلحة بن عبيدالله وقتل عنها يوم الجمل، وحجت بها عائشة في عدتها فأخرجتها الى مكة.
هذه هي أسرة الصديق المباركة التي أكرمها الله بالاسلام وقد اختص بهذا الفضل أبو بكر  من بين الصحابة وقد قال العلماء: لايعرف أربعة متناسلون بعضهم من بعض صحبوا رسول الله ، إلا آل أبي بكر الصديق وهم: عبدالله بن الزبير، أمه أسماء بنت أبي بكر بن ابي قحافة، فهؤلاء الأربعة صحابة متناسلون، وأيضاً محمد بن عبدالرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة
وليس من الصحابة من أسلم أبوه وأمه وأولاده، وأدركوا النبي  وأدركه أيضاً بنو أولاده: إلا أبوبكر من جهة الرجال والنساء -وقد بينت ذلك- فكلهم آمنوا بالنبي وصحبوه، فهذا بيت الصديق، فأهله أهل إيمان، ليس فيهم منافق ولايعرف في الصحابة مثل هذا لغير بيت أبي بكر رضي الله عنهم.
وكان يقال: للإيمان بيوت وللنفاق بيوت؛ فبيت أبي بكر من بيوت الإيمان من المهاجرين، وبني النجار من بيوت الإيمان من الانصار.
رابعاً: الرصيد الخُلقي للصديق في المجتمع الجاهلي:
كان أبو بكر الصديق في الجاهلية من وجهاء قريش وأشرافهم وأحد رؤسائهم، وذلك أن الشرف في قريش قد انتهى قبل ظهور الاسلام الى عشرة رهط من عشرة أبطن، فالعباس ابن عبدالمطلب من بني هاشم، وكان يسقي الحجيج في الجاهلية، وبقي له ذلك في الاسلام وابو سفيان بن حرب من بني أمية، وكان عنده العقاب راية قريش، فإذا لم تجتمع قريش على واحد رأسوه هو وقدموه، والحارث بن عامر بن بني نوفل، وكانت إليه الرفادة، وهي ماتخرجه قريش من أموالها، وترفد به منقطع السبيل، وعثمان بن طلحة بن زمعة بن الاسود من بني أسد،
وكانت إليه المشورة فلا يُجمع على أمر حتى يعرضوه عليه، فإن وافق ولاهم عليه، وإلا تخيّر وكانو له أعواناً، وأبو بكر الصديق من بني تيم وكانت إليه الأشناق وهي الديات والمغارم، فكان إذا حمل شيئاً فسأل فيه قريشاً صدقوه، وامضوا حمالة من نهض معه، وإن احتملها غيره خذلوه، وخالد بن الوليد من بني مخزوم، وكانت إليه القبة والأعنة، أما القبة فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها مايجهزون به الجيش، وأما الأعنة فإنه كان على خيل قريش في الحرب. وعمر بن الخطاب من بني عدي، وكانت إليه السفارة في الجاهلية، وصفوان بن أمية من بني جمح، وكانت إليه الأزلام. والحارث بن قيس من بني سهم، وكانت إليه الحكومة وأموال آلهتهم.
لقد كان الصديق في المجتمع الجاهلي شريفاً من أشراف قريش وكان من خيارهم، ويستعينون به فيما نابهم وكانت له بمكة ضيافات لايفعلها أحد.
وقد اشتهر بعدة أمور منها:
1- العلم بالأنساب:
فهو عالم من علماء الأنساب وأخبار العرب، وله في ذلك باع طويل جعله أستاذ الكثير من النسابين كعقيل بن أبي طالب وغيره، وكانت له مزية حببته إلى قلوب العرب وهي: أنه لم يكن يعيب الأنساب، ولايذكر المثالب بخلاف غيره، فقد كان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها، وبما فيها من خير وشر، وفي هذا تروي عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله  قال: إن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها.
2-تجارته:
كان في الجاهلية تاجراً، ودخل بُصرى من أرض الشام للتجارة وارتحل بين البلدان وكان رأس ماله اربعين ألف درهم وكان ينفق من ماله بسخاء وكرم عُرف به في الجاهلية.
3-موضع الألفة بين قومه وميل القلوب إليه:
فقد ذكر ابن اسحاق في السيرة أنهم كانوا يحبونه، ويألفونه، ويعترفون له بالفضل العظيم، والخلق الكريم، وكانوا يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، وقد قال له ابن الدغنه حين لقيه مهاجراً، إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتكسب المعدوم وتفعل المعروف، وقد علَّق ابن حجر على قول ابن الدغنه فقال: ومن أعظم مناقبه أن ابن الدغنه سيد القارة لما رد عليه جواره بمكة وصفه بنظير ماوصفت به خديجة النبي  لما بعث، فتواردا فيها نعت واحد من غير أن يتواطأ على ذلك، وهذه غاية في مدحه لأن صفات النبي  منذ نشأ كانت أكمل الصفات.
4-لم يشرب الخمر في الجاهلية:
فقد كان أعف الناس في الجاهلية، حتى إنه حرّم على نفسه الخمر قبل الإسلام، فقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: حرم أبو بكر الخمر على نفسه، فلم يشربها في جاهلية ولا في إسلام، وذلك أنه مرّ برجل سكران يضع يده في العذرة، ويدنيها من فيه، فإذا وجد ريحها صرفها عنه. فقال أبو بكر: إن هذا لايدري ما يصنع، وهو يجد ريحها فحماها، وفي رواية لعائشة ... ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية.
وقد أجاب الصديق من سأله هل شربت الخمر في الجاهلية؟ بقوله: أعوذ بالله، فقيل: ولم؟ قال: كنت أصون عرضي، وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيّعاً لعرضه ومروءته.
5-ولم يسجد لصنم:
ولم يسجد الصديق رضي الله عنه لصنم قط، قال أبو بكر رضي الله عنه في مجمع من أصحاب رسول الله ، ما سجدت لصنم قط، وذلك أني لما ناهزت الحلم أخذني أبو قحافة بيدي فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لي: هذه آلهتك الشّمُ العوالي، وخلاني وذهب، فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني فلم يُجبني فقلت: إني عار فأكسني، فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخرَّ لوجهه وهكذا حمله خلقه الحميد وعقله النير، وفطرته السليمة على الترفع عن كل شيء يخدش المروءة وينقص الكرامة من أفعال الجاهليين، وأخلاقهم التي تجانب الفطرة السليمة، وتتنافى مع العقل الراجح، والرجولة الصادقة، فلا عجب على من كانت هذه أخلاقه أن ينضم لموكب دعوة الحق ويحتل فيها الصدارة ويكون بعد إسلامه أفضل رجل بعد رسول الله ، فقد قال: خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام
إذا فقهوا، وقد علق الأستاذ رفيق العظم عن حياة الصديق في الجاهلية فقال: اللهم إن امرأً نشأ بين الأوثان حيث لادين زاجر، ولاشرع للنفوس قائد، وهذا مكانه من الفضيلة، واستمساكه بعرى العفة والمروءة ... لجدير بأن يتلقى الإسلام بملء الفؤاد، ويكون أول مؤمن بهادي العباد، مبادر بإسلامه لإرغام أنوف أهل الكبر والعناد، ممهد سبيل الاهتداء بدين الله القويم، الذي يجتث أصول الرذائل من نفوس المهتدين بهديه، المستمسكين بمتين سببه.
لله در الصديق رضي الله عنه فقد كان يحمل رصيداً ضخماً من القيم الرفيعة، والأخلاق الحميدة والسجايا الكريمة في المجتمع القرشي قبل الإسلام وقد شهد له أهل مكة بتقدمه على غيره في عالم الأخلاق والقيم والمثل ولم يُعلمْ أحد من قريش عاب أبا بكر بعيب ولانقصه ولا استرذله كما كانوا يفعلون بضعفاء المؤمنين ولم يكن له عندهم عيب إلا الإيمان بالله ورسوله.
إسلامه ودعوته وابتلاؤه وهجرته الأولى

أولاً: إسلامه:
كان إسلام أبي بكر رضي الله عنه وليد رحلة إيمانية طويلة في البحث عن الدين الحق الذي ينسجم مع الفطر السليمة ويلبي رغباتها، ويتفق مع العقول الراجحة، والبصائر النافذة، فقد كان بحكم عمله التجاري كثير الأسفار، قَطَعَ الفيافي، والصحاري، والمدن والقرى في الجزيرة العربية وتنقل من شمالها إلى جنوبها، وشرقها إلى غربها، واتصل اتصالاً وثيقاً، بأصحاب الديانات المختلفة وبخاصة النصرانية، وكان كثير الإنصات لكلمات النفر الذين حملوا راية التوحيد، راية البحث عن الدين القويم، فقد حدّث عن نفسه فقال: كنت جالساً بفناء الكعبة، وكان زيد بن عمرو بن نُفيْل قاعداً، فمرّ ابن أبي الصَّلْتِ، فقال: كيف أصبحت يا باغي الخير؟ قال: بخير، قال: وهل وجدت؟ قال: لا، فقال:
        كل دين يوم القيامة إلا
                        ما مضَى في الحنيفية بُور
أما إنّ هذا النبي الذي ينتظر منا أو منكم، قال: ولم أكن سمعت قبل ذلك بنبي يُنتظر ويُبعث، قال: فخرجت أريد ورقة بن نوفل -وكان كثير النظر إلى السماء، كثير همهمة الصّدر- فاستوقفته، ثم قصصت عليه الحديث، فقال: نعم يا ابن أخي، إنّا أهل الكتب والعلوم، ألا إن هذا النبي الذي يُنتظر من أوسط العرب نسباً -ولي علم بالنسب- وقومك أوسط العرب نسباً. قلت: ياعمّ ومايقول النبي؟ قال: يقول ماقيل له؟ إلا إنّه لايظلم، ولايُظلم ولا يُظالم، فلما بُعث رسول الله  آمنت به وصدّقته، وكان يسمع مايقوله أمية بن أبي الصلت:
في مثل قوله: ألا نبي لنا منا فيخبرنا
                مابعد غايتنا من رأس مجرانا
إني أعوذ بمن حج الحجيج له
                والرافعون لدين الله أركانا
لقد عايش أبو بكر هذه الفترة، ببصيرة نافذة، وعقل نير، و فكر متألق، وذهن وقاد، وذكاء حاد، وتأمل رزين ملأ عليه أقطار نفسه، ولذلك حفظ الكثير من هذه الأشعار، ومن تلك الأخبار، فعندما سأل الرسول الكريم  أصحابه يوماً -وفيهم أبو بكر الصديق قائلاً: من منكم يحفظ كلام -قيس بن ساعدة- في سوق عكاظ؟ فسكت الصحابة، ونطق الصديق قائلاً: إني أحفظها يارسول الله،
كنت حاضراً يومها في سوق عكاظ، ومن فوق جمله الأورق وقف قيس- يقول: أيها الناس: اسمعوا وَعُوا، وإذا وعيتم فانتفعوا إن من عاش مات ومن مات فات، وكل ماهو آتٍ، آت، إن في السماء لخبراً، وإنَّ في الأرض لعبراً، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لن تغور، ليل داج، وسماء ذات أبراج!!

يُقسم قيس، إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه. مالي أرى الناس يذهبون، ولايرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا ثم أنشد قائلاً:
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصــــائر
لمــــــا رأيت موارداً       للموت ليس لهــا مصائر
ورأيت قومي نحوها        يسعى الأكابر والأصاغر
أيقنت أني لامحالـــة        حيث صــار القوم صائر
وبهذا الترتيب الممتاز، وبهذه الذاكرة الحديدية، وهي ذاكرة استوعبت هذه المعاني يقص الصديق ماقاله قس بن ساعدة على رسول الله وأصحابه.
وقد رأى رؤيا لما كان في الشام فقصّها على بحيرا الراهب، فقال له: من أين أنت؟ قال: من مكة، قال: من أيها؟ قال: من قريش، قال: فأي شيء أنت؟ قال: تاجر، قال: إن صدق الله رؤياك، فإنه يبعث بنبي من قومك، تكون وزيره في حياته، وخليفته بعد موته، فأسر ذلك أبو بكر في نفسه.
لقد كان إسلام الصديق بعد بحث وتنقيب وانتظار وقد ساعده على تلبية دعوة الإسلام معرفته العميقة وصلته القوية بالنبي  في الجاهلية، فعندما نزل الوحي على النبي  أخذ يدعو الأفراد إلى الله وقع أول اختياره على الصديق رضي الله عنه، فهو صاحبه الذي يعرفه قبل البعثة بدماثة خلقه، وكريم سجاياه، كما يعرف أبو بكر النبي بصدقه وأمانته، وأخلاقه التي تمنعه من الكذب على الناس فكيف يكذب على الله؟
فعندما فاتحه رسول الله  بدعوة الله وقال له: .. إني رسول الله ونبيه، بعثني إلى الله وحده لاشريك له،ولاتعبد غيره، والموالاة على طاعته، فأسلم الصديق ولم يتلعثم وتقدم ولم يتأخر، وعاهد رسول الله على نصرته فقام بما تعهد ولهذا قال رسول الله  في حقه: إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتين.
وبذلك كان الصديق رضي الله عنه أول من أسلم من الرجال الأحرار





ثانياً: دعوته:
أسلم الصديق  وحمل الدعوة مع رسول الله ، وتعلم من رسول الله  أن الاسلام دين العمل والدعوة والجهاد، وأن الايمان لايكمل حتى يهب المسلم نفسه ومايملك لله رب العالمين، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَلا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (سورة الأنعام، الآيتان: 162،163) وقد كان الصديق كثير الحركة للدعوة الجديدة، وكثير البركة اينما تحرك أثر وحقق مكاسب عظيمة للاسلام، وقد كان نموذجاً حياً في تطبيقه لقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (سورة النحل، الآية: 125).
كان تحرك الصديق  في الدعوة الى الله يوضح صورة من صور الايمان بهذا الدين والاستجابة لله ورسوله صورة المؤمن الذي لايقر له قرار، ولا يهدأ له بال، حتى يحقق في دنيا الناس ماآمن به، دون أن تكون انطلاقته دفعة عاطفية مؤقتة سرعان ماتخمد وتذبل وتزول، وقد بقي نشاط أبي بكر وحماسه للاسلام الى أن توفاه الله عز وجل لم يفتر أو يضعف أويمّل أو يعجز.
كانت أول ثمار الصديق الدعوية دخول صفوة من خيرة الخلق في الاسلام وهم: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيدالله، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن مضعون، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبدالرحمن بن عوف، وأبوسلمة بن عبدالأسد، والأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنهم، وجاء بهؤلاء الصحابة الكرام فرادى فأسلموا بين يدى رسول الله، فكانوا الدعامات الاولى التي قام عليها صرح الدعوة، وكانوا العدة الأولى في تقوية جانب رسول الله  وبهم أعزه الله و أيده وتتابع الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، رجالاً ونساءً، وكان كل من هؤلاء الطلائع داعية الى الاسلام، وأقبل معهم رعيل السابقين، الواحد والإثنان، والجماعة القليلة، فكانوا على قلة عددهم كتيبة الدعوة، وحصن الرسالة لم يسبقهم سابق ولا يلحق بهم لاحق في تاريخ الاسلام.
وإهتم الصديق بأسرته فأسلمت أسماء وعائشة وعبدالله وزوجته أم رومان وخادمه عامر بن فهيرة، لقد كانت الصفات الحميدة والخلال العظيمة والأخلاق الكريمة التي تجسدت في شخصية الصديق عاملاً مؤثراً في الناس عند دعوتهم للاسلام، فقد كان رصيده الخلقي ضخماً في قومه وكبيراً في عشيرته، فقد كان رجلاً، مؤلفاً لقومه، محبباً لهم، سهلاً، أنسب قريش لقريش بل كان فرد زمانه في هذا الفن، وكان رئيساً مكرماً سخياً يبذل المال، وكانت له بمكة ضيافات لايفعلها أحد، وكان رجلاً بليغاً.
إن هذه الأخلاق والصفات الحميدة لابد منها للدعاة إلى الله وإلا أصبحت دعوتهم للناس صيحة في واد، ونفخة في رماد، وسيرة الصديق وهي تفسر لنا فهمه للإسلام وكيف عاش به في حياته حريٌّ بالدعاة أن يتأسوا بها في دعوة الأفراد إلى الله تعالى.
ثالثاً: ابتلاؤه:
إن سنة الابتلاء ماضية في الأفراد والجماعات والشعوب والأمم والدول، وقد مضت هذه السنة في الصحابة الكرام وتحملوا رضوان الله عليهم من البلاء ماتنوء به الرواسي الشامخات وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الله، وبلغ بهم الجهد ماشاء الله أن يبلغ، ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا الابتلاء، فلقد أوذي أبو بكر  وحُثي على رأسه التراب، وضرب في المسجد الحرام بالنعال، حتى مايعرف وجهه من أنفه، وحمل الى بيته في ثوبه وهو مابين الحياة والموت، فقد روت عائشة رضي الله تعالى عنها أنه لمّا اجتمع أصحاب النبي  وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً الحّ أبو بكر  على رسول الله  في الظهور، فقال: يا أبا بكر إنَّا قليل. فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله ، وتفرق المسلمين في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيباً ورسول الله  جالس، فكان أوّل خطيب دعا إلى الله تعالى وإلى رسوله ، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوه في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ووطئ أبو بكر وضرب ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويُحرِّفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر ، حتى مايعرف وجهه من أنفه، وجاءت بنو تميم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحَمَلت بنو تميم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولايشكون في موته، ثم رجعت بنو تميم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة (والده) وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: مافعل رسول الله ؟ فمسّوا منه بألسنتهم وعذلوه، وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه. فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: مافعل رسول الله ؟ فقالت: والله مالي علم بصاحبك. فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر سألك عن محمد بن عبدالله. فقالت: ما أعرف أبا بكر ولامحمد بن عبدالله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك. قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دَنِفاً، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قوماً نالوا منك لأهل فسق وكفر إنني لأرجوا أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله ؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلاشيء عليك منها، قالت: سالم صالح، قال: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم. قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله ، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله ، فقال: فأكب عليه رسول الله فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورقّ له رسول الله  رقة شديدة فقال أبو بكر : بأبي وأمي يارسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله، وأدع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار. قال: فدعا لها رسول الله  ودعاها إلى الله فأسلمت.
إن هذا الحدث العظيم في طياته دروس وعبر لكل مسلم حريص على الاقتداء بهؤلاء الصحب الكرام ونحاول أن نستخرج بعض هذه الدروس التي منها:
1-حرص الصديق على إعلان الإسلام واظهاره أمام الكفار وهذا يدل على قوة إيمانه وشجاعته وقد تحمل الأذى العظيم حتى أن قومه كانوا لايشكون في موته، لقد أشرب قلبه حب الله ورسوله أكثر من نفسه، ولم يعد يهمه -بعد إسلامه- إلا أن تعلوا راية التوحيد، ويرتفع النداء لا إله إلا الله محمد رسول الله في أرجاء مكة حتى لو كان الثمن حياته، وكاد أبو بكر فعلاً أن يدفع حياته ثمناً لعقيدته وإسلامه.
2-إصرار أبي بكر على الظهور بدعوة الإسلام وسط الطغيان الجاهلي، رغبة في إعلام الناس بذلك الدين الذي خالطت بشاشته القلوب، رغم علمه بالأذى الذي قد يتعرض له وصحبه وماكان ذلك إلا لأنه قد خرج من حظ نفسه.
3-حب الله ورسوله تغلغل في قلب أبي بكر على حبه لنفسه، بدليل أنه رغم ما ألم به، كان أول ما سأل عنه: مافعل رسول الله ، قبل أن يطعم أو يشرب، وأقسم أنه لن يفعل حتى يأتي رسول الله ، وهكذا يجب أن يكون حب الله ورسوله  عند كل مسلم أحب إليه مما سواهما حتى لو كلفه ذلك نفسه وماله.
4-إن العصبية القبلية كان لها في ذلك الحين دور في توجيه الأحداث والتعامل مع الأفراد حتى مع اختلاف العقيدة، فهذه قبيلة أبي بكر تهدد بقتل عتبة إن مات أبو بكر.
5-تظهر مواقف رائعة لأم جميل بنت الخطاب، توضح لنا كيف تربت على حُبَّ الدعوة والحرص عليها، وعلى الحركة لهذا الدين، فحينما سألتها أم أبي بكر عن رسول الله قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبدالله، فهذا تصرف حذر سليم، لأن أم الخير لم تكن ساعتئذ مسلمة وأم جميل كانت تخفي إسلامها، ولاتود أن تعلم به أم الخير، وفي ذات الوقت أخفت عنها مكان الرسول  مخافة أن تكون عيناً لقريش، وفي نفس الوقت حرصت أم جميل أن تطمئن على سلامة الصديق ولذلك عرضت على أم الخير أن تصحبها إلى ابنها وعندما وصلت للصديق كانت أم جميل في غاية الحيطة والحذر من أن تتسرب منها أي معلومة عن مكان رسول الله وأبلغت الصديق بأن رسول الله سالم صالح، ويتجلى الموقف الحذر من الجاهلية التي تفتن الناس عن دينهم في خروج الثلاثة عندما: هدأت الرجل وسكت الناس.
6-يظهر بر الصديق بأمه وحرصه على هدايتها في قوله لرسول الله: هذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله وادع الله لها عسى أن يستنقذها بك من النار. إنه الخوف من عذاب الله والرغبة في رضاه وجنته، ولقد دعا رسول الله  لأم أبي بكر بالهداية فاستجاب الله له، وأسلمت أم أبي بكر وأصبحت من ضمن الجماعة المؤمنة المباركة التي تسعى لنشر دين الله تعالى، ونلمس رحمة الله بعباده ونلحظ من خلال الحدث قانون المنحة بعد المحنة.
7-إن من أكثر الصحابة الذين تعرضوا لمحنة الأذى والفتنة بعد رسول الله  أبا بكر الصديق  نظراً لصحبته الخاصة له، والتصاقه به في المواطن التي كان يتعرض فيها للأذى من قومه فينبري الصديق مدافعاً عنه وفادياً إياه بنفسه، فيصيبه من أذى القوم وسفههم، هذا مع أن الصديق يعتبر من كبار رجال قريش المعروفين بالعقل والإحسان.

هجرته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة
اشتدت قريش في أذى المسلمين، والنيل منهم فمنهم من هاجر الى الحبشة مرة أو مرتين فراراً بدينه...ثم كانت الهجرة الى المدينة ومن المعلوم أن أبا بكر استأذن النبي  في الهجرة فقال له: (لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً) فكان أبوبكر يطمع أن يكون في صحبة النبي  وهذه السيدة عائشة رضي الله عنها تحدثنا عن هجرة رسول الله  وأبيها  حيث قالت: (كان لايخطئ رسول الله  أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله  في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله  بالهاجرة، في ساعة كان لايأتي فيها قالت: فلما رآه أبوبكر، قال: ماجاء رسول الله  هذه الساعة إلا لأمر حدث. قالت: فلما دخل، تأخر له أبوبكر عن سريره فجلس رسول الله ، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله  أخرج عني من عندك. فقال: يارسول الله، إنما هما إبنتاي، وماذاك فداك أبي وأمي! فقال: إنه قد أذن بي في الخروج والهجرة. قالت: فقال أبوبكر: الصحبة يارسول الله؟ قال: الصحبة. قالت: فوالله ماشعرت قط قبل ذلك اليوم أحد يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال: يانبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا فاستأجرا عبدالله بن أرقط رجلاً من بني الديل بن بكر، وكانت أمه امرأة من بني سهم بن عمرو، وكان مشركاً -يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.
وجاء في رواية البخاري عن عائشة في حديث طويل تفاصيل مهمة وفي ذلك الحديث : (......قالت عائشة: فبينما نحن يوماً جلوساً في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله  متقنعاً، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال رسول الله  لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبوبكر: إنما هم أهلك. فقال: فإني قد أذن لي في الخروج فقال أبوبكر: الصحبة بأبي أنت يارسول الله قال رسول الله  : نعم، قال ابوبكر: فخذ بأبي أنت يارسول الله إحد راحلتي هاتين، قال رسول الله: بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز، ووضعنا لهم سفرة في جراب، فقطمت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، ثم لحق رسول الله  وأبوبكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف، لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما حيث تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل -وهو لبن منحهما ورضيفهما ينعق
 بها عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله  وأبوبكر رجلاً من بني الديل وهو من بني عبد ابن عدي -هادياً خريتا- والخريت الماهر- قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعده غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل.
لم يعلم بخروج رسول الله  أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب، وأبوبكر الصديق، وآل أبي بكر، وجاء وقت الميعاد بين رسول الله  ابي بكر ، فخرجا من خوخة، لأبي بكر في ظهر بيته، وذلك للإمعان في الاستخفاء حتى لاتتبعهما قريش، وتمنعهما من تلك الرحلة المباركة، وقد اتعدا مع الليل على أن يلقاهما عبدالله بن أريقط في غار ثور بعد ثلاث ليال، وقد دعا النبي  عند خروجه من مكة الى المدينة، ووقف عند خروجه بالحزورة في سوق مكة وقال: (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله الى الله، ولولا أني أخرجت منك ماخرجت).
ثم أنطلق رسول الله وأبوبكر والمشركون يحاولون أن يقتفوا آثارهم حتى بلغوا الجبل -جبل ثور- اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرآوا على بابه نسيج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، وهذه من جنود الله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} (سورة المدثر، الآية:31).
وبالرغم من كل الأسباب التي اتخذها رسول الله  فإنه لم يرتكن إليها مطلقاً، وإنما كان كامل الثقة في الله، عظيم الرجاء في نصره وتأييده، دائم الدعاء بالصيغة التي علمه الله إياها، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} (سورة الاسراء، الآية:80).
وفي هذه الآية الكريمة دعاء يُعلّمه الله عز وجل لنبيه  ليدعوه به، ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وكيف تتجه إليه؟ دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج، كناية عن صدق الرحلة كلها، بدئها وختامها، أولها وآخرها ومابين الأول والآخر، وللصدق هنا قيمته بمناسبة ماحاوله المشركون من فتنته عما أنزله الله عليه ليفترى على الله غيره، وللصدق كذلك ظلاله: ظلال الثبات، والاطمئنان والنظافة الاخلاص {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} قوة وهيبة استعلى بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين، وكلمة {مِنْ لَدُنْك} تصور القرب والاتصال بالله والاستمداد من عونه مباشرة واللجوء الى حماه.
وصاحب الدعوة لايمكن أن يستمد السلطان إلا من الله، ولا يمكن أن يهاب إلا بسلطان الله، لايمكن أن يستظل بحاكم أو ذى جاه فينصره ويمتعه مالم يكن أتجاهه قبل ذلك الى الله والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان والجاه، فيصبحون لها جنداً وخدماً فيفلحون، ولكنها هي لاتفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه، فهي من أمر الله، وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه.
وعندما أحاط المشركون بالغار، أصبح منهم رأي العين طمأن الرسول  الصديق بمعية الله لهما: فعن ابي بكر الصديق  قال: قلت للنبي  وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. فقال: ماظنك ياأبابكر باثنين الله ثالثهما؟
وسجل الحق عز وجل ذلك في قوله تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة التوبة، الآية:40).
وبعد ثلاث ليال من دخول النبي  في الغار خرج رسول الله  وصاحبه من الغار، وقد هدأ الطلب، ويئس المشركون من الوصول الى رسول الله، وقد قلنا أن رسول الله  وأبا بكر قد استأجرا رجلاً من بني الديل يسمى عبدالله بن أريقط وكان مشركاً وقد أمِناهُ فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما وقد جاءها فعلاً في الموعد المحدد وسلك بهما طريقاً غير معهودة ليخفي أمرهما عمن يلحق بهم من كفار قريش، وفي أثناء الطريق الى المدينة مرّ النبي  بأم معبد، في قديد، حيث مساكن خزاعة، وهي أخت حبيش بن خالد الخزاعي الذي روى قصتها، وهي قصة تناقلها الرواة وأصحاب السير، وقال عنها ابن كثر: (وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضاً).
وقد أعلنت قريش في نوادي مكة بأنه من يأتي بالنبي  حياً أو ميتاً فله مائة ناقة وانتشر هذا الخبر عند قبائل العرب الذين في ضواحي مكة وطمع سراقة بن مالك بن جعشم في نيل الكسب الذي أعدته قريش لمن يأتي برسول الله  فأجهد نفسه لينال ذلك، ولكن الله بقدرته التي لايغلبها غالب، جعله يرجع مدافعاً عن رسول الله  بعد أن كان جاهداً عليه.
ولما سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله  من مكة، كانوا يفدون كل غداة الى الحرة، فينتظرون حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعد ماأطالوا انتظارهم فلما أووا الى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر رسول الله ، وأصحابه مبيضين، يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته، يامعشر العرب هذا جدكم، الذي تنتظرون، فثار المسلمون الى السلاح فتلقوا رسول الله  بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عوف، وذلك يوم الخميس الأثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبابكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله  عند ذلك.
كان يوم وصول الرسول  وأبي بكر الى المدينة يوم فرح وابتهاج لم تر المدينة يوماً مثله، ولبس الناس أحسن ملابسهم كأنهم في يوم عيد، ولقد كان حقاً يوم عيد، لأنه اليوم الذي انتقل فيه الاسلام من ذلك الحيز الضيق في مكة الى رحابة الانطلاق والانتشار بهذه البقعة المباركة المدينة، ومنها الى سائر بقائع الأرض لقد أحس أهل المدينة بالفضل الذي حباهم الله به، وبالشرف الذي اختصهم الله به، فقد صارت بلدتهم موطناً لإيواء رسول الله وصحابته المهاجرين ثم لنصرة الاسلام كما أصبحت موطناً للنظام الاسلامي العام التفصيلي بكل مقوماته ولذلك خرج أهل المدينة يهللون في فرح وابتهاج ويقولون يارسول الله يامحمد يارسول الله، وبعد هذا الاستقبال الجماهيري العظيم الذي لم يرد مثله في تاريخ الانسانية سار رسول الله  حتى نزل في دار أبي أيوب الانصاري ، ونزل الصديق على خارجة بن زيد الخزرجي الأنصاري.





               الصدِّيق في ميادين الجهاد



ذكر أهل العلم بالتواريخ والسير أن أبابكر شهد مع النبي  بدراً والمشاهد كلها، ولم يفته منها مشهد، وثبت مع رسول الله  يوم أحد حين انهزم الناس ودفع إليه النبي  رايته العظمى يوم تبوك وكانت سوداء.
وقال ابن كثير: ولم يختلف أهل السير في أن أبابكر الصديق  لم يتخلف عن رسول الله  في مشهد من مشاهده كلها.
وقال الزمخشري: إنه -يعني أبابكر - كان مضافاً لرسول الله  الى الأبد، فإنه صحبه صغيراً وأنفق ماله كبيراً، وحمله الى المدينة براحلته وزاده، ولم يزل ينفق عليه ماله في حياته، وزوجه ابنته، ولم يزل ملازماً له سفراً وحضراً ، فلما توفي دفنه في حجرة عائشة أحب النساء إليه.
وعن سلمة بن الأكوع: غزوت مع النبي  سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات مرة علينا أبوبكر ومرة علينا أسامة.
ومن خلال هذا المبحث سنحاول أن نتتبع حياة الصديق  الجهادية مع النبي  لنرى كيف جاهد الصديق بنفسه وماله ورأيه في نصرة دين الله تعالى.
أولاً: أبوبكر  في بدر الكبرى:
شارك الصديق في غزوة بدر وكانت في العام الثاني من الهجرة وكانت له فيها مواقف مشهورة من أهمها:
1- مشورة الحرب:
لما بلغ النبي  نجاة القافلة وإصرار زعماء مكة على قتال النبي  استشار رسول الله  اصحابه في الأمر، فقام أبوبكر فقال وأحسن ثم قام عمر فقال وأحسن.
2- دوره في الاستطلاع مع النبي:
قام النبي  ومعه أبوبكر يستكشف أحوال جيش المشركين وبينما هما يتجولان في تلك المنطقة لقيا شيخاً من العرب، فسأله رسول الله  عن جيش قريش، وعن محمد وأصحابه، ومابلغه  من أخبارهم: فقال الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني مما أنتما. فقال له رسول الله: إذا أخبرتنا أخبرناك فقال: أو ذاك بذاك؟ قال: نعم. فقال الشيخ: فإنه بلغني أن محمداً واصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا -للمكان الذي به جيش المسلمين- وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا -للمكان الذي فيه جيش المشركين فعلاً- ثم قال الشيخ: لقد اخبرتكما عما أردتما، فأخبراني: ممن أنتما؟ فقال رسول الله: نحن من ماء. ثم انصرف النبي  وأبوبكر عن الشيخ، وبقي هذا الشيخ يقول: مامن ماء؟ أمن ماء العراق.
وفي هذا الموقف يتضح قرب الصديق من النبي  وقد تعلم أبوبكر من رسول الله  دروساً كثيرة.
3- في حراسة النبي  في عريشه:
عندما رتب  الصفوف للقتال رجع الى مقر القيادة وكان عبارة عن عريش على تلِّ مشرف على ساحة القتال وكان معه فيه أبوبكر  وكانت ثلة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون عريش رسول الله ، وقد تحدث علي بن أبي طالب  عن هذا الموقف فقال: ياأيها الناس من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت ياأمير المؤمنين، فقال: أما إني مابارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبوبكر: إنا جعلنا لرسول الله  عريشاً فقلنا من يكون مع رسول الله  لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله مادنا منه أحد إلا أبابكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله  لا يهوي إليه أحد من المشركين إلا أهوى إليه فهذا اشجع الناس.
4- الصديق يتلقى البشارة بالنصر، ويقاتل بجانب رسول الله:
بعد الشروع في الأخذ بالأسباب اتجه رسول الله  الى ربه يدعوه ويناشده النصر الذي وعده ويقول في دعائه: (اللهم أنجز لي ماوعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الاسلام فلا تعبد في الأرض أبداً) ومازال  يدعو ويستغيث حتى سقط رداوه، فأخذه أبوبكر ورده على منكبيه وهو يقول: يارسول الله كفاك مناشدتك ربك فإنه منجر لك ماوعدك) ، وأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وفي رواية ابن عباس قال: قال النبي  يوم بدر: (الله انشدك عهد ووعدك، الله إن شئت لم تعبد) فأخذ ابوبكر بيده، فقال: حسبك الله، فخرج  وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}، وقد خفق النبي  خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال: ابشر ياأبابكر أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع) يعني الغبار، قال: ثم خرج رسول الله  الى الناس فحرضهم.
وقد تعلم الصديق من هذا الموقف درساً ربانياً مهماً في التجرد النفسي وحظها والخلوص واللجوء لله وحده والسجود والجثي بين يدي الله سبحانه لكي ينزل نصره وبقى هذا المشهد راسخاً في ذاكرة الصديق وقلبه ووجدانه يقتدي برسول الله  في تنفيذه في مثل هذه الساعات، وفي مثل هذه المواطن ويبقى هذا المشهد درساً لكل قائد أو حاكم أو زعيم أو فرد يريد أن يقتدي بالنبي  وصحابته الكرام.
ولما اشتد أوار المعركة وحمى وطيسها نزل رسول الله  وحرض على القتال والناس على مصافهم يذكرون الله تعالى، وقد قاتل  بنفسه قتالاً شديد وكان بجانبه الصديق، وقد ظهرت منه شجاعة وبسالة منقطعة النظير، وكان على استعداد لمقاتلة كل كافر عنيد ولو كان أبنه، وقد شارك ابنه عبدالرحمن في هذه المعركة مع المشركين، وكان من أشجع الشجعان بين العرب، ومن أنفذ الرماة سهماً في قريش، فلما أسلم قال لأبيه: لقد أهدفت لي (أي ظهرت أمامي كهدف واضح) يوم بدر، فملت عنك ولم اقتلك. فقال له أبوبكر: ولكنك لو أهدفت لي لم أمِلْ عنك.
5- الصديق والأسرى:
قال ابن عباس: ...فلما أسروا الأسارى قال رسول الله  لأبي بكر وعمر: (ماترون في هؤلاء الأسارى؟) فقال أبوبكر: يانبي الله هم بنو العم والعشيرة: أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم الى الاسلام. فقال رسول الله  : ماترى يابن الخطاب؟ قال: لا والله يارسول، ماأرى الذي يراه أبوبكر، ولكني أرى أن تمكننا منهم، فنضرب أعناقهم، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان (نسيباً لعمر) فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها فهوى رسول الله  الى ماقال أبوبكر ولم يهو ماقلت: فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله  وأبوبكر قاعدين يبكيان، قلت يارسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله: أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة -شجرة قريبة من النبي - وأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى.....} الى قوله {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا.....} فأحل الله لهم الغنيمة وفي رواية عن عبدالله بن مسعود  قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله: (ماتقولون في هؤلاء الأسرى؟) فقال ابوبكر: يارسول الله قومك وأهلك استبقهم واستأن بهم لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر: يارسول الله أخرجوك وكذبوك قربهم فاضرب أعناقهم. وقال عبدالله بن رواحة: يارسول الله انظر وادياً كثير الحطب، فادخلهم فيه ثم اضرم عليهم ناراً. فقال العباس: قطعت رحمك، فدخل رسول الله  ولم يرد عليهم شيئاً. فقال ناس: يأخذ بقول ابي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبدالله بن رواحة، فخرج عليهم رسول الله  فقال: (إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك ياأبابكر كمثل عيسى عليه السلام إذ قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (سورة المائدة، الآية:118) وإن مثلك ياعمر كمثل نوح إذ قال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (سورة نوح، الآية 26).
وإن مثلك كمثل موسى إذ قال: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} (سورة يونس، الآية 88). كان النبي  إذ استشار أصحابه أول من يتكلم أبوبكر في الشورى، وربما تلكم غيره، وربما لمن يتكلم غيره، فيعمل برأيه وحده، فإذا خالفه غيره ابتع رأيه دون رأي من يخالفه.
ثانياً: في أحد وحمراء الأسد:
في يوم أحد تلقى المسلمون درساً صعباً، فقد تفرقوا من حول النبي ، وتبعثر الصحابة في أرجاء الميدان، وشاع أن الرسول  قتل وكان رد الفعل على الصحابة متبايناً، وكان الميدان فسيحاً وكل مشغول بنفسه، وشق الصديق الصفوف وكان اول من وصل الى رسول الله ، واجتمع الى رسول الله أبوبكر، وأبوعبيدة بن الجراح، وعلي، وطلحة والزبير، وعمر بن الخطاب والحارث بن الصمة، وأبودجانة، وسعد بن ابي وقاص، وغيرهم.... رضي الله عنهم وقصدوا مع رسول الله  الشعب من جبل أحد في محاولة لاسترداد قوتهم المادية والمعنوية.
وكان الصديق إذا ذكر أحد قال: ذلك يوم كله لطلحة ثم أنشأ يحدث قال: كنت أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلاً يقاتل في سبيل الله دونه، قال قلت: كن طلحة حيث فاتني مافاتني، وكان بيني وبين المشركين رجل لا أعرفه، وأنا أقرب الى رسول الله  منه، وهو يخطلف المشي خطفاً لا أخطفه فإذا هو أبوعبيدة، فانتهينا الى رسول الله  وقد كسرت رباعيته وشج وجهه، وقد دخل في وجنتيه حلقتان من حلق المغفر، قال رسول الله: عليكما صاحبكما: يريد طلحة وقد نزف فلم نلتفت الى قوله، قال: ذهبت لأنزع من وجهه، فقال أبوعبيدة أقسم عليك بحقي لما تركتني فتركته فكره تناولها فيؤذي رسول الله  فأرزم عليه بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين ووقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة فكان أبوعبيدة من أحسن الناس هتماً...فأصلحنا من شأن رسول الله  ثم أتينا طلحة في بعض تلك الحفار فإذا به بضع وسبعون من بين طعنة ورمية، وضربة، وإذا قد قطعت إصبعه فأصلحنا من شأنه.
وتتضح منزلة الصديق في هذه الغزوة من موقف أبي سفيان عندما سأل وقال: أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات. فنهاهم النبي  أن يجيبوه. ثم قال: أفي القوم أبن أبي قحافة؟ ثلاث مرات. ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاث مرات ثم رجع الى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا... فهذا يدل على ظن أبي سفيان زعيم المشركين حينئذ بأن أعمدة الاسلام، وأساسه رسول الله  وابوبكر وعمر.
وعندما حاول المشركون أن يقبضوا على المسلمين ويستأصلوا شفأتهم، كان التخطيط النبوي الكريم قد سبقهم وأبطل كيدهم، وأمر رسول الله  المسلمين مع مابهم من جراحات وقرح شديد للخروج في إثر المشركين، فأستجابوا لله ولرسوله مع مابهم من البلاء وانطلقوا فعن عائشة رضي الله عنها قالت لعروة بن الزبير في قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} (سورة آل عمران، الآية: 172): ياأبن أختي كان أبواك منهم: الزبير وأبوبكر لما أصاب رسول الله  ماأصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال: من يذهب في إثرهم؟) فانتدب منهم سبعون رجلاً: كان فيهم أبوبكر والزبير.
ثالثاً: في غزوة بني النضير، وبني المصطلق وفي الخندق وبني قريظة:
أ- خرج النبي  الى بني النضير يستعينهم في دية القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية من بني عامر على وجه الخطأ لأن عمراً لم يعلم بالعهد الذي بين بني عامر وبين النبي ، وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد، فلما آتاهم النبي  قالوا: نعم ياأبا القاسم نعينك على ماأحببت، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا:  إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، ورسول الله الى جنب جدار من بيوتهم قاعد. قالوا: فمن يعلوا على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله  في نفر من أصحابه فيهم أبوبكر وعمر وعلي فأتى رسول الله  الخبر من السماء بما أراد القوم فقام وخرج الى المدينة، فلما استلبت النبي  أصحابه قالوا في طلبه فرأوا رجلاً مقبلاً من المدينة فسألوه عنه فقال: رأيته داخلاً المدينة. فأقبل أصحاب النبي  حتى انتهوا إليه فأخبرهم الخبر بما كانت اليهود أرادت من الغدر به.
فبعث النبي  محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق يحرضونهم على المقام ويعدونهم بالنصر، فقويت نفوسهم وحمى حيي بن أخطب وبعثوا الى رسول الله  أنه لايخرجون، ونابذوه بنقض العهد فعند ذلك أمر رسول الله  الناس بالخروج إليهم فحاصروهم خمس عشرة ليلة فتحصنوا في الحصون فأمر رسول الله  بقطع النخيل والتحريق، ثم أجلاهم على أن لهم ماحملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة فنزلت سورة الحشر.
ب-بني المصطلق:
أراد بنو المصطلق أن يغزو المدينة، فخرج لهم رسول الله في أصحابه فلما انتهى إليهم دفع راية المهاجرين إلى أبي بكر الصديق، ويقال إلى عمار بن ياسر وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة. ثم أمر عمر بن الخطاب فنادى في الناس أن قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم فأبوا، فتراموا بالنبل ثم أمر رسول الله  المسلمين فحملوا حملة رجل واحد فما أفلت منهم رجل واحد، وقتل منهم عشرة وأسر سائرهم، ولم يقتل من المسلمين سوى رجل واحد.
جـ-في الخندق وبني قريظة:
كان الصديق في الغزوتين مرافقاً للنبي ، وكان يوم الخندق يحمل التراب في ثيابه وساهم مع الصحابة للإسراع في انجاز حفر الخندق في زمن قياسي مما جعل فكرة الخندق تصيب هدفها في مواجهة المشركين.
رابعاً: في الحديبية:
خرج رسول الله  في ذي القعدة سنة ست من الهجرة يريد زيارة البيت الحرام في كوكبة من الصحابة عددها أربع عشرة مائة وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائر لتعظيم بيت الله الحرام فبعث النبي  عيناً له من خزاعة فعاد بالخبر أن أهل مكة جمعوا جموعهم لصده عن الكعبة فقال: أشيروا عليَّ أيها الناس، فقال أبو بكر  يارسول الله خرجت عامداً لهذا البيت لاتريد حربه أو قتل أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه، قال امضوا على اسم الله، وقد ثارت ثائرة قريش وحلفوا أن لايدخل الرسول  مكة عنوة ثم قامت المفاوضات بين أهل مكة ورسول الله  وقد عزم النبي  على إجابة أهل مكة على طلبهم إن أرادوا شيئاً فيه صلة رحم.
أ-في المفاوضات:
جاءت وفود قريش لمفاوضة النبي  وكان أول من أتى بديل بن ورقاء من خزاعة فلما علم بمقصد النبي  والمسلمين رجع إلى أهل مكة ثم جاء مكرز بن حفص ثم بالحليس بن علقمة ثم عروة بن مسعود الثقفي فدار هذا الحوار بين النبي  وعروة بن مسعود الثقفي واشترك في هذا الحوار أبو بكر  وبعض أصحابه.
قال عروة: يامحمد أجمعت أوباش الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم؟ إنها قريش قد خرجت معها (العوذ المطافيل)- أي خرجت رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً- قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة وايم الله لكأني بهؤلاء يقصد أصحاب النبي  قد انكشفوا عنك!!
فقال أبو بكر: أمصص بظر اللات -وهي صنم ثقيف- أنحن نفرُّعنه وندعه؟ فقال من ذا؟ قالوا أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. وكان الصديق قد أحسن إليه قبل ذلك، فرعى حرمته ولم يجاوبه عن هذه الكلمة ولهذا قال من قال من العلماء: إن هذا يدل على جواز التصريح باسم العورة للحاجة والمصلحة، وليس من الفحش المنهي عنه.
لقد حاول عروة بن مسعود أن يشن حرباً نفسية على المسلمين حتى يهزمهم معنوياً، ولذلك لوح بقوة المسلمين العسكرية، معتمداً على المبالغة في تصوير الموقف بأنه سيؤول لصالح قريش لامحالة وحاول أن يوقع الفتنة والإرباك في صفوف المسلمين وذلك حينما حاول إضعاف الثقة بين القائد وجنوده عندما قال النبي  أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، وكان رد الصديق صارماً ومؤثراً في معنويات عروة ونفسيته، فقد كان موقف الصديق في غاية العزة الإيمانية التي قال الله فيها {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران، آية:139).
ب-موقفه من الصلح:
ولما توصل المشركون مع رسول الله  إلى الصلح بقيادة سهيل بن عمرو أصغى الصديق إلى ماوافق عليه رسول الله  من طلب المشركين رغم ماقد يظهر للمرء أن في هذا الصلح بعض التجاوز أو الإجحاف بالمسلمين وسار على هدي النبي  ليقينه بأن النبي لاينطق عن الهوى، وأنه فعل ذلك لشيء أطلعه الله عليه.
وقد ذكر المؤرخون أن عمر بن الخطاب أتى رسول الله معلناً معارضته لهذه الاتفاقية وقال لرسول الله  : ألست برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه، وفي رواية: أنا عبدالله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني، قلت أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال بلى، فأخبرتك أنا نأتيه هذا العام؟ قلت لا، قال فإنك آتيه ومطوف به قال عمر: فأتيت أبا بكر فقلت له: يا أبا بكر: أليس برسول الله: قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر- ناصحاً الفاروق بأن يترك الاحتجاج والمعارضة - إلزم غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر به، ولن نخالف أمر الله ولن يضيّعه الله، وكان جواب الصديق مثل جواب رسول الله  ولم يكن أبو بكر يسمع جواب النبي ، فكان أبو بكر  أكمل موافقة لله وللنبي  من عمر مع أن عمر  مُحدِّث، ولكن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدث، لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل مايقوله ويفعله.
وقد تحدث الصديق فيما بعد عن هذا الفتح العظيم الذي تم في الحديبية فقال: ماكان فتح أعظم في الإسلام من فتح الحديبية، ولكن الناس يومئذ قَصُرَ رأيهم عما كان بين محمد وربّه، والعباد يَعْجَلون،والله لايعجل كعجلة العباد حتى يبلغ الأمور ما أراد، لقد نظرت إلى سُهيل بن عمرو في حَجِّة الوداع قائماً عند المنحر يُقّرب إلى رسول الله  بَدَنةً، ورسول الله  ينحرها بيده، ودعا الحلاَّق فحلق رأسه، وانظر إلى سهيل يلتقط من شعره، وأراه يضعه على عينه، وأذكر إباءه أن يُقِرَّ يوم الحديبية بأن يكتب: (بسم الله الرحمن الرحيم) ويأبى الله أن يكتب: محمد رسول الله  فحمدت الله الذي هداه للإسلام.
لقد كان الصديق  أسَدَّ الصحابة رأياً وأكملهم عقلاً.
خامساً: في غزوة خيبر، وسرية نجد وبني فزازة:
ضرب رسول الله  حصاراً على خيبر واستعد لقتالهم، فكان أول قائد يرسله  أبا بكر  إلى بعض حصون خيبر فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح، وقد جهد، ثم بعث عمر فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح، ثم قال لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، فكان علي بن أبي طالب ، وأشار بعض أصحاب النبي  بقطع النخيل حتى يثخن في اليهود ورضي النبي  بذلك، فأسرع المسلمون في قطعة، فذهب الصديق إلى النبي  وأشار عليه بعدم قطع النخيل لما في ذلك من الخسارة للمسلمين سواء فتحت خيبر عنوة أو صلحاً فقبل النبي  مشورة الصديق ونادى بالمسلمين بالكف عن قطع النخيل فرفعوا أيديهم.
ب-في نجد:
أخرج ابن سعد عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: بعث رسول الله  أبا بكر إلى نجد وأمره علينا فبيتنا ناساً من هوازن فقتلت بيدي سبعة أهل أبيات، وكان شعارنا أمِتْ أمِتْ.
جـ-في بني فزارة:
روى الإمام أحمد من طريق إياس بن سلمة عن أبيه حدثني أبي قال: خرجنا مع أبي بكر بن أبي قحافة وأمره النبي  علينا، فغزونا بني فزازة، فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر فعرسنا، فلما صلينا الصبح أمرنا أبو بكر فشننا الغارة فقتلنا على الماء من مر قبلنا قال سلمة ثم نظرت إلى عنق من الناس فيه الذرية والنساء  نحو الجبل فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل. قال: فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر حتى أتيته على الماء وفيهم امرأة عليها قشع من أدم ومعها ابنة لها من أحسن العرب قال فنفلني أبو بكر، فما كشفت لها ثوباً حتى قدمت المدينة ثم بت فلم أكشف لها ثوباً، قال فلقيني رسول الله  في السوق فقال لي: يا سلمة هب لي المرأة قال: فقلت والله يارسول الله لقد أعجبتني وماكشفت لها ثوباً، قال فسكت رسول الله، وتركني حتى إذا كان من الغد لقيني رسول الله في السوق فقال لي: ياسلمة هب لي المرأة قال: فقلت والله يارسول الله والله ماكشفت لها ثوبا وهي لك يارسول الله، قال فبعث بها رسول الله إلى أهل مكة وفي أيديهم أسارى من المسلمين ففداهم رسول الله بتلك المرأة.
سادساً: في عمرة القضاء وفي ذات السلاسل:
أ-في عمرة القضاء:
كان الصديق  ضمن المسلمين الذين ذهبوا مع رسول الله  ليعتمروا عمرة القضاء مكان عمرتهم التي صدهم المشركون عنها.
ب-في سرية ذات السلاسل:
قال رافع بن عمرو الطائي  : بعث رسول الله  عمرو بن العاص على جيش ذات السلاسل، وبعث معه في ذلك الجيش أبا بكر وعمر، رضي الله عنهما، وسَرَاة أصحابه، فانطلقوا حتى نزلوا جبل طَيّ، فقال عمرو: انظروا إلى رجل دليل بالطريق، فقالوا: مانعلمه إلا رافع بن عمرو، فإنه كان رَبيلاً في الجاهلية. قال رافع: فلما قضينا غَزَاتنا وانتهيت إلى المكان الذي كنا خرجنا منه، توسّمت أبا بكر ، وكانت له عباءة فدكية، فإذا ركب خَلَّها عليه بخلال، وإذا نزل بسطها فأتيته فقلت: ياصاحب الخِلال، إني توسمتك من بين أصحابك، فائتني بشيء إذا حفظته كنت مثلكم ولا تطوِّل عليّ فأنْسىَ. فقال: تحفظ أصابعك الخمس؟ قلت: نعم، قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وتقيم الصلوات الخمس وتؤتي زكاة مالك إن كان لك مال، وتحج البيت، وتصوم رمضان: هل حفظت؟ قلت نعم، قال: وأخرى لاتُؤمَّرَنَّ على اثنين قلت: وهل تكون الإمرة إلا فيكم أهل المَدَر. فقال: يوشك أن تفشو حتى تبلغك ومن هو دونك، إن الله عزوجل لما بعث نبيه  دخل الناس في الإسلام، فمنهم من دخل لله فهداه الله، ومنهم من أكرهه السَّيف، فكلهم عُوَّاد الله وجيران الله وخَفَارةُ الله، إن الرجل إذا كان أميراً، فتظالم الناس بينهم فلم يأخذ لبعضهم من بعض انتقم الله منه، إن الرجل منكم لتؤخذ شاة جاره فيظل نَاتئ عضلته غضباً لجاره والله من وراء جاره.
ففي هذه النصيحة دروس وعبر لإبناء المسلمين يقدمها الصحابي الجليل أبو بكر الصديق الذي تربى على الإسلام وعلى يد رسول الله  من أهمها:
1-أهمية العبادات: الصلاة لأنها عماد الدين، والزكاة والصوم والحج.
2-عدم طلب الإمارة (ولاتكونن أميراً) تماماً كما أوصى رسول الله ، أبا ذر الغفاري (وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها) ولذلك فإن أبا بكر الفاهم الواعي لكلام حبيبه محمد  جاء في رواية: وأنه من يك أميراً فإنه أطول الناس حساباً، وأغلظهم عذاباً، ومن لايكن أميراً فإنه من أيسر الناس حساباً، وأهونهم عذاباً، فهذا فهم الصديق لمقام الإمارة.
3-إن الله حرم الظلم على نفسه، ونهى عباده أن يتظالموا، أن يظلم بعضهم بعضا، لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، كما نهى عن ظلم المؤمنين(من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ، وهم جيران الله، وهم عواذ الله، والله أحق أن يغضب لجيرانه.
4-على عهد الصدر الأول كان أمراء الأمة خيارها، وجاء وقت فشاء أمرها (الإمارة) وكثرت حتى نالها من ليس لها بأهل: إن هذه الإمارة ليسيرة، وقد أوشكت أن تفشوا حتى ينالها من ليس لها بأهل.
5-وفي غزوة ذات السلاسل ظهر موقف متميز للصديق في احترام الأمراء مما يثبت أن أبا بكر كان صاحب نفس تنطوي على قوة هائلة، وقدرة متميزة في بناء الرجال، وتقديرهم واحترامهم، فعن عبدالله بن بريدة قال: بعث رسول الله  عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فلما انتهوا إلى مكان الحرب أمرهم عمرو أن لاينوروا ناراً، فغضب عمر وهم أن يأتيه، فنهاه أبو بكر، وأخبره أن الرسول  لم يستعمله عليك إلا لعلمه بالحرب فهدأ عنه عمر.
سابعاً: في فتح مكة وحنين والطائف:
أ-في فتح مكة 8هـ:
كان سبب الفتح بعد هدنة الحديبية ماذكره ابن اسحاق قال: حدثني الزهري عن عروة ابن الزبير عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم أنهما حدثاه جميعاً قالا: في صلح الحديبية أنه من شاء أن يدخل في عقد محمد دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل، فتواثبت خزاعة وقالوا نحن ندخل في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر وقالوا نحن ندخل في عقد قريش وعهدهم، فمكثوا في ذلك نحو السبعة أو الثمانية عشر شهراً، ثم إن بني بكر وثبوا على خزاعة ليلاً بماء يقال له الوتير- وهو قريب من مكة - وقالت قريش مايعلم بنا محمد، وهذا الليل ومايرانا من أحد فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح وقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله  فقدم عمرو بن سالم إلى المدينة فأنشد رسول الله  قائلاً:
اللهم إني ناشد محمداً
                حلف أبينا وأبيك الأتلدا
فانصر هداك الله نصراً أعتدا
                وادع عباد الله يأتوا مددا
فقال النبي: نصرت ياعمرو بن سالم.
وتجهز النبي  مع صحابته للخروج إلى مكة، وكتم الخبر، ودعا الله أن يعمي على قريش حتى تفاجأ بالجيش المسلم يفتح مكة وخافت قريش أن يعلم النبي  بما حدث فخرج أبو سفيان من مكة إلى رسول الله فقال: يامحمد، أشدد العقد، وزدنا في المدة، فقال النبي: ولذلك قدمت؟ هل كان من حدث قبلكم، فقال معاذ الله نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية لانغير ولانبدل، فخرج من عند النبي  يقصد مقابلة الصحابة عليهم الرضوان.
1-أبو بكر وأبو سفيان:
طلب أبو سفيان من أبي بكر  أن يجدد العقد ويزدهم في المدة، فقال أبو بكر: جواري في جوار رسول الله ، والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم. وهنا تظهر فطنة الصديق وحنكته السياسية ثم يظهر الإيمان القوي بالحق الذي هو عليه ويعلن أمام أبي سفيان دون خوف أنه مستعد لحرب قريش بكل مايمكن ولو وجد الذر تقاتل قريشاً لأعانها عليها.
2-بين عائشة وأبي بكر الصديق رضي الله عنهما:
دخل الصديق  على عائشة وهي تغربل حنطة وقد أمرها النبي  بأن تخفي ذلك .. فقال لها أبو بكر: يابنية لم تصنعين هذا الطعام؟ فسكتت، فقال: أيريد رسول الله أن يغزو؟ فصمتت، فقال لعله يريد بني الأصفر - أي الروم - فصمتت، فقال لعله يريد أهل نجد؟ فصمتت، فقال لعله يريد قريشاً، فصمتت، فدخل رسول الله  فقال الصديق له: يارسول الله أتريد أن تخرج مخرجاً؟ قال: نعم، لعل تريد بني الأصفر؟ قال: لا، قال: أتريد أهل نجد؟ قال: لا، قال: فلعلك تريد قريشاً؟ قال: نعم. قال أبو بكر: يارسول الله أليس بينك وبينهم مدة؟ قال: ألم يبلغك ماصنعوا ببني كعب؟
وهنا سلم أبو بكر للنبي  وجهز نفسه ليكون مع القائد  في هذه المهمة الكبرى وذهب مع رسول الله  المهاجرون والأنصار فلم يتخلف منهم أحد .
3-الصديق في دخول مكة:
لما دخل النبي  مكة في عام الفتح وكان بجانبه أبو بكر رأى النساء يلطمن وجوه الخيل فابتسم إلى أبي بكر  وقال: يا أبا بكر كيف قال حسان؟ فأنشد أبو بكر:
عَدِمْنَا خَيلنا إن لم تروْها
                تُثير النَّقعَ مَوْعِدُها كَدَاءُ
يباريْنَ الأَسِنَّة مُصغيات
                على أكتَافِها الأسلُ الظّباءُ
تظلُّ جيادُنا متمطِّرات
                تلطمهُنَّ بالخُمرِ النساءُ
فقال النبي: ادخلوها من حيث قال حسان، وقد تمَّت النعمة على الصديق في هذا الجو العظيم بإسلام أبيه أبي قحافة .
ب-في حنين:
أخذ المسلمون يوم حنين درساً قاسياً، إذ لحقتهم هزيمة في أول المعركة جعلتهم يفرون من هول المفاجأة وكانوا كما قال الإمام الطبري: فانشمروا لايلوي أحدٌ على أحد وجعل رسول الله  يقول: أين أيها الناس، هلموا إليَّ، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبدالله .. يامعشر الأنصار، أنا عبدالله ورسوله.. ثم نادى عمه العباس وكان جهوري الصوت فقال له: ياعباس ناد: يامعشر الأنصار، يا أصحاب السمرة، كان هذا هو حال المسلمين في أول المعركة، النبي وحده لم يثبت معه أحد إلا قلة، ولم تكن الفئة التي صبرت مع النبي إلا فئة من الصحابة يتقدمهم الصديق  ثم نصرهم الله بعد ذلك نصراً عزيزاً مؤزراً، وكانت هناك بعض المواقف للصديق منها:
1-فتوى الصديق بين يدي رسول الله:
قال ابو قتادة: لما كان يوم حنين نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلاً من المشركين، وآخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله فأسرعت إلى الذي يختله فرفع ليضربني وأضرب يده فقطعتها ثم أخذني فضمني ضمّاً شديداً حتى تخوفت ثم ترك فتحلل ودفعته ثم قتلته وانهزم المسلمون وانهزمت معهم، فإذا بعمر بن الخطاب في الناس، فقلت له: ماشأن الناس؟ قال أمر الله ثم تراجع الناس إلى رسول الله، فقال رسول الله: من أقام بينة على قتيل قتله، فله سلبه، فقمت لألتمس بينة قتيلي فلم أرَ أحداً يشهد لي، فجلست ثم بدا لي فذكرت أمره لرسول الله  فقال رجل من جلسائه: سلاح هذا القتيل الذي يذكر عندي، فأرضه منه فقال أبو بكر: كلا لايعطيه، أصيبغ من قريش ويدع أسداً من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله ، قال: فقام رسول الله  فأدّاه إليّ فاشتريت منه خرافاً، فكان أول مال تأشَّلته في الإسلام.
إن مبادرة الصديق في الزجر والردع والفتوى واليمين على ذلك في حضرة رسول الله ، ثم يصدقه الرسول فيما قال ويحكم بقوله خصوصية شرف، لم تكن لأحد غيره ونلحظ في الخبر السابق أن أبا قتادة الأنصاري  حرص على سلامة أخيه المسلم وقتل ذلك الكافر بعد جهد عظيم، كما أن موقف الصديق  فيه دلالة على حرصه على إحقاق الحق والدفاع عنه ودليل على رسوخ إيمانه وعمق يقينه وتقديره لرابطة الأخوة الإسلامية وأنها بمنزلة رفيعة بالنسبة له.
2-الصديق وشعر عباس بن مرداس:
حين استقل العباس بن مرداس عطاءه من غنائم حنين قال شعراً عاتب فيه رسول الله  حيث قال:
          كانت نهابا تلافيتها
                          بكرِّي على المُهرِ في الأجْرَع
          وإيقاظي القوم أن يرقدوا
                          إذا هجع الناس لم أهجع
          فأصبح نهبي ونهب العبيد
                          بين عيينة والأقرع
          وقد كنت في الحرب ذا تُدْراء
                          فلم أُعطَ شيئاً ولم أُمْنَع
          إلا أفائل أعطيتها
                          عديد قوائمها الأربع
          وما كان حصن ولاحابس
                          يفوقان شيخي في المجمع
          وماكنت دون امرئ منهما
                          ومن تضع اليوم لايُرْفعِ
فقال رسول الله: اذهبوا به، فأقطعوا عني لسانه، فأعطوه حتى رَضي، فكان ذلك قطع لسانه الذي أمر به رسول الله.
وأتى العباس رسول الله ، فقال له رسول الله: أنت القائل: فأصبح نهبي ونهبُ العبيد بين الأقرع وعيينة؟ فقال ابوبكر الصديق: بين عيينة والأقرع؛ فقال رسول الله: (هما واحد)، فقال أبوبكر: أشهد أنك كما قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُبِينٌ} (سورة يس، الآية 69).
ج- في الطائف:
 في حصار الطائف وقعت جراحات في اصحاب النبي  وشهادة، ورفع رسول الله  عن أهل الطائف الحصار ورجع الى المدينة وممن استشهد من المسلمين في هذه الغزوة عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما رمي بسم فتوفي منه بالمدينة بعد وفاة النبي.
وعندما قدم وفد ثقيف للمدينة ليعلنوا إسلامهم فما إن ظهر الوفد قرب المدينة حتى تنافس كل من أبي بكر والمغيرة على أن يكون هو البشير بقدوم الوفد للرسول ، وفاز الصديق بتلك البشارة، وبعد أن أعلنوا إسلامهم وكتب لهم رسول الله   كتابهم وأراد أن يؤمّر عليهم أشار أبوبكر بعثمان بن أبي العاص بن أبي العاص -وكان أحدثهم سناً فقال الصديق: يارسول الله إني رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه في الاسلام وتعلم القرآن، فقد كان عثمان بن أبي العاص كلما نام قومه بالهاجرة، عمد الى رسول الله  فساله في الدين واستقرأه القرآن حتى فقه في الدين وعلم، وكان إذا وجد رسول الله  نائماً عمد الى أبي بكر وكان يكتم ذلك عن أصحابه فأعجب ذلك رسول الله  وعجب منه وأحبه.
وعندما علم الصديق بصاحب السهم الذي أصاب أبنه كانت له مقوله تدل على عظمة إيمانه فعن القاسم بن محمد قال: رُمِيَ عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما بسهم يوم الطائف، فانتفضت به بعد وفاة رسول الله  بأربعين ليلة، فمات فقدم عليه وفد ثقيف ولم يزل ذلك السهم عنده، فأخرجه إليهم فقال: هل يعرف هذا السَّهمَ منكم أحد؟ فقال سعيد بن عبيد، أخو بني عجلان: هذا سهم أنا بَرِيْتُهُ ورشته، عقبته، وأنا رميت به. فقال أبوبكر: فإن هذا السهم الذي قتل عبدالله بن أبي بكر، فالحمدلله الذي أكرمه بيدك، ولم يُهِنك بيده، فإنه أوسع لكما.
ثامناً: في غزوة تبوك، وإمارة الحج، وفي حجة الوداع:
أ- في تبوك:
خرج رسول الله  بجيش عظيم في غزوة تبوك بلغ عدده ثلاثين ألفاً وكان يريد قتال الروم بالشام، وعندما تجمع المسلمون عند ثنية الوداع بقيادة رسول الله ، اختار الأمراء والقادة وعقد الألوية والرايات لهم، فأعطى لواءه الأعظم الى أبي بكر الصديق ، وفي هذه الغزوة ظهرت بعض المواقف للصديق منها:
1- موقفه من وفاة الصحابي عبدالله ذو البجادين رضي الله عنه:
قال عبدالله بن مسعود: قمت في جوف الليل وأنا مع رسول الله  في غزوة تبوك، قال: فرأيت شعلة من نار من ناحية العسكر، قال: فاتبعتها، أنظر إليها فإذا رسول الله  وأبوبكر وعمر، وإذا عبدالله ذو البجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله في حضرته، وأبوبكر وعمر يدليانه إليه، وهو يقول: أدنيا الى أخاكما، فدلياه إليه، فلما هيأه بشقه قال: اللهم إني أمسيت راضياَ عنه فارض عنه. قال (الراوي عبدالله ابن مسعود): قال عبدالله بن مسعود: ياليتني كنت صاحب الحفرة.
وكان الصديق  إذا دخل الميت اللحد قال: بسم الله وعلى ملة رسول الله ، وباليقين وبالبعث بعد الموت.
2- طلب الصديق من رسول الله  الدعاء للمسلمين:
قال عمر بن الخطاب: خرجنا الى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستقطع حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل مابقي على كبده، فقال أبوبكر الصديق، يارسول الله إن الله قد عوّدك في الدعاء خيراً، فأدع الله، قال: أتحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع يديه فلم يردهما حتى قالت السماء -أي تهيئت لإنزال مائها- فأظلت -أي أنزلت مطراً خفيفاً- ثم سكبت فملأوا مامعهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
3- نفقة الصديق في تبوك:
حث رسول الله  الصحابة في غزوة تبوك على الإنفاق بسبب بعدها، وكثرة المشركين فيها، ووعد المنفقين بالأجر العظيم من الله، فأنفق كل حسب مقدرته وكان عثمان  صاحب القدح المعلى في الإنفاق في هذه الغزوة.
وتصدق عمر بن الخطاب بنصف ماله وظن أنه سيسبق أبابكر بذلك ونترك الفاروق يحدثنا بنفسه عن ذلك حيث قال: أمرنا رسول الله  يوماً أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي، فقلت اليوم أسبق أبابكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله ، ماأبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، قال: وأتى أبوبكر  بكل ماعنده، فقال له رسول الله: ماأبقيت لأهلك؟ قال أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لاأسابقك الى شيء أبداً.
كان فعل عمر فيما فعله من المنافسة والغبطة مباحاً ولكن حال الصديق  أفضل منه لانه خال من المنافسة مطلقاً ولا ينظر الى غيره.


عمر بن الخطاب
رضي الله عنه

عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزي بن رياح بن قرط بن رزاح بن عدي ابن كعب بن لؤي أمير المؤمنين أبو حفص القرشي العدوي الفاروق اسلم في السنة السادسة من النبوة وله سبع وعشرون سنة قاله الذهبي وقال النووي ولد عمر بعد الفيل بثلاث عشرة سنة وكان من أشراف قريش وإليه كانت السفارة في الجاهلية فكانت قريش إذا وقعت الحرب بينهم أو بينهم وبين غيرهم بعثوه سفيراً: أي رسولا وإذا نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر بعثوه منافراً أو مفاخراً وأسلم قديماً بعد أربعين رجلا وإحدى عشرة امرأة وقيل بعد تسعة وثلاثين رجلا وثلاث وعشرين امرأة وقيل بعد خمسة وأربعين رجلا وإحدى عشرة امرأة فما هو إلا أن أسلم فظهر الإسلام بمكة وفرح به المسلمون.
قال: وهو أحد السابقين الأولين وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الخلفاء الراشدين وأحد أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد كبار علماء الصحابة وزهادهم.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة حديث وتسعة وثلاثون حديثاً روى عنه عثمان بن عفان وعلي وسعد وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وأبو ذر وعمرو بن عبسة وابنه عبد الله وابن عباس وابن الزبير وأنس وأبو هريرة وعمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري والبراء بن عازب وأبو سعيد الخدري وخلائق آخرون من الصحابة وغيرهم رضي الله عنهم.
أقول: وأنا ألخص هنا فصولا فيها جملة من الفوائد تتعلق بترجمته.

فصل في الأخبار الواردة في إسلامه:

أخرج الترمذي عن ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام " وأخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود وأنس رضي الله عنهم.
وأخرج الحاكم عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة " وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي بكر الصديق وفي الكبير من حديث ثوبان.
وأخرج أحمد عن عمر قال: خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أتعجب من تأليف القرآن فقلت: والله هذا شاعر كما قالت قريش فقرأ " إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون " " الحاقة: 41 " الآيات فوقع في قلبي الإسلام كل موقع.

وأخرج ابن أبي شيبة عن جابر قال كان أول إسلام عمر أن عمر قال ضرب أختي المخاض ليلا فخرجت من البيت فدخلت في أستار الكعبة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل الحجر وعليه بتان وصلى لله ما شاء الله ثم انصرف فسمعت شيئاً لم أسمع مثله فخرج فاتبعته فقال من هذا فقلت عمر فقال يا عمر ما تدعني لا ليلا ولا نهاراً فخشيت أن يدعو علي فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال: يا عمر أسرة قلت: لا والذي بعثك بالحق لأعلننه كما أعلنت الشرك.
وأخرج ابن سعد وأبو يعلى والحاكم والبيهقي في الدلائل عن أنس رضي الله عنه قال: خرج عمر متقلداً سيفه فلقيه رجل من بني زهرة فقال: أين تعمد يا عمر؟ فقال: أريد أن أقتل محمداً قال: وكيف تأمن من بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمداً؟ فقال: ما أراك إلا قد صبأت قال أفلا أدلك على العجب إن ختنك وأختك قد صبئا وتركا دينك فمشى عمر فأتاهما وعندهما خباب فلما سمع بحس عمر توارى في البيت فدخل فقال ما هذه الهيمنة وكانوا يقرءون طه قالا ما عدا حديثاً تحدثناه بينا قال فلعلكما قد صبأتما فقال له ختنه يا عمر إن كان الحق في غير دينك فوثب عليه عمر فوطئه وطأ شديداً فجاءت أخته لتدفعه عن زوجها فنفحها نفحة بيده فدمى وجهها فقالت وهي غضبى: وإن كان الحق في غير دينك إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فقال عمر: أعطوني الكتاب الذي هو عندكم فأقرأه وكان عمر يقرأ الكتاب فقالت أخته: إنك نجس وإنه لا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ فقام فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأ طه حتى انتهى إلى " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري " " طه: 14 " فقال عمر دلوني على محمد فلما سمع خباب قول عمر خرج فقال: أبشر يا عمر فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس " اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الدار التي في أصل الصفا فانطلق عمر حتى أتى الدار وعلى بابها حمزة وطلحة وناس فقال حمزة: هذا عمر إن يرد الله به خيراً يسلم وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هيناً قال والنبي صلى الله عليه وسلم داخل يوحى إليه فخرج حتى أتى عمر فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف فقال: ما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبد الله ورسوله.
وأخرج البزار والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الدلائل عن أسلم قال: قال لنا عمر: كنت أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا أنا في يوم حار بالهاجرة في بعض طريق مكة إذ لقيني رجل فقال عجباً لك يا ابن الخطاب إنك تزعم أنك وأنك وقد دخل عليك الأمر في بيتك قلت وما ذاك قال أختك قد أسلمت فوجعت مغضباً حتى قرعت الباب قيل من هذا قلت عمر فتبادروا فاختفوا مني وقد كانوا يقرؤون صحيفة بين أيديهم تركوها ونسوها فقامت أختي تفتح الباب فقلت يا عدوة نفسها أصبأت؟ وضربتها بشيء كان في يدي على رأسها فسال الدم وبكت فقالت: يا ابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد صبأت قال: ودخلت حتى جلست على السرير فنظرت إلى الصحيفة فقلت: ما هذا؟ ناولينيها قالت لست من أهلها إنك لا تطهر من الجنابة وهذا كتاب لا يمسه إلا المطهرون فما زلت بها حتى ناولتنيها ففتحتها فإذا فهيا: بسم الله الرحمن الرحيم فلما مررت باسم من أسماء الله تعالى ذعرت منه فألقيت الصحيفة ثم رجعت إلى نفسي فتناولتها فإذا فيها " سبح لله ما في السماوات والأرض " " الصف: 1 " فذعرت فقرأت إلى " آمنوا بالله ورسوله " " النساء: 136 " فقلت أشهد أن لا إله إلا الله فخرجوا إلي مبادرين وكبروا وقالوا: أبشر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا يوم الاثنين فقال " اللهم أعز دينك بأحب الرجلين إليك إما أبو جهل بن هشام وإما عمر " ودلوني على النبي صلى الله عليه وسلم في بيت بأسفل الصفا فخرجت حتى قرعت الباب فقالوا من قلت ابن الخطاب وقد علموا شدتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فما اجترأ أحد يفتح الباب حتى قال صلى الله عليه وسلم: افتحوا له ففتحوا لي فأخذ رجلان بعضدي حتى أتيا بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خلوا عنه ثم أخذ بمجامع قميصي وجذبني إليه ثم قال أسلم يا ابن الخطاب اللهم اهده فتشهدت فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بفجاج مكة وكانوا مستخفين فلم أشأ أن أرى رجلا يضرب ويضرب إلا رأيته ولا يصيبني من ذلك شيء فجئت إلى خالي أبي جهل بن هشام وكان شريفاً فقرعت عليه الباب فقال: من هذا؟ فقلت ابن الخطاب وقد صبأت فقال: لا تفعل ثم دخل وأجاف الباب دوني فقلت ما هذا بشيء فذهبت إلى رجل من عظماء قريش فناديته فخرج إلى فقلت له مثل مقالتي لخالي وقلل لي مثل ما قال خالي فدخل وأخاف الباب دوني فقلت ما هذا بشيء إن المسلمين يضربون وأنا لا أضرب فقال لي رجل: أتحب أن يعلم بإسلامك قلت نعم قال: فإذا جلس الناس في الحجر فأت فلاناً لرجل لم يكن يكتم السر فقل له فيما بينك وبينه إني قد صبأت فإنه قل ما يكتم السر فجئت وقد اجتمع الناس في الحجر فقلت فيما بيني وبينه إني قد صبأت قال أو قد فعلت؟ قلت: نعم فنادى بأعلى صوته إن ابن الخطاب قد صبأ فبادروا إلي فما زلت أضر بهم ويضربونني واجتمع علي الناس فقال خالي: ما هذه الجماعة؟ قيل عمر قد صبأ فقام علي الحجر فأشار بكمه إلا أني قد أجرت ابن أختي فتكشفوا عني فكنت لا أشاء أن أرى أحداً من المسلمين يضرب ويضرب إلا رأيته فقلت ما هذا بشيء قد يصيبني فأتيت خالي فقلت جوارك رد عليك فما زلت أضرب وأضرب حتى أعز الله الإسلام.

وأخرج أبو نعيم في الدلائل وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سألت عمر رضي الله عنه: لأي شيء سميت الفاروق فقال أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام فخرجت إلى المسجد فأسرع أبو جهل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسبه فأخبر حمزة فأخذ قوسه وجاء إلى المسجد إلى حلقة قريش التي فيها أبو جهل فاتكأ على قوسه مقابل أبي جهل فنظر إليه فعرف أبو جهل الشر في وجهه فقال: مالك يا أبا عمارة فرفع القوس فضرب بها أخدعه فقطعه فسالت الدماء فأصلحت ذلك قريش مخافة الشر قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف في دار الأرقم المخزومي فانطلق حمزة فأسلم فخرجت بعده بثلاثة أيام فإذا فلان ابن فلان المخزومي فقلت له: أرغبت عن دين آبائك واتبعت دين محمد؟ فقال: إن فعلت فقد فعله من هو أعظم عليك حقاً مني قلت ومن هو قال أختك وختنك فانطلقت فوجدت الباب مغلقاً وسمعت همهمة ففتح لي الباب فدخلت فقلت: ما هذا الذي أسمع عندكم قالوا ما سمعت شيئاً فما زال الكلام بيننا حتى أخذت برأس ختني فضربته ضربة فأدميته فقامت إلى أختي فأخذت برأسي وقالت: قد كان ذلك على رغم أنفك فاستحييت حين رأيت الدماء فجلست وقلت: أروني هذا الكتاب فقالت: إنه لا يمسه إلا المطهرون فاغتسلت فأخرجوا إلى صحيفة فيها بسم الله الرحمن الرحيم فقلت أسماء طيبة طاهرة " طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " " طه: 1 " إلى قوله " له الأسماء الحسنى " " طه: 8 " قال: فتعظمت في صدري وقلت: من هذا فرت قريش فأسلمت وقلت أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فإنه في دار الأرقم فأتيت الدار فضربت الباب فاستجمع القوم فقال لهم حمزة مالكم قالوا عمر قال: وإن كان عمر افتحوا له الباب فإن أقبل قبلنا منه وإن أدبر قتلناه فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فتشهد عمر فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل مكة قلت يا رسول الله ألسنا على الحق؟ قال: بلى قلت: ففيم الإخفاء؟ فخرجنا صفين أنا في أحدهما وحمزة في الآخر حتى دخلنا المسجد فنظرت قريش إلي وإلى حمزة فأصابتهم كآبة شديدة لم يصبهم مثلها فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاروق يومئذ لأنه أظهر الإسلام وفرق بين الحق والباطل.
وأخرج ابن سعد عن ذكوان قال: قلت لعائشة: من سمى عمر الفاروق؟ قالت: النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن ماجة والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أسلم عمر نزل جبري فقال يا محمد لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر.
وأخرج البزار والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أسلم عمر قال المشركون: قد انتصف القوم اليوم منا وأنزل الله " يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين " " الأنفال: 64 " .
وأخرج البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.
وأخرج ابن سعد والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان إسلام عمر فتحاً وكانت هجرته نصراً وكانت إمامته رحمة ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي إلى البيت حتى أسلم عمر فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا فصلينا.
وأخرج ابن سعد والحاكم عن حذيفة قال: لما أسلم عمر كان الإسلام كالرجل المقبل لا يزداد إلا قرباً فلما قتل عمر كان الإسلام كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعداً.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب إسناده صحيح حسن.
وأخرج ابن سعد عن صهيب قال: لما أسلم عمر رضي الله عنه أظهر الإسلام ودعا إليه علانية وجلسنا حول البيت حلقاً وطفنا بالبيت وانتصفنا ممن غلظ علينا ورددنا عليه بعض ما يأتي به.
وأخرج ابن سعد عن أسلم مولى عمر قال: أسلم عمر في ذي الحجة من السنة السادسة من النبوة وهو ابن ست وعشرين سنة.


فصل في هجرته
رضي الله عنه

أخرج ابن عساكر عن علي قال: ما علمت أحداً هاجر إلا مختفياً إلا عمر بن الخطاب فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه وانتضى في يده أسهماً وأتى الكعبة وأشراف قريش بفنائها فطاف سبعاً ثم صلى ركعتين عند المقام ثم أتى حلقهم واحدة واحدة فقال: شاهت الوجوه من أراد أن تثكله أمه وييتم ولده وترمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي فما تبعه منهم أحد.

وأخرج عن البراء رضي الله عنه قال: أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير ثم ابن أم مكتوم ثم عمر بن الخطاب في عشرين راكباً فقلنا ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هو على أثري ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه معه.
قال: النووي شهد عمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها وكان ممن ثبت معه يوم أحد.
فصل في الأحاديث الواردة في فضله
غير ما تقدم في ترجمة الصديق رضي الله عنه.
أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بينما أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر قلت: لمن هذا القصر قالوا: لعمر فذكرت غيرتك فوليت مدبراً فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟ وأخرج الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " بينما أنا نائم شربت يعني اللبن حتى أنظر الري يجري في أظفاري ثم ناولته عمر قالوا: فما أولته يا رسول الله قال العلم.
وأخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول بينما أنا نائم رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قمص فمنها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك وعرض علي عمر وعليه قميص يجره قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين " .
وأخرج الشيخان عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً قط إلا سلك فجاً غير فجك " .
وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر " أي ملهمون.
وأخرج الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه " قال ابن عمر " وما نزل بالناس أمر قط فقالوا وقال إلا نزل القرآن على نحو ما قال عمر " .
وأخرج الترمذي والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب " وأخرجه الطبراني عن أبي سعيد الخدري وعصمة بن مالك وأخرجه ابن عساكر من حديث ابن عمر.
وأخرج الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر " .
وأخرج ابن ماجة والحاكم عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أول من يصافحه الحق عمر وأول من يسلم عليه وأول من يأخذ بيده فيدخل الجنة " .
وأخرج ابن ماجة والحاكم عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به " .
وأخرج أحمد والبزار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه وأخرجه الطبراني من حديث عمر بن الخطاب وبلال ومعاوية بن أبي سفيان وعائشة رضي الله عنهم وأخرجه ابن عساكر من حديث ابن عمر.
وأخرج ابن منيع في مسنده عن علي رضي الله عنه قال: كنا أصحاب محمد لا نشك أن السكينة تنطق على لسان عمر.
وأخرج البزار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عمر سراج أهل الجنة " . وأخرجه ابن عساكر من حديث أبي هريرة والصعب بن جثامة.
وأخرج البزار عن قدامة بن مظعون عن عمه عثمان بن مظعون قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا غلق الفتنة وأشار بيده إلى عمر لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش هذا بين أظهركم " .
وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقرئ عمر السلام وأخبره أن غضبه عز ورضاه حكم " .
وأخرج ابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إن الشيطان يفرق من عمر " .
وأخرج أحمد من طريق بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الشيطان ليفرق منك يا عمر " .
وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما في السماء ملك إلا وهو يوقر عمر ولا في الأرض شيطان إلا وهو يفرق من عمر " .

وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله باهى بأهل عرفة عامة وباهى بعمر خاصة " وأخرج في الكبير مثله من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وأخرج الطبراني والديلمي عن الفضل بن العباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحق بعدي مع عمر حيث كان " .
وأخرج الشيخان عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنه قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بينما أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو فنزعت منها إلى ما شاء الله ثم أخذها أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له ثم جاء عمر فاستقى فاستحالت في يده غرباً فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن " .
قال النووي: في تهذيبه: قال العلماء هذا إشارة إلى خلافة أبي بكر وعمر وكثرة الفتوح وظهور الإسلام في زمن عمر.
وأخرج الطبراني عن سديسة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الشيطان لم يلق عمر منذ أسلم إلا خر لوجهه " وأخرجه الدارقطني في الأفراد من طريق سديسة عن حفصة.
وأخرج الطبراني عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال لي جبريل: ليبك الإسلام على موت عمر " .
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أبغض عمر فقد أبغضني ومن أحب عمر فقد أحبني وإن الله باهى بالناس عشية عرفة عامة وباهى بعمر خاصة وإنه لم يبعث الله نبياً إلا كان في أمته محدث وإن يكن في أمتي منهم أحد فهو عمر قالوا: يا رسول الله كيف محدث قال تتكلم الملائكة على لسانه " إسناده حسن.
فصل في أقوال الصحابة والسلف فيه
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ما على ظهر الأرض رجل أحب إلى من عمر أخرجه ابن عساكر.
وقيل لأبي بكر في مرضه: ماذا تقول لربك وقد وليت عمر؟ قال: أقول له وليت عليهم خيرهم أخرجه ابن سعد.
وقال علي رضي الله عنه: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر أخرجه الطبراني في الأوسط.
وقال ابن عمر رضي الله عنه: ما رأيت أحداً قط بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حين قبض أحد ولا أجود من عمر أخرجه ابن سعد.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لو أن علم عمر وضع في كفه ميزان ووضع علم أحياء الأرض في كفة لرجح علم عمر بعلمهم ولقد كانوا يرون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم أخرجه الطبراني في الكبير والحاكم.
وقال حذيفة رضي الله عنه كأن علم الناس كان مدسوساً في حجر عمر.
وقال حذيفة: والله ما أعرف رجلا لا تأخذه في الله لومة لائم إلا عمر.
وقالت عائشة رضي الله عنها وذكرت عمر كان والله أحوذياً نسيج وحده.
وقال معاوية رضي الله عنه: أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها وأما نحن فتمرغنا فيها ظهراً لبطن أخرجه الزبير بن بكار في الموفقيات.
وقال جابر رضي الله عنه: دخل على علي عمر وهو مسجى فقال رحمة الله عليك ما من أحد أحب إلى أن ألقى الله بما في صحيفته بعد صحبة النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المسجى أخرجه الحاكم.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر إن عمر كان أعلمنا بكتاب الله وأفقهنا في دين الله تعالى أخرجه الطبراني والحاكم.
وسئل ابن عباس عن أبي بكر فقال: كان كالخير كله وسئل عن عمر فقال: كان كالطير الحذر الذي يرى أن له بكل طريق شركاً يأخذه وسئل عن علي فقال: ملئ عزماً وحزماً وعلماً ونجدة أخرجه في الطيوريات.
وأخرج الطبراني عن عمير بن ربيعة أن عمر بن الخطاب قال لكعب الأحبار: كيف تجد نعتي؟ قال أجد نعتك قرناً من حديد قال: وما قرن من حديد؟ قال أمير شديد لا تأخذه في الله لومة لائم قال: ثم مه؟ قال ثم يكون من بعدك خليفة تقتله فئة ظالمة قال ثم مه قال: ثم يكون البلاء.

وأخرج أحمد والبزار والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال فضل عمر بن الخطاب الناس بأربع بذكر الأسرى يوم بدر أمر بقتلهم فأنزل الله " لولا كتاب من الله سبق " " الأنفال: 68 " الآية وبذكر الحجاب أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتجبن فقالت له زينب: وإنك علينا يا ابن الخطاب والوحي ينزل علينا في بيوتنا فأنزل الله " فإذا سألتموهن متاعاً " " الأحزاب: 53 " الآية وبدعوة النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم أيد الإسلام بعمر " وبرأيه في أبي بكر كان أول من بايعه.
وأخرج ابن عساكر عن مجاهد قال: كنا نحدث أن الشياطين كانت مصفدة في إمارة عمر فلما أصيب بثت.
وأخرج عن سالم بن عبد الله قال: أبطأ خبر عمر على أبي موسى فأتى امرأة في بطنها شيطان فسألها عنه فقالت: حتى يجيئني شيطاني فجاء فسألته عنه فقال تركته مؤتزراً بكساء يهنأ أبل الصدقة وذاك رجل لا يراه شيطان إلا خر لمنخريه الملك بين عينيه وروح القدس ينطق بلسانه.
فصل: قال سفيان الثوري من زعم أن علياً كان أحق بالولاية من أبي بكر وعمر فقد أخطأ وخطأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار.
وقال شريك: ليس يقدم علياً على أبي بكر وعمر أحد فيه خير.
وقال أبو أسامة: أتدرون من أبو بكر وعمر هما أبو الإسلام وأمه.
وقال جعفر الصادق: أنا بريء ممن ذكر أبا بكر وعمر إلا بخير.
فصل في موافقات عمر
رضي الله عنه

قد أوصلها بعضهم إلى أكثر من عشرين.
أخرج ابن مردويه عن مجاهد قال: كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن.
وأخرج ابن عساكر عن علي قال: إن في القرآن لرأياً من رأي عمر.
وأخر عن ابن عمر مرفوعاً ما قال الناس في شيء وقال فيه عمر إلا جاء القرآن بنحو ما يقول عمر.
وأخرج الشيخان عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " " البقرة: 125 " وقلت يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن يحتجبن فنزلت آية الحجاب واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة فقلت: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن فنزلت كذلك.
وأخرج مسلم عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث: في الحجاب وفي أسارى بدر وفي مقام إبراهيم ففي هذا الحديث خصلة رابعة.
وفي التهذيب للنووي: نزل القرآن بموافقته في أسرى بدر وفي الحجاب وفي مقام إبراهيم وفي تحريم الخمر فزاد خصلة خامسة وحديثها في السنن ومستدرك الحاكم أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فأنزل الله تحريمها.
وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي في أربع نزلت هذه الآية " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين " " المؤمنون: 12 " الآية فلما نزلت قلت أنا: فتبارك الله حسن الخالقين فنزلت " فتبارك الله أحسن الخالقين " " المؤمنون: 14 " فزاد في هذا الحديث خصلة سادسة وللحديث طريق آخر عن ابن عباس أوردته في التفسير المسند.
ثم رأيت في كتاب فضائل الإمامين لأبي عبد الله الشيباني قال: وافق عمر ربه في أحد وعشرين موضعاً فذكر هذه الستة وزاد سابعاً قصة عبد الله ابن أبي قلت: حديثها في الصحيح عنه قال: لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام إليه فقمت حتى وقفت في صدره فقلت يا رسول الله أو على عدو الله ابن أبي القائل يوم كذا كذا؟ فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت " ولا تصل على أحد منهم مات أبداً " " التوبة: 84 " الآية.
وثامناً " يسألونك عن الخمر " الآية: " البقرة: 219 " .
وتاسعاً " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة " الآية " قلت: هما مع آية المائدة خصلة واحدة والثلاثة في الحديث السابق.
وعاشراً لما أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاستغفار لقوم قال عمر: سواء عليهم فأنزل الله " سواء عليهم استغفرت لهم " المنافقون: 6 " الآية قلت أخرجه الطبراني عن ابن عباس.
الحادي عشر: لما استشار صلى الله عليه وسلم الصحابة في الخروج إلى بدر أشار عمر بالخروج فنزلت " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق " " الأنفال: 5 " .
الثاني عشر لما استشار الصحابة في قصة الإفك قال عمر: من زوجكها يا رسول الله؟ قال: الله قال: أفتظن أن ربك دلس عليك فيها؟ سبحانك هذا بهتان عظيم فنزلت كذلك.

الثالث عشر: قصته في الصيام لما جامع زوجته بعد الانتباه وكان ذلك محرماً في أول الإسلام فنزل " أحل لكم ليلة الصيام " " البقرة: 187 " الآية قلت: أخرجه أحمد في مسنده.
الرابع عشر: قوله تعالى " من كان عدواً لجبريل " " البقرة: 97 " الآية قلت: أخرجه ابن جرير وغيره من طرق عديدة وأقر بها للموافقة ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهودياً لقي عمر فقال: إن جبريل الذي يذكره صاحبكم عدو لنا فقال له عمر: من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين فنزلت على لسان عمر.
الخامس عشر: قوله تعالى " فلا وربك لا يؤمنون " " النساء: 65 " الآية قلت أخرج قصتها ابن أبي حاتم وابن مروديه عن أبي الأسود قال اختصم رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما فقال الذي قضى عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب فأتيا إليه فقال الرجل: قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا فقال ردنا إلى عمر فقال: أكذاك؟ قال نعم فقال: عمر مكانكما حتى أخرج إليكم فخرج إليهما مشتملا على سيفه فضرب الذي قال ردنا إلى عمر فقتله وأدبر الآخر فقال يا رسول الله قتل عمر والله صاحبي فقال ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن فأنزل الله " فلا وربك لا يؤمنون " " النساء: 65 " الآية فأهدر دم الرجل وبرئ عمر من قتله وله شاهد موصول أوردته في التفسير المسند.
السادس عشر: الاستئذان في الدخول وذلك أنه دخل عليه غلامه وكان نائماً فقال اللهم حرم الدخول فنزلت آية الاستئذان.
السابع عشر: قوله في اليهود إنهم قوم بهت.
الثامن عشر: قوله تعالى " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " " الواقعة: 39 - 40 " قلت أخرج قصتها ابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله وهي في أسباب النزول.
التاسع عشر: رفع تلاوة الشيخ والشيخة إذا زنيا الآية.
العشرون: قوله يوم أحد لما قال أبو سفيان: أفي القوم فلان؟ لا نجيبنه فوافقه رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: أخرج قصته أحمد في مسنده.
قال: ويضم إلى هذا ما أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرد على الجهمية من طريق ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن كعب الأحبار قال: ويل لملك الأرض من ملك السماء فقال عمر: إلا من حاسب نفسه فقال كعب والذي نفسي بيده إنها في التوراة لتابعتها فخر عمر ساجداً.
ثم رأيت في الكامل لابن عدي من طريق عبد الله بن نافع وهو ضعيف عن أبيه عن عمر أن بلالا كان يقو ل إذا أذن اشهد أن لا إله إلا الله حي على الصلاة فقال له عمر قل في أثرها: أشهد أن محمداً رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل كما قال عمر.
فصل في كراماته
رضي الله عنه
أخرج البيهقي وأبو نعيم كلاهما في دلائل النبوة واللالكائي في شرح السنة والدير عاقولي في فوائده وابن الأعرابي في كرامات الأولياء والخطيب في رواة مالك عن نافع عن ابن عمر قال: وجه عمر جيشاً ورأس عليهم رجلا يدعى سارية فبينما عمر يخطب جعل ينادي يا سارية الجبل ثلاثاً ثم قدم رسول الجيش فسأله عمر فقال: يا أمير المؤمنين هزمنا فبينما نحن كذلك إذ سمعنا صوت ينادي يا سارية الجبل ثلاثاً فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزمهم الله قال قيل: لعمر إنك كنت تصيح بذلك وذلك الجبل الذي كان سارية عنده بنهاوند من أرض العجم قال ابن حجر في الإصابة إسناده حسن.
وأخرج ابن مروديه من طريق ميمون بن مهران عن ابن عمر قال: كان عمر يخطب يوم الجمعة فعرض في خطبته أن قال يا سارية الجبل من استرعى الذئب ظلم فالتفت الناس بعضهم لبعض فقال لهم علي: ليخرجن مما قال فلما فرغ سألوه فقال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا أخواننا وإنهم يمرون بحبل فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجه واحد وإن جاوزوا هلكوا فخرج مني ما تزعمون أنكم سمعتموه قال: فجاء البشير بعد شهر فذكر أنهم سمعوا صوت عمر في ذلك اليوم قال فعدلنا إلى الجبل ففتح الله علينا.

وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن عمرو بن الحارث قال بينما عمر بن الخطاب على المنبر يخطب يوم الجمعة إذ ترك الخطبة فقال: يا سارية الجبل مرتين أو ثلاثاً ثم أقبل على خطبته فقال بعض الحاضرين لقد جن إنه لمجنون فدخل عليه عبد الرحمن بن عوف وكان يطمئن إليه فقال لشد ما ألومهم عليك إنك لتجعل لهم على نفسك مقالا بينما أنت تخطب إذا أنت تصيح يا سارية الجبل أي شيء هذا قال: إني والله ما ملكت ذلك رأيتهم يقاتلون عند جبل يؤتون من بين أيديهم ومن خلفهم فلم أملك أن قلت يا سارية الجبل ليلحقوا بالجبل فلبثوا إلى أن جاء رسول سارية بكتابه: إن القوم لقونا يوم الجمعة فقاتلناهم حتى إذا حضرت الجمعة ودار حاجب الشمس سمعنا منادياً ينادي يا سارية الجبل مرتين فلحقنا بالجبل فلم نزل قاهرين لعدونا حتى هزمهم الله وقتلهم فقال أولئك الذين طعنوا عليه دعوا هذا الرجل فإنه مصنوع له.
وأخرج أبو القاسم بن بشران في فوائده من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: قال عمر بن الخطاب لرجل: ما اسمك؟ قال: جمرة قال ابن من؟ قال ابن شهاب قال ممن؟ قال: من الحرقة قال أين مسكنك قال الحرة قال بأيها؟ قال بذات لظى فقال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا فرجع الرجل فوجد أهله قد احترقوا.
وأخرج مالك في الموطإ عن يحيى بن سعيد نحوه وأخرجه ابن دريد في الأخبار المنثورة وابن الكلبي في الجامع وغيرهم.
وقال أبو الشيخ في كتاب العظمة: حدثنا أبو الطيب حدثنا علي بن داود حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عمن حدثه قال لما فتحت مصر أتى أهلها عمرو بن العاص حين دخل يوم من أشهر العجم فقالوا يا أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها قال وما ذاك؟ قالوا إذا كان إحدى عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الثياب والحلي أفضل ما يكون ثم ألقيناها في هذا النيل فقال لهم عمرو إن هذا لا يكون أبدا في الإسلام وإن الإسلام يهدم ما كان قبله فأقاموا والنيل لا يجري قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب له أن قد أصبت بالذي قلت وإن الإسلام يهدم ما كان قبله وبعث بطاقة في داخل كتابه وكتب إلى عمرو إني قد بعثت إليك ببطاقة في داخل كتابي فألقها في النيل فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص أخذ البطاقة ففتحها فإذا فيها من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر وإن كان الله يجريك فأسأل الله الواحد القهار أن يجريك فألقى البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم فأصبحوا وقد أجراه الله تعالى ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة فقطع الله تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم.
وأخرج ابن عساكر عن طارق بن شهاب قال: إن كان الرجل ليحدث عمر بالحديث فيكذبه الكذبة فيقول احبس هذه ثم يحدثه بالحديث فيقول: احبس هذه فيقول له كل ما حدثتك حق إلا ما أمرتني أن أحبسه.
وأخرج عن الحسن قال: إن كان أحد يعرف الكذب إذا حدث به فهو عمر بن الخطاب.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هدبة الحمصي قال: أخبر عمر بأن أهل العراق قد حصبوا أميرهم فخرج غضبان فصلى فسها في صلاته فلما سلم قال: اللهم إنهم قد لبسوا علي فالبس عليهم وعجل عليهم بالغلام الثقفي يحكم فيهم بحكم الجاهلية: لا يقيل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم قلت: أشاربه إلى الحجاج قال ابن لهيعة وما ولد الحجاج يومئذ.
فصل في نبذ من سيرته
أخرج ابن سعد عن الأحنف بن قيس قال كنا جلوساً بباب عمر فمرت جارية فقالوا: سرية أمير المؤمنين فقال: ما هي لأمير المؤمنين بسرية ولا تحل له إنها من مال الله فقلنا فماذا يحل له من مال الله تعالى قال إنه لا يحل لعمر من مال الله إلا حلتين: حلة للشتاء وحلة للصيف وما أحج به وأعتمر وقوتي وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم ثم أنا بعد رجل من المسلمين.
وقال خزيمة بن ثابت: كان عمر إذا استعمل عاملا كتب له واشترط عليه أن لا يركب برذوناً ولا يأكل نقياً ولا يلبس رقيقاً ولا يغلق بابه دون ذوي الحاجات فإن فعل فقد حلت عليه العقوبة.

وقال عكرمة بن خالد وغيره: إن حفصة وعبد الله وغيرهما كلموا عمر فقالوا لو أكلت طعاماً طيباً كان أقوى لك على الحق قال أكلكم على هذا الرأي قالوا نعم قال قد علمت نصحكم ولكني تركت صاحبي على جادة فإن تركت جادتهما لم أدركهما في المنزل.
قال: وأصاب الناس سنة فما أكل عامئذ سمناً ولا سميناً.
وقال ابن مليكة: كلم عتبة بن فرقد عمر في طعامه فقال: ويحك آكل طيباتي في حياتي الدنيا وأستمتع بها؟.
وقال الحسن: دخل عمر على ابنه عاصم وهو يأكل لحماً فقال: ما هذا؟ قال: قرمنا إليه قال أو كلما قرمت إلى شيء أكلته كفى بالمرء سرفاً أن يأكل كل ما اشتهى.
وقال أسلم: قال عمر: لقد خطر على قلبي شهوة السمك الطري قال: فرحل يرفأ راحلته وسار أربعاً مقبلا وأربعاً مدبراً واشترى مكتلا فجاء به وعمد إلى الراحلة فغسلها فأتى عمر فقال: انطلق حتى أنظر إلى الراحلة فنظر وقال: أنسيت أن تغسل هذا العرق الذي تحت أذنيها؟ عذبت بهيمة في شهوة عمر؟ إلا والله لا يذوق عمر مكتلك.
وقال قتادة: كان عمر يلبس وهو خليفة جبة من صوف مرقوعة بعضها بأدم ويطوف في الأسواق على عاتقه الدرة يؤدب بها الناس ويمر بالنكث والنوى فيلتقطه ويلقيه في منازل الناس ينتفعون به.
وقال أنس: رأيت بين كتفي عمر أربع رقاع في قميصه وقال أبو عثمان النهدي: رأيت على عمر إزاراً مرقوعاً بأدم وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: حججت مع عمر فما ضرب فسطاطاً ولا خباء كان يلقى الكساء والنطع على الشجرة ويستظل تحته وقال عبد الله بن عيسى كان في وجه عمر بن الخطاب خطان أسودان من البكاء وقال الحسن كان عمر يمر بالآية من ورده فيسقط حتى يعاد منها أياما وقال أنس دخلت حائطاً فسمعت عمر يقول وبيني وبينه جاداً عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ والله لتتقين الله ابن الخطاب أو ليعذبنك الله وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة رأيت عمر أخذ تبنة من الأرض فقال ليتني كنت هذه التبنة يا ليتني لم أك شيئاً ليت أمي لم تلدني وقال عبيد الله ابن عمر بن حفص حمل عمر بن الخطاب قربة على عنقه فقيل له في ذلك فقال إن نفسي أعجبتني فأردت أن أذلها وقال محمد سيرين قدم صهر لعمر عليه فطلب أن يعطيه من بيت المال فانتهره عمر وقال: أردت أن ألقى الله ملكاً خائناً؟ ثم أعطاه من صلب ماله عشرة آلاف درهم وقال النخعي كان عمر يتجر وهو خليفة وقال أنس تقرقر بطن عمر من أكل الزيت عام الرمادة وكان قد حرم على نفسه السمن فنقر بطنه بإصبعه وقال إنه ليس عندنا غيره حتى يحيا الناس وقال سفيان بن عيينة قال عمر بن الخطاب أحب الناس إلي من رفع إلى عيوبي وقال أسلم رأيت عمر بن الخطاب يأخذ بأذن الفرس ويأخذ بيده الأخرى أذنه ثم ينزو على متن الفرس وقال ابن عمر ما رأيت عمر غضب قط فذكر الله عنده أو خوف أو قرأ عنده إنسان آية من القرآن إلا وقف عما كان يريد وقال بلال لأسلم: كيف تجدون عمر؟ فقال خير الناس إلا أنه إذا غضب فهو أمر عظيم فقال بلال: لو كنت عنده إذا غضب قرأت عليه القرآن حتى يذهب غضبه وقال الأحوص بن حكيم عن أبيه أتى عمر بلحم فيه سمن فأبى أن يأكلها وقال كل واحد منهما أدم أخرج هذه الآثار كلها ابن سعد.
وأخرج ابن سعد عن الحسن قال: قال عمر: هان شيء أصلح به قوماً أن أبدلهم أميراً مكان أمير.
فصل في صفته
رضي الله عنه

أخرج ابن سعد والحاكم عن زر قال: خرجت مع أهل المدينة في يوم عيد فرأيت عمر يمشي حافياً شيخاً أصلع آدم أعسر طوالا مشرفاً على الناس كأنه على دابة قال الواقدي: لا يعرف عندنا أن عمر كان آدم إلا أن يكون رآه عام الرمادة فإنه كان تغير لونه حين أكل الزيت.
وأخرج ابن سعد عن ابن عمر أنه وصف عمر فقال: رجل أبيض تعلوه حمرة طوال أصلع أشيب.
وأخرج عن عبيد بن عمير قال كان عمر يفوق الناس طولا.
وأخرج عن سلمة بن الأكوع قال: كان عمر رجل أعسر يسر يعني يعتمد بيديه جميعاً.
وأخرج ابن عساكر عن أبي رجاء العطاردي قال: كان عمر رجلا طويلا جسيماً أصلع شديد الصلع أبيض شديد الحمرة في عارضيه خفة سبلته كبيرة وفي أطرافها صهبة.
وفي تاريخ ابن عساكر من طرق أن أم عمر بن الخطاب حنتمة بنت هشام ابن المغيرة أخت أبي جهل بن هشام فكان أبو جهل خاله.
فصل في خلافته
رضي الله عنه

ولي الخلافة بعهد من أبي بكر في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة قال الزهري: استخلف عمر يوم توفي أبو بكر وهو يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة أخرجه الحاكم فقام بالأمر أتم قيام وكثرت الفتوح في أيامه: ففي سنة أربع عشرة فتحت دمشق ما بين صلح وعنوة وحمص وبعلبك صلحاً والبصرة والأبلة كلاهما عنوة.
وفيها جمع عمر بالناس على صلاة التراويح قاله العسكري في الأوائل.
وفي سنة خمس عشرة فتحت الأردن كلها عنوة إلا طبرية فإنها فتحت صلحاً وفيها كانت وقعة اليرموك والقادسية.
قال ابن جرير: وفيها مصر سعد الكوفة وفيها فرض عمر الفروض ودون الدواوين وأعطى العطاء على السابقة.
وفي سنة ست عشرة فتحت الأهواز والمدائن وأقام بها سعد الجمعة في إيوان كسرى وهي أول جمعة جمعت بالعراق وذلك في صفر وفيها كانت وقعة جلولاء وهزم فيها يزدجرد بن كسرى وتقهقر إلى الري وفيها فتحت تكريت وفيها سار عمر ففتح بيت المقدس وخطب بالجباية خطبته المشهورة وفيها فتحت قنسرين عنوة وحلب وإنطاكية ومنبج صلحاً وسروج عنوة وفيها فتحت قرقيسياء صلحاً وفي ربيع الأول كتب التاريخ من الهجرة بمشورة علي.
وفي سنة سبع عشرة زاد عمر في المسجد النبوي وفيها كان القحط بالحجاز وسمى عام الرمادة واستسقى عمر للناس بالعباس.
أخرج ابن سعد عن نيار الأسلمي أن عمر لما خرج يستسقى خرج وعليه برد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عن ابن عون قال: أخذ عمر بيد العباس ثم رفعها وقال: اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبيك أن تذهب عنا المحل وأن تسقينا الغيث فلم يبرحوا حتى سقوا فأطبقت السماء عليهم أياماً وفيها فتحت الأهواز صلحاً.
وفي سنة ثمان عشرة فتحت جنديسابور صلحاً وحلوان عنوة وفيها كان طاعون عمواس وفيها فتحت الرها وسميساط عنوة وحران ونصيبين وطائفة من الجزيرة عنوة وقيل صلحاً والموصل ونواحيها عنوة.
وفي سنة تسع عشرة فتحت قيسارية عنوة.
وفي سنة عشرين فتحت مصر عنوة وقيل مصر كلها صلحا إلا الإسكندرية فعنوة وقال على بن رباح: المغرب كله عنوة وفيها فتحت تستر وفيها هلك قيصر عظيم الروم وفيها أجلى عمر اليهود عن خيبر وعن نجران وقسم خيبر ووادي القرى.
وفي سنة إحدى وعشرين فتحت الإسكندرية عنوة ونهاوند ولم يكن للأعاجم بعدها جماعة وبرقة وغيرها.
وفي سنة اثنتين وعشرين فتحت أذربيجان عنوة وقيل صلحاً والدينور عنوة وما سبذان عنوة وهمذان عنوة وطرابلس المغرب والري وعسكر وقومس.
وفي سنة ثلاث وعشرين كان فتح كرمان وسجستان ومكران من بلاد الجبل وأصبهان ونواحيها.
وفي آخرها كانت وفاة سيدنا عمر رضي الله عنه بعد صدوره من الحج شهيداً قال سعيد بن المسيب لما نفر عمر من مني أناخ بالأبطح ثم استلقى ورفع يديه إلى السماء وقال اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل أخرجه الحاكم.
وقال أبو صالح السمان: قال كعب الأحبار لعمر أجدك في التوراة تقتل شهيداً قال وأني لي بالشهادة وأنا بجزيرة العرب؟.
وقال أسلم: قال عمر اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك أخرجه البخاري.
وقال معدان بن أبي طلحة: خطب عمر فقال: رأيت كأن ديكاً نقرني نقرة أو نقرتين وإني لا أراه إلا حضور أجلي وإن قوما يأمروني أن استخلف وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم أخرجه الحاكم.

قال الزهري: كان عمر رضي الله عنه لا يأذن لسبي قد احتلم في دخول المدينة حتى كتب إليه المغير بن شعبة وهو على الكوفة يذكر له غلاماً عنده جملة صنائع ويستأذنه أن يدخل المدينة ويقول إن عنده أعمالا كثيرة فيها منافع للناس إنه حداد نقاش نجار فأذن له أن يرسله المدينة وضرب عليه المغيرة مائة درهم في الشهر فجاء إلى عمر يشتكي شدة الخراج فقال ما خراجك بكثير فانصرف ساخطاً يتذمر فلبث عمر ليالي ثم دعاه فقال ألم أخبر أنك تقول لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح فالتفت إلى عمر عابساً وقال لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها فلما ولى قال عمر لأصحابه أو عدني العبد آنفاً ثم اشتمل أبو لؤلؤة على خنجر ذي رأسين نصابه في وسطه فكمن بزاوية من زوايا المسجد في الغلس فلم يزل هناك حتى خرج عمر يوقظ الناس للصلاة فلما دنا منه طعنه ثلاث طعنات أخرجه ابن سعد.
وقال عمرو بن ميمون الأنصاري: إن أبا لؤلؤة عبد المغيرة طعن عمر بخنجر له رأسان وطعن معه اثني عشر رجلا مات منهم ستة فألقى عليه رجل من أهل العراق ثوباً فلما اغتم فيه قتل نفسه.
وقال أبو رافع: كان أبو لؤلؤة عبد المغيرة يصنع الأرحاء وكان المغيرة يستغله كل يوم أربعة دراهم فلقي عمر فقال: يا أمير المؤمنين إن المغيرة قد أثقل علي فكلمه فقال: أحسن إلى مولاك ومن نية عمر أن يكلم المغيرة فيه فغضب وقال يسع الناس كلهم عدله غيري وأضمر قتله واتخذ خنجراً وشحذه وسمه وكان عمر يقول أقيموا صفوفكم قبل أن يكبر فجاء فقام حذاءه في الصف وضربه في كتفه وفي خاصرته فسقط عمر وطعن ثلاثة عشر رجلا معه فمات منهم ستة وحمل عمر إلى أهله وكادت الشمس تطلع فصلى عبد الرحمن بن عوف بالناس بأقصر سورتين وأتى عمر بنبيذ فشربه فخرج من جرحه فلم يتبين فسقوه لبناً فخرج من جرحه فقالوا لا بأس عليك فقال إن يكن بالقتل بأس فقد قتلت فجعل الناس يثنون عليه ويقولون: كنت وكنت فقال أما والله وددت أني خرجت منها كفافاً لا على ولا لي وأن صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلمت لي وأثنى عليه ابن عباس فقال لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من هول المطلع وقد جعلتها شورى في عثمان وعلى وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وأمر صهيباً أن يصلي بالناس وأجل الستة ثلاثاً أخرجه الحاكم.
وقال ابن عباس: كان أبو لؤلؤة مجوسياً.

وقال عمرو بن ميمون: قال عمر الحمد الله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام ثم قال لابنه يا عبد الله أنظر ما على من الدين فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوها فقال: إن وفى مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فاسأل في بني عدي فإن لم تف أموالهم فاسأل في قريش أذهب إلى أم المؤمنين عائشة فقل يستأذن عمر أن يدفن مع صاحبيه فذهب إليها فقالت كنت أريده تعنى المكان لنفسي ولأوثرنه اليوم على نفسي فأتى عبد الله فقال قد أذنت فحمد الله تعالى وقيل له أوص يا أمير المؤمنين واستخلف قال ما أرى أحداً أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنهم راض فسمى الستة وقال يشهد عبد الله بن عمر معهم وليس له من الأمر شيء فإن أصابت الإمرة سعداً فهو ذاك وإلا فليستعين به أيكم ما أمر فإني لم أعز له من عجز ولا خيانة ثم قال: أوصى الخليفة من بعدي بتقوى الله وأوصيه بالمهاجرين والأنصار وأوصيه بأهل الأمصار خيراً في مثل ذلك من الوصية فلما توفي خرجنا به نمشي فسلم عبد الله بن عمر وقال عمر يستأذن فقالت عائشة أدخلوه فأدخل فوضع هناك مع صاحبيه فلما فرغوا من دفنه ورجعوا اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن بن عوف اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم فقال الزبير قد جعلت أمري إلى علي وقال سعد قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن وقال طلحة قد جعلت أمري إلى عثمان قال فخلا هؤلاء الثلاثة فقال عبد الرحمن أنا لا أريدها فأيكما يبرأ من هذا الأمر ونجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه وليحرص على صلاح الأمة فسكت الشيخان علي وعثمان فقال عبد الرحمن اجعلوه إلى والله على لا آلوكم عن أفضلكم قالا نعم فخلا بعلي وقال لك من القدم في الإسلام والقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد علمت الله عليك لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت عليك لتسمعن ولتطعين قال: نعم ثم خلا بالآخر فقال له كذلك فلما أخذ ميثاقهما بايع عثمان وبايعه علي.
وفي مسند أحمد عن عمر أنه قال: إن أدركني أجلى وأبو عبيدة بن الجراح حتى استخلفته فإن سألني ربي قلت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن لكل نبي أميناً وأميني أبو عبيدة بن الجراح " فإن أدركني أجلي وقد توفي أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل فإن سألني ربي لم استخلفته قلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إنه يحشر يوم القيامة بين يدي العلماء نبذة " وقد ماتا في خلافته.
وفي المسند أيضاً عن أبي رافع أنه قيل لعمر عند موته في الاستخلاف فقال: قد رأيت من أصحابي حرصاً سيئاً ولو أدركني أحد رجلين ثم جعلت هذا الأمر إليه لوثقت به سالم مولى أبي حذيفة وأبو عبيدة بن الجراح.
أصيب عمر يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة ودفن يوم الأحد مستهل المحرم الحرام وله ثلاث وستون سنة وقيل ست وستون سنة وقيل إحدى وستون وقيل ستون ورجحه الواقدي وقيل: تسع وخمسون وقيل خمس أو أربع وخمسون وصلى عليه صهيب في المسجد.
وفي تهذيب المزني كان نقش خاتم عمر كفى بالموت واعظاً يا عمر.
وأخرج الطبراني عن طارق بن شهاب قال: قالت أم أيمن يوم قتل عمر اليوم وهي الإسلام.
وأخرج عبد الرحمن بن يسار قال: شهدت موت عمر بن الخطاب فانكسفت الشمس يومئذ رجاله ثقات.




فصل في أوليات عمر
رضي الله عنه
قال العسكري: هو أول من سمى أمير المؤمنين وأول من كتب التاريخ من الهجرة وأول من أتخذ بيت المال وأول من سن قيام شهر رمضان وأول من عس بالليل وأول من عاقب على الهجاء وأول من ضرب في الخمر ثمانين وأول من حرم المتعة وأول من نهى عن بيع أمهات الأولاد وأول من جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات وأول من أتخذ الديوان وأول من فتح الفتوح ومسح السواد وأول من حمل الطعام من مصر في بحر أيلة إلى المدينة وأول من أحتبس صدقة في الإسلام وأول من أعال الفرائض وأول من أخذ زكاة الخيل وأول من قال أطال الله بقاءك قاله لعلي وأول من قال أيدك الله قاله لعلي هذا آخر ما ذكره العسكري.
وقال النووي في تهذيبه: هو أول من اتخذ الدرة وكذا ذكره ابن سعد في الطبقات قال: ولقد قيل بعده لدرة عمر أهيب من سيفكم قال وهو أول من استقضى القضاة في الأمصار وأول من مصر الأمصار الكوفة والبصرة والجزيرة والشام ومصر والموصل.
وأخرج ابن عساكر عن إسماعيل بن زياد قال: مر علي بن أبي طالب على المساجد في رمضان وفيها القناديل فقال: نور الله على عمر في قبره كما نور علينا في مساجدنا.
فصل: قال ابن سعد اتخذ عمر دار الدقيق فجعل فيها الدقيق والسويق والتمر والزبيب وما يحتاج إليه يعين به المنقطع ووضع فيما بين مكة والمدينة بالطريق ما يصلح من ينقطع به وهدم المسجد النبوي وزاد فيه ووسعه وفرشه بالحصباء وهو الذي أخرج اليهود من الحجاز إلى الشام وأخرج أهل نجران إلى الكوفة وهو الذي أخر مقام إبراهيم إلى موضعه اليوم وكان ملصقاً بالبيت.
فصل في نبذ من أخباره وقضاياه
أخرج العسكري في الأوائل والطبراني في الكبير والحاكم من طريق ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز سأل أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة: لأي شيء كان يكتب من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد أبي بكر ثم كان عمر كتب أولا من خليفة أبي بكر فمن أول من كتب من أمير المؤمنين فقال حدثتني الشفاء وكانت من المهاجرات أن أبا بكر كان يكتب من خليفة رسول الله وكان عمر يكتب من خليفة خليفة رسول الله حتى كتب عمر إلى عامل العراق أن يبعث إليه رجلين جلدين يسألهما عن العراق وأهله فبعث إليه لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم فقدما المدينة ودخلا المسجد فوجدا عمرو بن العاص فقالا استأذن لنا على أمير المؤمنين فقال عمرو أنتما والله أصبتما اسمه فدخل عليه عمرو فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال: ما بدا لك في هذا الاسم؟ لتخرجن مما قلت فأخبره وقال أنت الأمير ونحن المؤمنون فجرى الكتاب بذلك من يومئذ.
وقال النووي في تهذيبه: سماه بهذا الاسم عدي بن حاتم ولبيد بن ربيعة حين وفدا عليه من العراق وقيل سماه به المغيرة بن شعبة وقيل إن عمر قال للناس أنتم المؤمنون وأنا أميركم فسمى أمير المؤمنين وكان قبل ذلك يقال له خليفة خليفة رسول الله فعدلوا عن تلك العبارة لطولها.
وأخرج ابن عساكر عن معاوية بن قرة قال: كان يكتب من أبي بكر خليفة رسول الله فلما كان عمر بن الخطاب أرادوا أن يقولوا: خليفة خليفة رسول الله قال عمر: هذا يطول: قالوا: لا ولكنا أمرناك علينا فأنت أميرنا قال: نعم أنتم المؤمنون وأنا أميركم فكتب أمير المؤمنين.
وأخرج البخاري في تاريخه عن ابن المسيب قال: أول من كتب التاريخ عمر بن الخطاب لسنتين ونصف من خلافته فكتب لست عشرة من الهجرة بمشورة علي.
وأخرج السلفي في الطيوريات بسند صحيح عن ابن عمر عن عمر أنه أراد أن يكتب السنن فاستخار الله شهراً فأصبح وقد عزم له ثم قال إني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتاباً فأقبلوا عليه وتركوا كتاب الله.
وأخرج ابن سعد عن شداد قال كان أول كلام تكلم به عمر حين صعد المنبر أن قال: اللهم إني شديد فليني وإني ضعيف فقوني وإني بخيل فسخني.
وأخرج ابن سعد وسعيد بن منصور وغيرهما من طرق عن عمر أنه قال: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة وإلى اليتيم من ماله: إن أيسرت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف فإن أيسرت قضيت.
وأخرج ابن سعد عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب كان إذا احتاج أتى صاحب بيت المال فاستقرضه فربما أعسر فيأتيه صاحب بيت المال يتقاضاه فيلزمه فيحتال له عمر وربما خرج عطاؤه فقضاه.
وأخرج ابن سعد عن البراء بن معرور أن عمر خرج يوماً حتى أتى المنبر وكان قد اشتكى شكوى فنعت له العسل وفي بيت المال عكة فقال: إن أذنتم لي فيها أخذتها وإلا فهي على حرام فأذنوا له.
وأخرج عن سالم بن عبد الله أن عمر كان يدخل يده في دبرة البعير ويقول: إني لخائف أن اسأل عما بك.
وأخرج عن ابن عمر قال: كان عمر إذا أراد أن ينهي الناس عن شيء تقدم إلى أهله فقال لا أعلمن أحداً وقع في شيء مما نهيت عنه إلا أضعفت عليه العقوبة.
وروينا من غير وجه أن عمر بن الخطاب خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة وكان يفعل ذلك كثيراً إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقاً عليها بابها وهي تقول:
تطاول هذا الليل تسري كواكبه ... وأرقني أن لا ضجيع ألاعبه
فوالله لولا الله تخشى عواقبه ... لزحزح من هذا السرير جوانبه
ولكنني أخشى رقيباً موكلا ... بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه
مخافة ربي والحياء يصدني ... وأكرم بعلي أن تنال مراتبه

وأخرج إلى عماله بالغزو أن لا يغيب أحداً أكثر من أربعة أشهر.
وأخرج ابن سعد عن زاذان عن سلمان أن عمر قال له: أملك أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر ثم وضعته في غير حقه فأنت ملك غير خليفة فاستعبر عمر.
وأخرج عن سفيان بن أبي العرجاء قال: قال عمر بن الخطاب: والله ما ادري أخليفة أنا أم ملك فإن كنت ملكاً فهذا أمر عظيم فقال قائل يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقاً قال: ما هو؟ قال الخليفة لا يأخذ إلا حقاً ولا يضعه إلا في حق وأنت بحمد الله كذلك والملك يعسف الناس فيأخذ من هذا ويعطى هذا فسكت عمر.
وأخرج عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ركب عمر فرساً فانكشف ثوبه عن فخذه فرأى أهل نجران بفخذه شامة سوداء فقالوا هذا الذي نجد في كتابنا أنه يخرجنا من أرضنا.
وأخرج عن سعد الجاري أن كعب الأحبار قال لعمر: إنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقعوا فيها فإذا مت لم يزالوا يقتحمون فيها إلى يوم القيامة.
وأخرج عن أبي معشر قال: حدثنا أشياخنا أن عمر قال: إن هذا الأمر لا يصلح إلا بالشدة التي لا جبرية فيها وباللين الذي لا وهن فيه.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن حكيم بن عمير قال: كتب عمر ابن الخطاب ألا لا يجلدن أمير الجيش ولا سرية أحداً ألحد حتى يطلع الدرب لئلا تحمله حمية الشيطان أن يلحق بالكفار.
وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن الشعبي قال: كتب قيصر إلى عمر ابن الخطاب: إن رسلي آتتني من قبلك فزعمت أن قبلكم شجرة ليست بخليفة شيء من الشجر تخرج مثل آذان الحمير ثم تنشق عن مثل اللؤلؤ ثم يخضر فيكون كالزمرد الأخضر ثم يحمر فيكون كالياقوت الأحمر ثم يينع فينضج فيكون كأطيب فالوذج أكل ثم ييبس فيكون عصمة للمقيم وزاداً للمسافر فإن تكن رسلي صدقتني فلا أدري هذه الشجرة إلا من شجر الجنة فكتب إليه عمر من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم إن رسلك قد صدقوك هذه الشجرة عندنا هي الشجرة التي أنبتها الله على مريم حين نفست بعيسى ابنها فأتق الله ولا تتخذ عيسى إلها من دون الله فإن " مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب " " آل عمران: 59 " .
وأخرج ابن سعد عن ابن عمر أن عمر أمر عماله فكتبوا أموالهم منهم سعد ابن أبي وقاص فشاطرهم عمر في أموالهم فأخذ نصفاً وأعطاهم نصفاً.
وأخرج عن الشعبي أن عمر كان إذا استعمل عاملا كتب ما له.
وأخرج عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: مكث عمر زماناً لا يأكل من مال بيت المال شيئاً حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة فأرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشارهم فقال قد شغلت نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي منه فقال علي غداء وعشاء فأخذ بذلك عمر.
وأخرج عن ابن عمر أن عمر حج سنة ثلاث وعشرين فأنفق في حجته ستة عشر ديناراً فقال يا عبد الله أسرفنا في هذا المال.
وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن قتادة والشعبي قالا جاءت عمر امرأة فقالت: زوجي يقوم الليل ويصوم النهار فقال عمر لقد أحسنت الثناء على زوجك فقال كعب بن سوار لقد شكت فقال عمر كيف قال تزعم أنه ليس لها من زوجها نصيب قال فإذا قد فهمت ذلك فأقض بينهما فقال يا أمير المؤمنين أحل الله له من النساء أربعاً فلها من كل أربعة أيام يوم ومن كل أربع ليال ليلة.
وأخرج عن ابن جريج قال: أخبرني من أصدقه أن عمر بينما هو يطوف سمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه ... وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فلولا حذار الله لا شيء مثله ... لزحزح من هذا السرير جوانبه
فقال عمر: ما لك؟ قالت: أغزيت زوجي منذ أشهر وقد اشتقت إليه قال أردت سوءاً؟ قالت: معاذ الله قل فاملكي عليك نفسك فإنما هو البريد إليه فبعث إليه ثم دخل على حفصة فقال: إني سائلك عن أمر قد أهمني فأفرجيه عني كم تشتاق المرأة إلى زوجها؟ فخفضت رأسها واستحيت قال فإن الله لا يستحي من الحق فأشارت بيدها ثلاثة أشهر وإلا فأربعة أشهر فكتب عمر أن لا تحبس الجيوش فوق أربعة أشهر.

وأخرج عن جابر بن عبد الله أنه جاء إلى عمر يشكو إليه ما يلقى من النساء فقال عمر إنا لنجد ذلك حتى إني لأريد الحاجة فتقول لي: ما تذهب إلا إلى فتيات بني فلان تنظر إليهن فقال له عبد الله بن مسعود: أما بلغك أن إبراهيم عليه السلام شكا إلى الله خلق سارة فقيل له إنها خلقت من ضلع فألبسها على ما كان فيها ما لم تر عليها خربة في دينها.
وأخرج عن عكرمة بن خالد قال دخل ابن لعمر بن الخطاب عليه وقد ترجل ولبس ثياباً حساناً فضربه عمر بالدرة حتى أبكاه فقالت له حفصة: لم ضربته؟ قال: رأيته قد أعجبته نفسه فأحببت أن أصغرها إليه.
وأخرج عن معمر عن ليث بن أبي سليم أن عمر بن الخطاب قال: لا تسموا الحكم ولا أبا الحكم فإن الله هو الحكم ولا تسموا الطريق السكة.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الضحاك قال: قال أبو بكر والله لوددت أني كنت شجرة إلى جنب الطريق فمر على بعير فأخذني فأدخلني فاه فلا كنى ثم ازدردني ثم أخرجني بعراً ولم أكن بشراً فقال عمر يا ليتني كنت كبش أهلي سمنوني ما بدا لهم حتى إذا كنت كأسمن ما يكون زارهم من يحبون فذبحوني لهم فجعلوا بعضي شواء وبعضي قديداً ثم أكلوني ولم أكن بشراً.
وأخرج ابن عساكر عن أبي البختري قال: كان عمر بن الخطاب يخطب على المنبر فقام إليه الحسين بن علي رضي الله عنه فقال أنزل عن منبر أبي فقال عمر: منبر أبيك لا منبر أبي من أمرك بهذا فقام علي فقال والله ما أمره بهذا أحد أما لأوجعنك يا غدر فقال لا توجع ابن أخي فقد صدق منبر أبيه إسناده صحيح.
وأخرج الخطيب في أدب الراوي عن مالك من طريقه عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا يتنازعان في المسألة بينهما حتى يقول الناظر إنهما لا يجتمعان أبداً فما يفترقان إلا على أحسنه وأجمله.
وأخرج ابن سعد عن الحسن قال: أول خطبة خطبها عمر حمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فقد ابتليت بكم وابتليتم بي وخلفت فيكم بعد صاحبي فمن كان بحضرتنا باشرناه بأنفسنا ومن غاب عنا وليناه أهل القوة والأمانة ومن يحسن نزده حسناً ومن يسيئ نعاقبه ويغفر الله لنا ولكم.
وأخرج عن جبير بن الحويرث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استشار المسلمين في تدوين الديوان فقال له علي: تقسم كل سنة ما اجتمع إليك من مال ولا تمسك منه شيئاً وقال عثمان: أرى مالا كثيراً يسع الناس وإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن يلتبس الأمر فقال له الوليد بن هشام ابن المغيرة يا أمير المؤمنين قد جئت الشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديواناً وجندوا جنوداً فدون ديواناً وجند جنوداً فأخذ بقوله فدعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا من نساب قريش فقال اكتبوا الناس على منازلهم فكتبوا فبدءوا يبني هاشم ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه ثم عمر وقومه على الخلافة فلما نظر فيه عمر قال ابدؤوا بقرابة النبي صلى الله عليه وسلم الأقرب فالأقرب حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله.
وأخرج عن سعيد بن المسيب قال: دون عمر الديوان في المحرم سنة عشرين.
وأخرج عن الحسن قال: كتب عمر إلى حذيفة أن أعط الناس أعطيتهم وأرزاقهم فكتب إليه: إنا قد فعلنا وبقى شيء كثير فكتب إليه عمر إنه فيئهم الذي أفاء الله عليهم ليس هو لعمر ولا لآل عمر اقسمه بينهم.
وأخرج ابن سعد عن جبير بن مطعم قال: بينما عمر واقف على جبال عرفة سمع رجلا يصرخ ويقول يا خليفة الله فسمعه رجل آخر وهم يعتافون فقال: ما لك فك الله لهواتك فأقبلت على الرجل فصحت عليه فقال جبير: فإن الغد واقف مع عمر على العقبة يرميها إذ جاءت حصاة عائرة ففتقت رأس عمر فقصدت فسمعت رجلا من الجبل يقول أشعرت ورب الكعبة لا يقف عمر هذا الموقف بعد العام أبداً قال جبير فإذا هو الذي صرخ فينا بالأمس فاشتد ذلك علي.
وأخرج عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان آخر حجة حجها عمر بأمهات المؤمنين إذ صدرنا من عرفة مررت بالمحصب فسمعت رجلا على راحلته يقول أين كان عمر أمير المؤمنين فسمعت رجلا آخر يقول: هاهنا كان أمير المؤمنين فأناخ راحلته ثم رفع عقيرته فقال:
عليك سلام من إمام وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق

قضيت أموراً ثم غادرت بعدها ... بوائق في أكمامها لم تفتق
فلم يتحرك ذاك الراكب ولم يدر من هو فكنا نتحدث أنه من الجن فقدم عمر من تلك الحجة فطعن بالخنجر فمات.
وأخرج عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمر أنه قال: هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد وفي كذا وكذا وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء.
وأخرج عن النخعي أن رجلا قال لعمر: ألا تستخلف عبد الله بن عمر؟ فقال قاتلك الله والله ما أردت الله بهذا استخلف رجلا لم يحسن أن يطلق امرأته؟ وأخرج عن شداد بن أوس عن كعب قال: كان في بني إسرائيل ملك إذا ذكرناه ذكرنا عمر وإذا ذكرنا عمر ذكرناه وكان إلى جنبه نبي يوحى إليه فأوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول له: أعهد عهدك واكتب إلي وصيتك فإنك ميت إلى ثلاثة أيام فأخبره النبي بذلك فلما كان اليوم الثالث وقع بين الجدار والسرير ثم جاء إلى ربه فقال اللهم إن كنت تعلم أني كنت أعدل في الحكم وإذا اختلفت الأمور اتبعت هداك وكنت وكنت فزد في عمري حتى يكبر طفلي وتربو أمتي فأوحى الله إلى النبي أنه قد قال كذا وكذا وقد صدق وقد زدته في عمره خمس عشرة سنة ففي ذلك ما يكبر طفله وتربو أمته فلما طعن عمر قال كعب: لئن سأل عمر ربه ليبقينه الله فأخبر بذلك عمر فقال: اللهم اقبضني إليك غير عاجز ولا ملوم.
وأخرج عن سليمان بن يسار أن الجن ناحت على عمر.
وأخرج الحاكم عن مالك بن دينار قال: سمع صوت بجبل تبالة حين قتل عمر رضي الله عنه:
ليبك على الإسلام من كان باكياً ... فقد أوشكوا صرعى وما قدم العهد
وأدبرت الدنيا وأدبر خيرها ... وقد ملها من كان يوقن بالوعد
وأخرج ابن أبي الدنيا عن يحيى بن أبي راشد البصري قال: قال عمر لابنه اقتصدوا في كفني فإنه إن كان لي عند الله خيراً أبدلني ما هو خير منه وإن كنت على غير ذلك سلبني فأسرع واقتصدوا في حفرتي فإنه إن كان لي عند الله خير أوسع لي فيها مد بصري وإن كنت على غير ذلك ضيقها على حتى تختلف أضلاعي ولا تخرج معي امرأة ولا تزكوني بما ليس في فإن الله هو أعلم بي فإذا خرجتم فأسرعوا في المشي فإنه إن كان لي عند الله خير قدمتموني إلى ما هو خير لي وإن كنت على غير ذلك ألقيتم عن رقابكم شراً تحملونه.
فصل: أخرج ابن عساكر عن ابن عباس أن العباس قال سألت الله حولا بعد ما مات عمر أن يرينيه في المنام فرأيته بعد حول وهو يسلت العرق عن جبينه فقلت بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين ما شأنك فقال: هذا وإن فرغت وإن كاد عرش عمر ليهد لولا أني لقيت رءوفاً رحيماً.
وأخرج أيضاً عن زيد بن أسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص رأى عمر في المنام فقال: كيف صنعت قال: متى فارقتكم قال: منذ اثنتي عشرة سنة قال إنما أنفلت الآن من الحساب.
وأخرج ابن سعد عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: سمعت رجلا من الأنصار يقول دعوت الله أن يريني عمر في المنام فرأيته بعد عشر سنين وهو يمسح العرق عن جبينه فقلت: يا أمير المؤمنين ما فعلت قال: الآن فرغت ولولا رحمة ربي لهلكت.
وأخرج الحاكم عن الشعبي قال: رثت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل عمر فقالت:
عين جودي بعبرة ونحيب ... لا تملي على الإمام الصليب
فجعتني المنون بالفارس المع ... لم يوم الهياج والتأنيب
عصمة الدين والمعين على الده ... ر وغيث الملهوف والمكروب
قل لأهل الضراء والبؤس: موتوا ... إذ سقتنا المنون كأس شعوب


فصل فيمن مات من الصحابة في أيامه
رضي الله عنهم

مات في أيام عمر رضي الله عنه من الأعلام عتبة بن غزوان والعلاء ابن الحضرمي وقيس بن السكن وأبو قحافة والد الصديق رضي الله عنه وسعد بن عبادة وسهيل بن عمرو وابن مكتوم المؤذن وعياش بن أبي ربيعة وعبد الرحمن أخو الزبير بن العوام وقيس بن أبي صعصعة أحد من جمع القرآن ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وأخوه أبو سفيان ومارية أم السيد إبراهيم وأبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل ويزيد ابن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة والفضل بن العباس وأبو جندل ابن سهيل وأبو مالك الأشعري وصفوان بن المعطل وأبي بن كعب وبلال المؤذن وأسيد بن الحضير والبراء بن مالك أخو أنس وزينب بنت جحش وعياض بن غنم وأبو الهيثم بن التيهان وخالد بن الوليد والجارود سيد بني عبد القيس والنعمان بن مقرن وقتادة بن النعمان والأقرع ابن حابس وسودة بنت زمعة وعويم بن ساعدة وغيلان الثقفي وأبو محجن الثقفي وخلائق آخرون من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

عثمان بن عفان
رضي الله عنه
عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي الأموي المكي ثم المدني أبو عمرو ويقال: أبو عبد الله وأبو ليلى.
ولد في السنة السادسة من الفيل وأسلم قديماً وهو ممن دعاه الصديق إلى الإسلام وهاجر الهجرتين: الأولى إلى الحبشة والثانية إلى المدينة وتزوج رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وماتت عنده في ليالي غزوة بدر فتأخر عن بدر لتمريضها بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب له بسهمه وآجره فهو معدود في البدريين بذلك.
وجاء البشير بنصر المسلمين ببدر يوم دفنوها بالمدينة فزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أختها أم كلثوم وتوفيت عنده سنة تسع من الهجرة.
وقال العلماء: ولا يعرف أحد تزوج بنتي نبي غيره ولذلك سمي ذا النورين فهو من السابقين الأولين وأول المهاجرين وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض وأحد الصحابة الذين جمعوا القرآن بل قال ابن عباد: لم يجمع القرآن من الخلفاء إلا هو والمأمون.
وقال ابن سعد: استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في غزوته إلى ذات الرقاع وإلى غطفان.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث وستة وأربعون حديثاً.
روى عنه زيد بن خالد الجهني وابن الزبير والسائب بن يزيد وأنس ابن مالك وزيد بن ثابت وسلمة بن الأكوع وأبو أمامة الباهلي وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن مغفل وأبو قتادة وأبو هريرة وآخرون من الصحابة رضي الله عنهم وخلائق من التابعين.
أخرج ابن سعد عن عبد الرحمن بن حاطب قال: ما رأيت أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث أتم حديثاً ولا أحسن من عثمان بن عفان إلا أنه كان رجلا يهاب الحديث.
وأخرج عن محمد بن سيرين قال: كان أعلمهم بالمناسك عثمان وبعده ابن عمر.
وأخرج البيهقي في سننه عن عبد الله بن عمر بن أبان الجعفي قال: قال لي خالي حسين الجعفي: تدري لم سمى عثمان ذا النورين قلت لا قال: لم يجمع بين بنتي نبي منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة غير عثمان فلذلك سمى ذا النورين.
وأخرج أبو نعيم عن الحسن قال: إنما سمي عثمان ذا النورين لأنه لا نعلم أحداً أغلق بابه على ابنتي نبي غيره.
وأخرج خيثمة في فضائل الصحاب وابن عساكر عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن عثمان فقال ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين كان ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه.
وأخرج الماليني بسند فيه ضعف عن سهل بن سعد قال: قيل لعثمان ذو النورين لأنه ينتقل من منزل إلى منزل في الجنة فتبرق له برقتين فلذلك قيل له ذلك.
وقال: إنه كان يكنى في الجاهلية أبا عمرو فلما كان الإسلام ولدت له رقية عبد الله فاكتنى به.
وأمه: أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس ابن عبد مناف وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم توأمة أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأم عثمان بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وكان أول الناس إسلاماً بعد أبي بكر وعلي وزيد بن حارثة.

وأخرج ابن عساكر من طرق أن عثمان كان رجلا ربعة: ليس بالقصير ولا بالطويل حسن الوجه أبيض مشرباً حمرة بوجهه نكتات جدري كثير اللحية عظيم الكراديس بعيد ما بين المنكبين خذل الساقين طويل الذراعين شعره قد كسا ذراعيه جعد الرأس أصلع أحسن الناس ثغراً جمته أسفل من أذنيه يخضب بالصفرة وكان قد شد أسنانه بالذهب.
وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن حزم المازني قال: رأيت عثمان بن عفان فما رأيت قط ذكراً ولا أنثى أحسن وجهاً منه.
وأخرج عن موسى بن طلحة قال: كان عثمان بن عفان أجمل الناس.
وأخرج ابن عساكر عن أسامة بن زيد قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزل عثمان بصحفة فيها لحم فدخلت فإذا رقية رضي الله عنها جالسة فجعلت مرة أنظر إلى وجه رقية ومرة أنظر إلى وجه عثمان فلما رجعت سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: دخلت عليهما؟ قلت: نعم قال: فهل رأيت زوجاً أحسن منهما؟ قلت: لا يا رسول الله.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي قال: لما أسلم عثمان بن عفان أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطاً وقال ترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث؟ والله لا أدعك أبداً حتى تدع ما أنت عليه فقال عثمان: والله لا أدعه أبداً ولا أفارقه فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه.
وأخرج أبو يعلى عن أنس قال: أول من هاجر من المسلمين إلى الحبشة بأهله عثمان بن عفان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صحبهما الله إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط.
وأخرج ابن عدي عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته أم كلثوم قال لها: إن بعلك أشبه الناس بجدك إبراهيم وأبيك محمد.
وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نشبه عثمان بأبينا إبراهيم.
فصل في الأحاديث الواردة في فضله
غير ما تقدم

وأخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع ثيابه حين دخل عثمان وقال " ألا أستحيي من رجل تستحي منه الملائكة " .
وأخرج البخاري عن أبي عبد الرحمن السلمي أن عثمان حين حوصر أشرف عليهم فقال: أنشدكم بالله ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزتهم ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حفر بئر رومة فله الجنة؟ فحفرتها فصدقوه بما قال.
وأخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة فقال عثمان بن عفان يا رسول الله على مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش فقال عثمان: يا رسول علي مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش فقال عثمان: يا رسول الله علي ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ما على عثمان ما عمل بعد هذه شيء.
وأخرج الترمذي عن أنس والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجره فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول: ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين.
وأخرج الترمذي عن أنس قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة فبايع الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن عثمان بن عفان في حاجة الله وجاجة رسوله فضرب بإحدى يديه على الأخرى فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان خيراً من أيديهم لأنفسهم.
وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقال: يقتل فيها هذا مظلوماً لعثمان.
وأخرج الترمذي والحاكم وصححه وابن ماجة عن مرة بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فتنة يقربها فمر رجل مقنع في ثوب فقال: هذا يومئذ على الهدى فقمت إليه فإذا هو عثمان بن عفان فأقبلت إليه بوجهي فقلت هذا قال: نعم.

وأخرج الترمذي والحاكم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا عثمان إنه لعل الله يقمصك قميصاً فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني " .
وأخرج الترمذي عن عثمان أنه قال يوم الدار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهداً فأنا صابر عليه.
وأخرج الحاكم عن أبي هريرة قال: اشترى عثمان الجنة من النبي صلى الله عليه وسلم مرتين حيث حفر بئر رومة وحيث جهز جيش العسرة.
وأخرج ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عثمان من أشبه أصحابي بي خلقاً " .
وأخرج الطبراني عن عصمة بن مالك قال: لما ماتت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " زوجوا عثمان لو كان لي ثالثة لزوجته وما زوجته إلا بالوحي من الله " .
وأخرج ابن عساكر عن علي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعثمان: " لو أن لي أربعين ابنة زوجتك واحدة بعد واحدة حتى لا يبقى منهن واحدة " .
وأخرج ابن عساكر عن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مر بي عثمان وعندي ملك من الملائكة فقال: شهيد يقتله قومه إنا نستحي منه " .
وأخرج أبو يعلى عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الملائكة لتستحي من عثمان كما تستحي من الله ورسوله " .
وأخرج ابن عساكر عن الحسن أنه ذكر عنده حياء عثمان فقال: إن كان ليكون جوف البيت والباب عليه مغلق فيضع ثوبه ليفيض عليه الماء فيمنعه الحياء أن يرفع صلبه.
فصل في خلافته
رضي الله عنه
بويع بالخلافة بعد دفن عمر بثلاث ليال فروي أن الناس كانوا يجتمعون في تلك الأيام إلى عبد الرحمن بن عوف يشاورونه ويناجونه فلا يخلو به رجل ذو رأي فيعدل بعثمان أحداً ولما جلس عبد الرحمن للمبايعة حمد الله وأثنى عليه وقال في كلامه: إني رأيت الناس يأبون إلا عثمان أخرجه ابن عساكر عن المسور بن مخرمة وفي رواية: أما بعد يا علي فإني قد نظرت في الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلا ثم أخذ بيد عثمان فقال: نبايعك على سنة الله وسنة رسوله وسنة الخليفتين بعده فبايعه عبد الرحمن وبايعه المهاجرون والأنصار.
وأخرج ابن سعد عن أنس قال: أرسل عمر إلى أبي طلحة الأنصاري قبل أن يموت بساعة فقال: كن في خمسين من الأنصار مع هؤلاء النفر أصحاب الشورى فإنهم فيما أحسب سيجتمعون في بيت فقم على ذلك الباب بأصحابك فلا تترك أحداً يدخل عليهم ولا تتركهم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمروا أحدهم.
وفي مسند أحمد عن أبي وائل قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف: كيف بايعتم عثمان وتركتم علياً؟ قال: ما ذنبي؟ قد بدأت بعلي فقلت: أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر؟ فقال فيما استطعت ثم عرضت ذلك على عثمان فقال: نعم.
ويروى أن عبد الرحمن قال لعثمان في خلوة: إن لم أبايعك فمن تشير علي؟ قال: علي وقال لعلي: إن لم أبايعك فمن تشير علي؟ قال عثمان ثم دعا الزبير فقال: إن لم أبايعك فمن تشير علي؟ قال: علي أو عثمان ثم دعا سعداً فقال من تشير علي؟ فأما أنا وأنت فلا نريدها فقال عثمان ثم استشار عبد الرحمن الأعيان فرأى هوى أكثرهم في عثمان.
وأخرج ابن سعد والحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال لما بويع عثمان: أمرنا خير من بقي ولم نأل.
وفي هذه السنة من خلافته فتحت الري وكانت فتحت وانتفضت وفيها أصاب الناس رعاف كثير فقيل لها: سنة الرعاف وأصاب عثمان رعاف حتى تخلف عن الحج وأوصى وفيها فتح من الروم حصون كثيرة وفيها ولي عثمان الكوفة سعد بن أبي وقاص وعزل المغيرة.
وفي سنة خمس وعشرين عزل عثمان سعداً عن الكوفة وولي الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو صحابي أخو عثمان لأمه وذلك أول ما نقم عليه لأنه آثر أقاربه بالولايات وحكى أن الوليد صلى بهم الصبح أربعاً وهو سكران ثم التفت إليهم فقال أزيدكم؟.
وفي سنة ست وعشرين زاد عثمان في المسجد الحرام ووسعه واشترى أماكن للزيادة وفيها فتحت سابور.

وفي سنة سبع وعشرين غزا معاوية قبرس فركب البحر بالجيوش وكان معهم عبادة بن الصامت وزوجته أم حرام بنت ملحان الأنصارية فسقطت عن دابتها فماتت شهيدة هناك وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها بهذا الجيش ودعا لها بأن تكون منهم فدفنت بقبرس وفيها فتحت أرجان ودرا بجرد وفيها عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح فغزا أفريقية فافتتحها سهلا وجبلا فأصاب كل إنسان من الجيش ألف دينار وقيل ثلاثة آلاف دينار ثم فتحت الأندلس في هذا العام.
لطيفة: كان معاوية يلح على عمر بن الخطاب في غزوة قبرس وركوب البحر لها فكتب عمر إلى عمرو بن العاص أن صف لي البحر وراكبه فكتب إليه: إني رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير إن ركد خرق القلوب وإن تحرك أراع العقول تزداد فيه العقول قلة والسيئات كثرة وهم فيه كدود على عود إن مال غرق وإن نجا فرق فلما قرأ عمر الكتاب كتب إلى معاوية والله لا أحمل فيه مسلماً أبداً قال ابن جرير: فغزا معاوية قبرس في أيام عثمان فصالحه أهلها على الجزية.
وفي سنة تسع وعشرين فتحت إصطخر عنوة وفسا وغير ذلك وفيها زاد عثمان في مسجد المدينة ووسعه وبناه بالحجارة المنقوشة وجعل عمدة من حجارة وسقفه بالساج وجعل طوله ستين ومائة ذراع وعرضه خمسين ومائة ذراع.
وفي سنة ثلاثين فتحت جور وبلاد كثيرة من أرض خراسان وفتحت نيسابور صلحاً وقيل عنوة وطوس وسرخس كلاهما صلحاً وكذا مرو وبيهق ولما فتحت هذه البلاد الواسعة كثر الخراج على عثمان وأتاه المال من كل وجه حتى اتخذ له الخزائن وأدر الأرزاق وكان يأمر للرجل بمائة ألف بدرة في كل بدرة أربعة آلاف أوقية.
وفي سنة إحدى وثلاثين توفي أبو سفيان بن حرب والد معاوية وفيها مات الحكم بن أبي العاص عم عثمان رضي الله عنه.
وفي سنة اثنتين وثلاثين توفي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى عليه عثمان وفيها توفي عبد الرحمن بن عوف أحد العشر من السابقين الأولين تصدق مرة بأربعين ألفاً وبقافلة جاءت من الشام كما هي وفيها مات عبد الله بن مسعود الهذلي أحد القراء الأربعة ومن أهل السوابق في الإسلام ومن علماء الصحابة المشهورين بسعة العلم وفيها مات أبو الدرداء الخزرجي الزاهد الحكيم ولي قضاء دمشق لمعاوية وفيها توفي أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري صادق اللهجة وفيها مات زيد بن عبد الله بن عبد ربه الأنصاري الذي أرى الآذان.
وفي سنة ثلاث وثلاثين توفي المقداد بن الأسود في أرضه بالجرف وحمل إلى المدينة وفيها غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح الحبشة.
وفي سنة أربع وثلاثين أخرج أهل الكوفة سعيد بن العاص ورضوا بأبي موسى الأشعري.
وفي سنة خمس وثلاثين كان مقتل عثمان.
قال الزهري: ولي عثمان الخلافة اثنتي عشرة سنة يعمل ست سنين لا ينقم الناس عليه شيئاً وإنه لأحب إلى قريش من عمر بن الخطاب لأن عمر كان شديداً عليهم فلما وليهم عثمان لان لهم ووصلهم ثم توانى في أمرهم واستعمل أقرباءه وأهل بيته في الست الأواخر وكتب لمروان بخمس إفريقية وأعطى أقرباءه وأهل بيته المال وتأول في ذلك الصلة التي أمر الله بها وقال إن أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما وإن أخذته فقسمته في أقربائي فأنكر الناس عليه ذلك أخرجه ابن سعد.

وأخرج ابن عساكر من وجه آخر عن الزهري قال: قلت سعيد بن المسيب: هل أنت مخبري كيف كان قتل عثمان وما كان شأن الناس وشأنه؟ ولم خذله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال ابن المسيب: قتل عثمان مظلوماً ومن قتله كان ظالماً ومن خذله كان معذوراً فقلت: كيف كان ذلك؟ قال إن عثمان لما ولي كره ولايته نفر من الصحابة لأن عثمان كان يحب قومه فولى الناس اثنتي عشرة سنة وكان كثيراً ما يولي بني أمية ممن لم يكن له مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبة فكان يجيء من أمرائه ما ينكره أصحاب محمد وكان عثمان يستعتب فيهم فلا يعزلهم وذلك في سنة خمس وثلاثين فلما كان في الست الأواخر استأثر بني عمه فولاهم وما أشرك معهم وأمرهم بتقوى الله فولى عبد الله ابن أبي سرح مصر فمكث عليها سنين فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلمون منه وقد كان قبل ذلك من عثمان هنأة إلى عبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر فكانت بنو هذيل وبنو زهرة في قلوبهم ما فيها لحال ابن مسعود وكانت بنو غفار وأحلافها ومن غضب لأبي ذر في قلوبهم ما فيها وكانت بنو مخزوم قد حنقت على عثمان لحال عمار بن ياسر وجاء أهل مصر يشكون من ابن أبي سرح فكتب إليه كتاباً يتهدده فيه فأبى ابن أبي سرح أن يقبل ما نهاه عنه عثمان وضرب بعض من أتاه من قبل عثمان من أهل مصر ممن كان أتى عثمان فقتله فخرج من أهل مصر سبعمائة رجل فنزلوا المسجد وشكوا إلى الصحابة في مواقيت الصلاة ما صنع ابن أبي سرح بهم فقام طلحة بن عبيد الله فكلم عثمان بكلام شديد وأرسلت عائشة رضي الله عنها إليه فقالت: تقدم إليك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وسألوك عزل هذا الرجل فأبيت؟ فهذا قد قتل منهم رجلاً فأنصفهم من عاملك ودخل عليه على بن أبي طالب فقال إنما يسألونك رجلا مكان رجل وقد ادعوا قبله دماً فأعزله عنهم واقض بينهم فإن وجب عليه حق فأنصفهم منه فقال لهم اختاروا رجلا أوليه عليكم مكانه فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر فقالوا استعمل علينا محمد بن أبي بكر فكتب عهده وولاه وخرج معهم عدد من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر وابن أبي سرح فخرج محمد ومن معه فلما كان على مسيرة ثلاثة أيام من المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط البعير خبطاً كأنه رجل يطلب أو يطلب فقال له أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما قصتك وما شأنك؟ كأنك هارب أو طالب فقال لهم أنا غلام أمير المؤمنين وجهني إلى عامل مصر فقال له رجل: هذا عامل مصر قال ليس هذا أريد وأخبر بأمره محمد بن أبي بكر فبعث في طلبه رجلا فأخذه فجاء به إليه فقال غلام من أنت فأقبل مرة يقول أنا غلام أمير المؤمنين ومرة يقول أنا غلام مروان حتى عرفه رجل أنه لعثمان فقال له محمد إلى من أرسلت قال إلى عامل مصر قال بماذا قال برسالة قال معك كتاب قال لا ففتشوه فلم يجدوا معه كتاباً وكانت معه إداوة قد يبست فيها شيء يتقلقل فحركوه ليخرج فلم يخرج فشقوا الإداوة فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح فجمع محمد من كان عنده من المهاجرين والأنصار وغيرهم ثم فك الكتاب بمحضر منهم فإذا فيه: إذا أتاك محمد وفلان وفلان فاحتل في قتلهم وأبطل كتابه وقر على عملك حتى يأتيك رأيي واحبس من يجيء إلى يتظلم منك ليأتيك رأيي في ذلك إن شاء الله تعالى فلما قرأوا الكتاب فزعوا وأزمعوا فرجعوا إلى المدينة وختم محمد الكتاب بخواتيم نفر كانوا معه ودفع الكتاب إلى رجل منهم وقدموا المدينة فجمعوا طلحة والزبير وعلياً وسعداً ومن كان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثم فضوا الكتاب بمحضر منهم وأخبروهم بقصة الغلام وأقرأوهم الكتاب فلم يبق أحد من أهل المدينة إلا حنق على عثمان وزاد ذلك من كان غضب لابن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر حنقاً وغيظاً وقام أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلحقوا بمنازلهم ما منهم أحد إلا وهو مغتم لما قرأوا الكتاب وحاصر الناس عثمان سنة خمس وثلاثين وأجلب عليه محمد بن أبي بكر ببني تيم وغيرهم فلما رأى ذلك علي بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمار ونفر من الصحابة كلهم بدري ثم دخل على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير فقال له علي هذا الغلام غلامك قال نعم قال والبعير بعيرك قال: نعم قال: فأنت كتبت هذا الكتاب قال: لا وحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب ولا أمرت به ولا علم لي به قال له علي: فالخاتم خاتمك قال: نعم

قال: فكيف يخرج غلامك ببعيرك وبكتاب عليه خاتمك لا تعلم به؟ فحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب ولا أمرت به ولا وجهت هذا الغلام إلى مصر قط وأما الخط فعرفوا أنه خط مروان وشكوا في أمر عثمان وسألوه أن يدفع إليهم مروان فأبى وكان مروان عنده في الدار فخرج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من عنده غضاباً وشكوا في أمره وعلموا أن عثمان لا يحلف بباطل إلا أن قوماً قالوا: لن يبرأ عثمان من قلوبنا إلا أن يدفع إلينا مروان حتى نبحثه ونعرف حال الكتاب وكيف يأمر بقتل رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بغير حق؟ فإن يكن عثمان كتبه عزلناه وإن يكن مروان كتب على لسان عثمان نظرنا ما يكون منا في أمر مروان ولزموا بيوتهم وأبى عثمان أن يخرج إليهم مروان وخشي عليه القتل وحاصر الناس عثمان ومنعوه الماء فأشرف على الناس فقال أفيكم علي؟ فقالوا لا قال: أفيكم سعد؟ قالوا لا فسكت ثم قال: ألا أحد يبلغ علياً فيسقينا ماء فبلغ ذلك علياً فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماء فما كادت تصل إليه وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية حتى وصل الماء إليه فبلغ علياً أن عثمان يراد قتله فقال إنما أردنا منه مروان فأما قتل عثمان فلا وقال للحسن والحسين اذهبا بسيفكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحداً يصل إليه وبعث الزبير ابنه وبعث طلحة ابنه وبعث عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان ويسألونه إخراج مروان فلما رأى ذلك الناس رموا باب عثمان بالسهام حتى خضب الحسن بن علي بالدماء على بابه وأصاب مروان سهم وهو في الدار وخضب محمد بن طلحة وشج قنبر مولى علي فخشي محمد بن أبي بكر أن يغضب بنو هاشم لحال الحسن والحسين فيثيروها فتنة فأخذ بيد الرجلين فقال لهما إن جاءت بنو هاشم فرأوا الدماء على وجه الحسن كشف الناس عن عثمان وبطل ما نريد ولكن اذهبوا بنا حتى نتسور عليه الدار فنقتله من غير أن يعلم به أحد فتسور محمد وصاحباه من دار رجل من الأنصار حتى دخلوا على عثمان ولا يعلم أحد ممن كان معه لأن كل من كان معه كانوا فوق البيوت ولم يكن معه إلا امرأته فقال لهما محمد: مكانكما فإن معه امرأته حتى أبدأكما بالدخول فإذا أنا ضبطته فادخلا فتوجاه حتى تقتلاه فدخل محمد فأخذ بلحيته فقال له عثمان والله لو رآك أبوك لساءه مكانك مني فتراخت يده ودخل الرجلان عليه فتوجآه حتى قتلاه وخرجوا هاربين من حيث دخلوا وصرخت امرأته فلم يسمع صراخها لما كان في الدار من الجلبة وصعدت امرأته إلى الناس فقالت: إن أمير المؤمنين قد قتل فدخل الناس فوجدوه مذبوحاً وبلغ الخبر علياً وطلحة والزبير وسعداً ومن كان بالمدينة فخرجوا وقد ذهبت عقولهم للخبر الذي أتاهم حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولا فاسترجعوا وقال علي لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ ورفع يده فلطم الحسن وضرب صدر الحسين وشتم محمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير وخرج وهو غضبان حتى أتى منزله وجاء الناس يهرعون إليه فقالوا له نبايعك فمد يدك فلا بد من أمير فقال علي ليس ذلك إليكم إنما ذلك إلى أهل بدر فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة فلم يبق أحد من أهل بدر إلا أتى علياً فقالوا له ما نرى أحداً أحق بها منك مد يدك نبايعك فبايعوه وهرب مروان وولده وجاء علي إلى امرأة عثمان فقال لها من قتل عثمان قالت لا أدري دخل عليه رجلان لا أعرفهما ومعهما محمد ابن أبي بكر وأخبرت علياً والناس بما صنع محمد فدعا علي محمداً فسأله عما ذكرت امرأة عثمان؟ فقال محمد: لم تكذب قد والله دخلت عليه وأنا أريد قتله فذكرني أبي فقمت عنه وأنا تائب إلى الله تعالى والله ما قتلته ولا أمسكته فقالت امرأته صدق ولكنه أدخلهما.قال: فكيف يخرج غلامك ببعيرك وبكتاب عليه خاتمك لا تعلم به؟ فحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب ولا أمرت به ولا وجهت هذا الغلام إلى مصر قط وأما الخط فعرفوا أنه خط مروان وشكوا في أمر عثمان وسألوه أن يدفع إليهم مروان فأبى وكان مروان عنده في الدار فخرج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من عنده غضاباً وشكوا في أمره وعلموا أن عثمان لا يحلف بباطل إلا أن قوماً قالوا: لن يبرأ عثمان من قلوبنا إلا أن يدفع إلينا مروان حتى نبحثه ونعرف حال الكتاب وكيف يأمر بقتل رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بغير حق؟ فإن يكن عثمان كتبه عزلناه وإن يكن مروان كتب على لسان عثمان نظرنا ما يكون منا في أمر مروان ولزموا بيوتهم وأبى عثمان أن يخرج إليهم مروان وخشي عليه القتل وحاصر الناس عثمان ومنعوه الماء فأشرف على الناس فقال أفيكم علي؟ فقالوا لا قال: أفيكم سعد؟ قالوا لا فسكت ثم قال: ألا أحد يبلغ علياً فيسقينا ماء فبلغ ذلك علياً فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماء فما كادت تصل إليه وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية حتى وصل الماء إليه فبلغ علياً أن عثمان يراد قتله فقال إنما أردنا منه مروان فأما قتل عثمان فلا وقال للحسن والحسين اذهبا بسيفكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحداً يصل إليه وبعث الزبير ابنه وبعث طلحة ابنه وبعث عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان ويسألونه إخراج مروان فلما رأى ذلك الناس رموا باب عثمان بالسهام حتى خضب الحسن بن علي بالدماء على بابه وأصاب مروان سهم وهو في الدار وخضب محمد بن طلحة وشج قنبر مولى علي فخشي محمد بن أبي بكر أن يغضب بنو هاشم لحال الحسن والحسين فيثيروها فتنة فأخذ بيد الرجلين فقال لهما إن جاءت بنو هاشم فرأوا الدماء على وجه الحسن كشف الناس عن عثمان وبطل ما نريد ولكن اذهبوا بنا حتى نتسور عليه الدار فنقتله من غير أن يعلم به أحد فتسور محمد وصاحباه من دار رجل من الأنصار حتى دخلوا على عثمان ولا يعلم أحد ممن كان معه لأن كل من كان معه كانوا فوق البيوت ولم يكن معه إلا امرأته فقال لهما محمد: مكانكما فإن معه امرأته حتى أبدأكما بالدخول فإذا أنا ضبطته فادخلا فتوجاه حتى تقتلاه فدخل محمد فأخذ بلحيته فقال له عثمان والله لو رآك أبوك لساءه مكانك مني فتراخت يده ودخل الرجلان عليه فتوجآه حتى قتلاه وخرجوا هاربين من حيث دخلوا وصرخت امرأته فلم يسمع صراخها لما كان في الدار من الجلبة وصعدت امرأته إلى الناس فقالت: إن أمير المؤمنين قد قتل فدخل الناس فوجدوه مذبوحاً وبلغ الخبر علياً وطلحة والزبير وسعداً ومن كان بالمدينة فخرجوا وقد ذهبت عقولهم للخبر الذي أتاهم حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولا فاسترجعوا وقال علي لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ ورفع يده فلطم الحسن وضرب صدر الحسين وشتم محمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير وخرج وهو غضبان حتى أتى منزله وجاء الناس يهرعون إليه فقالوا له نبايعك فمد يدك فلا بد من أمير فقال علي ليس ذلك إليكم إنما ذلك إلى أهل بدر فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة فلم يبق أحد من أهل بدر إلا أتى علياً فقالوا له ما نرى أحداً أحق بها منك مد يدك نبايعك فبايعوه وهرب مروان وولده وجاء علي إلى امرأة عثمان فقال لها من قتل عثمان قالت لا أدري دخل عليه رجلان لا أعرفهما ومعهما محمد ابن أبي بكر وأخبرت علياً والناس بما صنع محمد فدعا علي محمداً فسأله عما ذكرت امرأة عثمان؟ فقال محمد: لم تكذب قد والله دخلت عليه وأنا أريد قتله فذكرني أبي فقمت عنه وأنا تائب إلى الله تعالى والله ما قتلته ولا أمسكته فقالت امرأته صدق ولكنه أدخلهما.

وأخرج ابن عساكر عن كنانة مولى صفية وغيره قالوا: قتل عثمان رجل من أهل مصر أزرق أشقر يقال له: حمار.
وأخرج أحمد عن المغيرة بن شعبة أنه دخل على عثمان وهو محصور فقال: إنك إمام العامة وقد نزل بك ما ترى وإني أعرض عليك خصالا ثلاثاً إحداهن: إما أن تخرج فتقاتلهم فإن معك عدداً وقوة وأنت على الحق وهم على الباطل وإما أن تخرق لك باباً سوى الباب الذي هم عليه فتقعد على راحلتك فتلحق بمكة فإنهم لن يستحلوك وأنت بها وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية فقال عثمان أما أن أخرج فأقاتل فلن أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بسفك الدماء وأما أن أخرج إلى مكة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم فلن أكون أنا وأما أن ألحق بالشام فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وأخرج ابن عساكر عن أبي ثور الفهمي قال: دخلت على عثمان وهو محصور فقال: لقد اختبأت عند ربي عشراً إني لرابع أربعة في الإسلام وأنكحني رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته ثم توفيت فأنكحني ابنته الأخرى وما تغنيت ولا تمنيت ولا وضعت يميني على فرجي منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما مرت بي جمعة منذ أسلمت إلا وأنا أعتق فيها رقبة إلا أن لا يكون عندي شيء فأعتقها بعد ذلك ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام قط ولا سرقت في جاهلية ولا إسلام قط ولقد جمعت القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان قتل عثمان في أواسط أيام التشريق من سنة خمس وثلاثين وقيل قتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة ودفن ليلة السبت بين المغرب والعشاء في حش كوكب بالبقيع وهو أول من دفن به وقيل كان قتله يوم الأربعاء وقيل يوم الاثنين لست بقين من ذي الحجة وكان له يوم قتل اثنتان وثمانون سنة وقيل: إحدى وثمانون سنة وقيل: أربع وثمانون وقيل: ست وثمانون وقيل: ثمان أو تسع وثمانون وقيل: تسعون قال قتادة: صلى عليه الزبير ودفنه وكان أوصى بذلك إليه.
وأخرج ابن عدي وابن عساكر من حديث أنس مرفوعاً " إن لله سيفاً مغموداً في غمده ما دام عثمان حياً فإذا قتل عثمان جرد ذلك السيف فلم يغمد إلى يوم القيامة " تفرد به عمرو بن فائد وله مناكير.
وأخرج ابن عساكر عن يزيد بن أبي حبيب قال: بلغني أن عامة الركب الذين ساروا إلى عثمان عامتهم جنوا.
وأخرج عن حذيفة قال أول الفتن قتل عثمان وآخر الفتن خروج الدجال والذي نفسي بيده لا يموت رجل وفي قلبه مثقال حبة من حب قتل عثمان إلا تبع الدجال إن أدركه وإن لم يدركه آمن به في قبره.
وأخرج عن ابن عباس قال: لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء.
وأخرج عن الحسن قال: قتل عثمان وعلي غائب في أرض له فلما بلغه قال: اللهم إني لم أرض ولم أمالئ.
وأخرج الحاكم وصححه عن قيس بن عباد قال: سمعت علياً يوم الجمل يقول: اللهم أني أبرأ إليك من دم عثمان ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان وأنكرت نفسي وجاءوني للبيعة فقلت والله إني لأستحي أن أبايع قوماً قتلوا عثمان وإني لأستحيي من الله أن أبايع وعثمان لم يدفن بعد فانصرفوا فلما رجع الناس فسألوني البيعة قلت اللهم إني مشفق مما أقدم عليه ثم جاءت عزيمة فبايعت فقالوا: يا أمير المؤمنين فكأنما صدع قلبي وقلت: اللهم خذ مني لعثمان حتى ترضى.
وأخرج ابن عساكر عن أبي خلدة الحنفي قال: سمعت علياً يقول إن بني أمية يزعمون أني قتلت عثمان ولا والله الذي لا إله إلا هو ما قتلت ولا مالأت ولقد نهيت فعصوني.
وأخرج عن سمرة قال إن الإسلام كان في حصن حصين وإنهم ثلموا في الإسلام ثلمة بقتلهم عثمان لا تسد إلى يوم القيامة وإن أهل المدينة كانت فيهم الخلافة فأخرجوها ولم تعد فيهم.
وأخرج عن محمد بن سيرين قال: لم تفقد الخيل البلق في المغازي والجيوش حتى قتل عثمان ولم يختلف في الأهلة حتى قتل عثمان ولم تر هذه الحمرة التي في آفاق السماء حتى قتل الحسين.

وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن حميد بن هلال قال: كان عبد الله بن سلام يدخل على محاصري عثمان فيقول لا تقتلوه فوالله لا يقتله رجل منكم إلا لقي الله أجذم لا يد له وإن سيف الله لم يزل مغموداً وإنكم والله إن قتلتموه ليسلنه الله ثم لا يغمده عنكم أبداً وما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفاً ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفاً قبل أن يجتمعوا.
وأخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن بن مهدي قال: خصلتان لعثمان ليستا لأبي بكر ولا لعمر رضي الله عنهما صبره على نفسه حتى قتل وجمعه الناس على المصحف.
وأخرج الحاكم عن الشعبي قال: ما سمعت من مراثي عثمان أحسن من قول كعب بن مالك حيث قال:
فكف يديه ثم أغلق بابه ... وأيقن أن الله ليس بغافل
وقال لأهل الدار: لا تقتلوهم ... عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل
فكيف رأيت الله صب عليهم ال ... عداوة والبغضاء بعد التواصل
وكيف رأيت الخير أدبر بعده ... عن الناس إدبار الرياح الجوافل؟
فصل: أخرج ابن سعد عن موسى بن طلحة قال: رأيت عثمان يخرج يوم الجمعة وعليه ثوبان أصفران فيجلس على المنبر فيؤذن المؤذن وهو يتحدث يسأل الناس عن أسعارهم وعن مرضاهم؟.
وأخرج عن عبد الله الرومي قال: كان عثمان يلي وضوء الليل بنفسه فقيل له لو أمرت بعض الخدم فكفوك قال لا الليل لهم يستريحون فيه.
وأخرج ابن عساكر عن عمرو بن عثمان بن عفان قال: كان نقش خاتم عثمان آمنت بالذي خلق فسوى.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عمر أن جهجاه الغفاري قام إلى عثمان وهو على المنبر يخطب فأخذ العصا من يده فكسرها على ركبته فما حال الحول على جهجاه حتى أرسل الله في رجله إلا كله فمات منها.
فصل في أوليات عثمان
رضي الله عنه

قال العسكري في الأوائل هو أول من أقطع القطائع وأول من حمى الحمى وأول من خفض صوته بالتكبير وأول من خلق المسجد وأول من أمر بالأذان الأول في الجمعة وأول من رزق المؤذنين وأول من أرتج عليه في الخطبة فقال أيها الناس إن أول مركب صعب وإن بعد اليوم أياماً وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها وما كنا خطباء وسيعلمنا الله أخرجه ابن سعد وأول من قدم الخطبة في العيد على الصلاة وأول من فوض إلى الناس إخراج زكاتهم وأول من ولي الخلافة في حياة أمه وأول من اتخذ صاحب شرطة وأول من اتخذ المقصورة في المسجد خوفاً أن يصيبه ما أصاب عمر هذا ما ذكره العسكري قال وأول ما وقع الاختلاف بين الأمة فخطأ بعضهم بعضاً في زمانه في أشياء نقموها عليه وكانوا قبل ذلك يختلفون في الفقه ولا يخطئ بعضهم بعضاً.
قلت: بقى من أوائله أنه أول من هاجر إلى الله بأهله من هذه الأمة كما تقدم وأول من جمع الناس على حرف واحد في القراءة.
وأخرج ابن عساكر عن حكيم بن عباد بن حنيف قال أول منكر ظهر بالمدينة حين فاضت الدنيا وانتهى سمن الناس طيران الحمام والرمي على الجلاهقات فاستعمل عليها عثمان رجلا من بني ليث سنة ثمان من خلافته فقصها وكسر الجلاهقات.
فصل فيمن مات من الأعلام
في أيام عثمان رضي الله عنه

مات في أيام عثمان من الأعلام: سراقة بن مالك بن جعشم وجبار بن صخر وحاطب بن أبي بلتعة وعياض بن زهير وأبو أسيد الساعدي وأوس بن الصامت والحارث بن نوفل وعبد الله بن حذافة وزيد بن خارجة الذي تكلم بعد الموت ولبيد الشاعر المسيب والد سعيد ومعاذ بن عمرو بن الجموح ومعبد بن العباس ومعيقب بن أبي فاطمة الدوسي وأبو لبابة بن عبد المنذر ونعيم بن مسعود الأشجعي وآخرون من الصحابة.
ومن غير الصحابة: الحطيئة الشاعر وأبو ذؤيب الشاعر الهذلي.


 علي بن أبي طالب
رضي الله عنه

علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب واسمه شيبة بن هاشم واسمه عمرو بن عبد مناف واسمه المغيرة بن قصي واسمه زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك ابن نضر بن كنانة أبو الحسن وأبو تراب كناه به النبي صلى الله عليه وسلم وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم وهي أول هاشمية ولدت هاشمياً قد أسلمت وهاجرت.
وعلي رضي الله عنه أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأخو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة وصهره على فاطمة سيدة نساء العالمين رضي الله عنها وأحد السابقين إلى الإسلام وأحد العلماء الربانيين والشجعان المشهورين والزهاد المذكورين والخطباء المعروفين وأحد من جمع القرآن وعرضه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليه أبو الأسود الدؤلي وأبو عبد الرحمن السلمي وعبد الرحمن بن أبي ليلى وهو أول خليفة من بني هاشم وأبو السبطين أسلم قديماً بل قال ابن عباس وأنس وزيد بن أرقم وسلمان الفارسي وجماعة: إنه أول من أسلم ونقل بعضهم الإجماع عليه.
وأخرج أبو يعلى عن علي رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وأسلمت يوم الثلاثاء وكان عمره حين أسلم عشر سنين وقيل: تسع وقيل: ثمان وقيل دون ذلك قال الحسن بن زيد بن الحسن ولم يعبد الأوثان قط لصغره أخرجه ابن سعد ولما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أمره أن يقيم بعده بمكة أياماً حتى يؤدي عنه أمانة الودائع والوصايا التي كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم يلحقه بأهله ففعل ذلك وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً وأحداً وسائر المشاهد إلا تبوك فإن النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة وله في جميع المشاهد آثار مشهورة وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم اللواء في مواطن كثيرة وقال سعيد بن المسيب: أصابت علياً يوم أحد ست عشرة ضربة وثبت في الصحيحين " أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه الراية في يوم خيبر وأخبر أن الفتح يكون على يديه " وأحواله في الشجاعة وآثاره في الحروب مشهورة وكان علي شيخاً سميناً أصلع كثير الشعر ربعة إلى القصر عظيم البطن عظيم اللحية جداً قد ملأت ما بين منكبيه بيضاء كأنها قطن آدم شديد الأدمة.
وقال جابر بن عبد الله حمل علي الباب على ظهره يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه ففتحوها وإنهم جروه بعد ذلك فلم يحمله إلا أربعون رجلا أخرجه ابن عساكر.
وأخرج ابن إسحاق في المغازي وابن عساكر عن أبي رافع أن علياً تناول باباً عند الحصن حصن خيبر فتترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله علينا ثم ألقاه فلقد رأيتنا ثمانية نفر نجهد أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه.
وروى البخاري في الأدب عن سهل بن سعد قال: إن كان أحب أسماء علي رضي الله عنه إليه أبا تراب وإن كان ليفرح أن يدعى به وما سماه أبا تراب إلا النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنه غاضب يوماً فاطمة فخرج فاضطجع إلى الجدار في المسجد فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وقد امتلأ ظهره تراباً فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح التراب عن ظهره ويقول: " اجلس أبا تراب " .
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة حديث وستة وثمانون حديثاً.
روى عنه بنوه الثلاثة: الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وأبو موسى وأبو سعيد وزيد بن أرقم وجابر بن عبد الله وأبو أمامة وأبو هريرة وخلائق من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين.
فصل في الأحاديث الواردة في فضله
قال الإمام أحمد بن حنبل: ما ورد لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضائل ما ورد لعلي رضي الله عنه أخرجه الحاكم.
وأخرج الشيخان عن سعد بن أبي وقاص " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف علي بن أبي طالب في غزوة تبوك فقال يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبي بعدي " أخرجه أحمد والبزار من حديث أبي سعيد الخدري والطبراني من حديث أسماء بنت قيس وأم سلمة وحبشي بن جنادة وابن عمر وابن عباس وجابر بن سمرة والبراء بن عازب وزيد بن أرقم.
وأخرجا عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: لأعطين الراية غداً رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها فقال: أين علي أبن أبي طالب؟ فقيل هو يشتكي عينيه قال فأرسلوا إليه فأتى به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية " يدوكون أي يخوضون ويتحدثون.
وقد أخرج هذا الحديث الطبراني من حديث ابن عمر وعلي وابن أبي ليلى وعمران بن حصين والبزار من حديث ابن عباس.
وأخرج مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: لما نزلت هذه الآية " ندع أبناءنا وأبناءكم " " آل عمران: 61 " دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: " اللهم هؤلاء أهلي " .
وأخرج الترمذي عن أبي سريحة أو زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كنت مولاه فعلى مولاه " .
وأخرجه أحمد عن علي وأبي أيوب الأنصاري وزيد بن أرقم وعمرو ذي مر وأبو يعلى عن أبي هريرة والطبراني عن ابن عمر ومالك بن الحويرث وحبشي بن جنادة وجرير وسعد بن أبي وقاص وأبي سعيد الخدري وأنس والبزار عن ابن عباس وعمارة وبريدة وفي أكثرها زيادة " اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " .
ولأحمد عن أبي الطفيل قال: جمع علي الناس سنة خمس وثلاثين في الرحبة ثم قال لهم: أنشد بالله كل امرئ مسلم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم ما قال لما قام فقام إليه ثلاثون من الناس فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " .
وأخرج الترمذي والحاكم وصححه عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم قيل: يا رسول الله سمهم لنا قال: علي منهم يقول ذلك ثلاثاً وأبو ذر والمقداد وسلمان.
وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجة عن حبشي بن جنادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " علي مني وأنا من علي " .
وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه فجاء علي تدمع عيناه فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنت أخي في الدنيا والآخرة " .
وأخرج مسلم عن علي قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق.
وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: كنا نعرف المنافقين ببغضهم علياً.
وأخرج البزار والطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله وأخرج الترمذي والحاكم عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا مدينة العلم وعلي بابها " هذا حديث حسن على الصواب لا صحيح كما قال الحاكم ولا موضوع كما قاله جماعة منهم ابن الجوزي والنووي وقد بينت حاله في التعقبات على الموضوعات.
وأخرج الحاكم وصححه عن علي قال: " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقلت: يا رسول الله بعثتني وأنا شاب أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء فضرب صدري بيده ثم قال: اللهم أهد قلبه وثبت لسانه فوالذي فلق الحبة ما شككت في قضاء بين اثنين " .
وأخرج ابن سعد عن علي أنه قيل له: ما لك أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً قال: إني كنت إذا سألته أنبأني وإذا سكت ابتدأني.
وأخرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عمر بن الخطاب: علي أقضانا.
وأخرج الحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنهما قال: كنا نتحدث أن أقضي أهل المدينة علي.
وأخرج ابن سعد عن ابن عباس قال إذا حدثنا ثقة عن علي بفتيا لا نعدوها.
وأخرج عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر بن الخطاب يتعوذ بالله من معضلة ليس فيها أبو حسن.
وأخرج عنه قال: لم يكن أحد من الصحابة يقول سلوني إلا علي.
وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال: أفرض أهل المدينة وأقضاها علي بن أبي طالب.
وأخرج عن عائشة رضي الله عنها أن علياً ذكر عندها فقالت أما إنه أعلم من بقي بالسنة.
وقال مسروق: انتهى علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر وعلي وابن مسعود وعبد الله رضي الله عنهم.
وقال عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة: كان لعلي ما شئت من ضرس قاطع في العلم وكان له البسطة في العشيرة والقدم في الإسلام والعهد برسول الله صلى الله عليه وسلم والفقه في السنة والنجدة في الحرب والجود في المال.
وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن جابر بن عبد الله وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الناس من شجر شتى وأنا وعلي من شجرة واحدة " .

وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ما أنزل الله " يا أيها الذين آمنوا " إلا وعلي أميرها وشريفها ولقد عاتب الله أصحاب محمد في غير مكان وما ذكر علياً إلا بخير.
وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: ما نزل في أحد من كتاب الله تعالى ما نزل في علي.
وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: نزلت في علي ثمانمائة آية.
وأخرج البزار عن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: " لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك " .
وأخرج الطبراني والحاكم وصححه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضب لم يجترئ أحد أن يكلمه إلا علي.
وأخرج الطبراني والحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " النظر إلى علي عبادة " إسناده حسن.
وأخرجه الطبراني والحاكم أيضاً من حديث عمران بن حصين.
وأخرجه ابن عساكر من حديث أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان ومعاذ بن جبل وأنس وثوبان وجابر بن عبد الله وعائشة رضي الله عنهم.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: كانت لعلي ثمان عشرة منقبة ما كانت لأحد من هذه الأمة.
وأخرج أبو يعلى عن أبي هريرة قال: قال عمر بن الخطاب لقد أعطي علي ثلاث خصال لأن تكون لي خصلة منها أحب إلي من أن أعطى حمر النعم فسئل وما هن؟ قال: تزوجه ابنته فاطمة وسكناه المسجد لا يحل لي فيه ما يحل له والراية يوم خيبر.
وروي أحمد بسند صحيح عن ابن عمر نحوه.
وأخرج أحمد وأبو يعلى بسند صحيح عن علي قال: ما رمدت ولا صدعت منذ مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهي وتفل في عيني يوم خيبر حين أعطاني الراية.
وأخرج أبو يعلى والبزار عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من آذى علياً فقد آذاني " .
وأخرج الطبراني بسند صحيح عن أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أحب علياً فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله ومن أبغض علياً فقد ابغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله " .
وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن أم سلمة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من سب علياً فقد سبني " .
وأخرج أحمد والحاكم بسند صحيح عن ابن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " إنك تقاتل على القرآن كما قاتلت على تنزيله " .
وأخرج البزار وأبو يعلى والحاكم عن علي قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن فيك مثلا من عيسى أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس به " ألا وإنه يهلك في اثنان محب مفرط يفرطني بما ليس في ومبغض مفتر يحمله شنآني على أن يبهتني.
وأخرج الطبراني في الأوسط والصغير عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض " .
وأخرج أحمد والحاكم بسند صحيح عن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " أشقى الناس رجلان: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذه يعني قرنه حتى تبتل منه هذه من الدم يعني لحيته " وقد ورد ذلك من حديث علي وصهيب وجابر بن سمرة وغيرهم.
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري قال اشتكى الناس علياً فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً فقال " لا تشكوا علياً فوالله إنه لأخيشن في ذات الله أو في سبيل الله " . فصل في مبايعة علي بالخلافة
رضي الله عنه وما نشأ عن ذلك

قال ابن سعد: بويع علي بالخلافة الغد من قتل عثمان بالمدينة وفبايعه جميع من كان بها من الصحابة رضي الله عنهم ويقال إن طلحة والزبير بايعا كارهين غير طائعين ثم خرجا إلى مكة وعائشة رضي الله عنها بها فأخذاها وخرجا بها إلى البصرة يطلبون بدم عثمان وبلغ ذلك علياً فخرج إلى العراق فلقي بالبصرة طلحة والزبير وعائشة ومن معهم وهي وقعة الجمل وكانت في جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وقتل بها طلحة والزبير وغيرهما وبلغت القتلى ثلاثة عشر ألفاً وأقام على بالبصرة خمس عشرة ليلة ثم انصرف إلى الكوفة ثم خرج عليه معاوية بن أبي سفيان ومن معه بالشام فبلغ علياً فصار إليه فالتقوا بصفين في صفر سنة سبع وثلاثين ودام القتال بها أياماً فرفع أهل الشام المصاحف يدعون إلى ما فيها مكيدة من عمرو بن العاص فكره الناس الحرب وتداعوا إلى الصلح وحكموا الحكمين فحكم علي أبا موسى الأشعري وحكم معاوية عمرو بن العاص وكتبوا بينهم كتاباً على أن يوافوا رأس الحول بأذرح فينظروا في أمر الأمة فافترق الناس ورجع معاوية إلى الشام وعلى إلى الكوفة فخرجت عليه الخوارج من أصحابه ومن كان معه وقالوا لا حكم إلا الله وعسكروا بحروراء فبعث إليهم ابن عباس فخاصمهم وحجهم فرجع منهم قوم كثير وثبت قوم وساروا إلى النهروان فعرضوا للسبيل فسار إليهم علي فقتلهم بالنهروان وقتل منهم ذا الثدية وذلك سنة ثمان وثلاثين واجتمع الناس بأذرح في شعبان من هذه السنة وحضرها سعد بن أبي وقاص وابن عمر وغيرهما من الصحابة فقدم عمرو أبا موسى الأشعري مكيدة منه فتكلم فخلع علياً وتكلم عمرو فأقر معاوية وبايع له فتفرق الناس على هذا وصار علي في خلاف من أصحابه حتى صار يعض على إصبعه ويقول أعصى ويطاع معاوية؟.
وانتدب ثلاثة نفر من الخوارج عبد الرحمن بن ملجم المرادي والبرك ابن عبد الله التميمي وعمرو بن بكير التميمي فاجتمعوا بمكة وتعاهدوا وتعاقدوا ليقتلن هؤلاء الثلاثة: علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ويريحوا العباد منهم فقال ابن ملجم: أنا لكم بعلي وقال البرك: أنا لكم بمعاوية وقال عمرو بن بكير: أنا أكفيكم عمرو بن العاص وتعاهدوا على أن ذلك يكون في ليلة واحدة ليلة حادي عشر أو ليلة سابع عشر رمضان ثم توجه كل منهم إلى المصر الذي فيه صاحبه فقدم ابن ملجم الكوفة فلقي أصحابه من الخوارج فكاتمهم ما يريدون إلى ليلة الجمعة سابع عشر رمضان سنة أربعين فاستيقظ علي سحراً فقال لابنه الحسن رأيت الليلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله ما لقيت من أمتك من الأود واللدد؟ فقال لي ادع الله عليهم فقلت اللهم أبدلني بهم خيراً لي منهم وأبدلهم بي شراً لهم مني ودخل ابن الذباح المؤذن على علي فقال الصلاة فخرج على من الباب ينادي أيها الناس الصلاة الصلاة فاعترضه ابن ملجم فضربه بالسيف فأصاب جبهته إلى قرنه ووصل إلى دماغه فشد عليه الناس من كل جانب فأمسك وأوثق وأقام على الجمعة والسبت توفي ليلة الأحد وغسله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وصلى عليه الحسن ودفن بدار الإمارة بالكوفة ليلا ثم قطعت أطراف ابن ملجم جعل في قوصرة وأحرقوه بالنار هذا كله كلام ابن سعد وقد أحسن في تلخيصه هذه الوقائع ولم يوسع فيها الكلام كما صنع غيره لأن هذا هو اللائق بهذا المقام قال صلى الله عليه وسلم " إذا ذكر أصحابي فأمسكوا " وقال: " بحسب أصحابي القتل " .
وفي المستدرك عن السدي قال: كان عبد الرحمن بن ملجم المرادي عشق امرأة من الخوارج يقال لها: قطام فنكحها وأصدقها ثلاثة آلاف درهم وقتل علي وفي ذلك قال الفرزدق:
فلم أر مهراً ساقه ذو سماحة ... كمهر قطام من فصيح وأعجم
ثلاثة آلاف وعبد وقينة ... وضرب علي بالحسام المصمم
فلا مهر أغلى من علي وإن غلا ... ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
قال أبو بكر بن عياش: عمي قبر علي لئلا ينبشه الخوارج وقال شريك: نقله ابنه الحسن إلى المدينة وقال المبرد عن محمد بن حبيب أول من حول من قبر إلى قبر علي رضي الله عنه.

وأخرج ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز قال: لما قتل علي ابن أبي طالب رضي الله عنه حملوه ليدفنوه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هم في مسيرهم ليلا إذ ند الجمل الذي هو عليه فلم يدر أين ذهب ولم يقدر عليه قال: فلذلك يقول أهل العراق: هو في السحاب وقال غيره: إن البعير وقع في بلاد طيئ فأخذوه فدفنوه.
وكان لعلي حين قتل ثلاث وستون سنة وقيل: أربع وستون وقيل خمس وستون وقيل: سبع وخمسون وقيل: ثمان وخمسون وكان له تسع عشرة سرية.
فصل في نبذ من أخبار علي
وقضاياه وكلماته رضي الله عنه

قال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا هشيم حدثنا حجاج حدثني شيخ من فزارة سمعت علياً يقول الحمد لله الذي جعل عدونا يسألنا عما نزل به من أمر دينه إن معاوية كتب إلي يسألني عن الخنثى المشكل فكتبت إليه أن يورثه من قبل مباله وقال هشيم عن مغيرة عن الشعبي عن علي مثله.
وأخرج ابن عساكر عن الحسن قال: لما قدم على البصرة قام إليه ابن الكواء وقيس بن عباد فقالا له ألا تخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت فيه تتولى على الأمة تضرب بعضهم ببعض؟ أعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهده إليك فحدثنا فأنت الموثوق المأمون على ما سمعت فقال أما أن يكون عندي عهد من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فلا والله لئن كنت أول من صدق به فلا أكون أول من كذب عليه ولو كان عندي من النبي صلى الله عليه وسلم عهد في ذلك ما تركت أخا بني تيم بن مرة وعمر بن الخطاب يقومان على منبرة ولقاتلتهما بيدي ولو لم أجد إلا بردي هذا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل قتلا ولم يمت فجأة مكث في مرضه أياماً وليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس وهو يرى مكاني ولقد أرادت امرأة من نسائه أن تصرفه عن أبي بكر فأبى وغضب وقال أنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر يصلي بالناس فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمورنا فاخترنا لدنيانا من رضيه نبي الله صلى الله عليه وسلم لديننا وكانت الصلاة أصل الإسلام وهي أمير الدين وقوام الدين فبايعنا أبا بكر وكان لذلك أهلا لم يختلف عليه منا اثنان ولم يشهد بعضنا على بعض ولم تقطع منه البراءة فأديت إلى أبي بكر حقه وعرفت له طاعته وغزوت معه في جنوده وكنت آخذ إذا أعطاني وأغزو إذا أغزاني وأضرب بين يديه الحدود بسوطي فلما قبض تولاها عمر فأخذها بسنة صاحبه وما يعرف من أمره فبايعنا عمر ولم يختلف عليه منا اثنان ولم يشهد بعضنا على بعض ولم تقطع منه البراءة فأديت إلى عمر حقه وعرفت له طاعته وغزوت معه جيوشه وكنت آخذ إذا أعطاني وأغزو إذا أغزاني وأضرب بين يديه الحدود بسوطي فلما قبض تذكرت في نفسي قرابتي وسابقتي وسالفتي وفضلي وأنا أظن أن لا يعدل بي ولكن خشي أن لا يعمل الخليفة بعده ذنباً إلا لحقه في قبره فأخرج منها نفسه وولده ولو كانت محاباة منه لثر بها ولده فبرئ منها إلى رهط من قريش ستة أنا أحدهم فلما اجتمع الرهط ظننت أن لا يعدلوا بي فأخذ عبد الرحمن بن عوف مواثيقنا على أن نسمع ونطيع لمن ولاه الله أمرنا ثم أخذ بيد عثمان بن عفان وضرب بيده على يده فنظرت في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي وإذا ميثاقي قد أخذ لغيري فبايعنا عثمان فأديت له حقه وعرفت له طاعته وغزوت معه في جيوشه وكنت آخذ إذا أعطاني وأغزو إذا أغزاني وأضرب بين يديه الحدود بسوطي فلما أصيب نظرت في أمري فإذا الخليفتان اللذان أخذاها بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما بالصلاة قد مضيا وهذا الذي قد أخذ له الميثاق قد أصيب فبايعني أهل الحرمين وأهل هذين المصرين فوثب فيها من ليس مثلي ولا قرابته كقرابتي ولا علمه كعلمي ولا سابقته كسابقتي وكنت أحق بها منه.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: عرض لعلي رجلان في خصومة فجلس في أصل جدار فقال له رجل: الجدار يقع فقال علي: امض كفى بالله حارساً فقضى بينهما فقام ثم سقط الجدار.

وفي الطيوريات بسنده إلى جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال رجل لعلي ابن أبي طالب نسمعك تقول في الخطبة: اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين المهديين فمن هم فاغرورقت عيناه فقال هم حبيباي أبو بكر وعمر إماما الهدى وشيخا الإسلام ورجلا قريش والمقتدى بهما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اقتدى بهما عصم ومن اتبع آثارهما هدى الصراط المستقيم ومن تمسك بهما فهو من حزب الله.
وأخرج عبد الرازق عن حجر المدري قال: قال لي علي بن أبي طالب كيف بك إذا أمرت أن تلعنني قلت وكائن ذلك قال: نعم قلت فكيف أصنع قال: العني ولا تبرأ مني قال فأمرني محمد بن يوسف أخو الحجاج وكان أميراً على اليمن أن ألعن علياً فقلت إن الأمير أمرني أن ألعن علياً فالعنوه لعنة الله فما فطن لها إلا رجل.
وأخرج الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن زاذان أن علياً حدث بحيث فكذبه رجل فقال له علي: أدعو عليك إن كنت كاذباً قال ادع فدعا عليه فلم يبرح حتى ذهب بصره.
وأخرج عن زر بن حبيش قال: جلس رجلان يتغديان مع أحدهما خمسة أرغفة ومع الآخر ثلاثة أرغفة فلما وضعا الغداء بين أيديهما مر بهما رجل فسلم فقالا اجلس وتغد فجلس وأكل معهما واستووا في أكلهم الأرغفة الثمانية فقام الرجل وطرح إليهما ثمانية دراهم وقال: خذاها عوضاً مما أكلت لكما ونلته من طعامكما فتنازعا فقال صاحب الخمسة الأرغفة: لي خمسة دراهم ولك ثلاث وقال صاحب الأرغفة الثلاثة لا أرضى إلا أن تكون الدراهم بيننا نصفين فارتفعا إلا أمير المؤمنين علي فقصا عليه قصتهما فقال لصاحب الثلاثة قد عرض عليك صاحبك ما عرض وخبزه أكثر من خبزك فأرض بالثلاثة فقال والله لرضيت عنه إلا بمر الحق فقال علي: ليس لك في مر الحق إلا درهم واحد وله سبعة دراهم فقال الرجل سبحان الله قال: هو ذلك قال فعرفني الوجه في مر الحق حتى أقبله فقال علي أليس للثمانية الأرغفة أربعة وعشرون ثلثاً أكلتموها وأنتم ثلاثة أنفس ولا يعلم الأكثر منكم أكلا ولا الأقل فتحملون في أكلكم على السواء قال فأكلت أنت ثمانية أثلاث وإنما لك تسعة أثلاث وأكل صاحبك ثمانية أثلاث وله خمسة عشر ثلثاً أكل منها ثمانية وبقى له سبعة أكلها صاحب الدراهم وأكل لك واحداً من تسعة فلك واحد بواحدك وله سبعة فقال الرجل رضيت الآن.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عطاء قال: أتى علي برجل وشهد عليه رجلان أنه سرق فأخذ في شيء من أمور الناس وتهدد شهود الزور وقال لا أوتي بشاهد زور إلا فعلت به كذا وكذا ثم طلب الشاهدين فلم يجدهما فخلى سبيله.
وقال عبد الرزاق في المصنف: حدثنا الثوري عن سليمان الشيباني عن رجل عن علي أنه أتى برجل فقيل له زعم هذا أنه احتلم بأمي فقال: اذهب فأقمه بالشمس فأضرب ظله.
وأخرج ابن عساكر من طريق جعفر بن محمد عن أبيه أن خاتم علي ابن أبي طالب كان من ورق نقشه نعم القادر الله.
وأخرج عن عمرو بن عثمان بن عفان قال: كان نقش خاتم على الملك لله.
وأخرج عن المدائني قال: لما دخل على الكوفة دخل عليه رجل من حكماء العرب فقال والله يا أمير المؤمنين لقد زنت الخلافة وما زانتك ورفعتها وما رفعتك وهي كانت أحوج إليك منك إليها.
وأخرج عن مجمع أن علياً كان يكنس بيت المال ثم يصلى فيه رجاء أن يشهد له أنه لم يحبس فيه المال عن المسلمين.

وقال أبو القاسم الزجاجي في أماليه: حدثنا أبو جعفر محمد بن رستم الطبري حدثنا أبو حاتم السجستاني حدثني يعقوب بن إسحاق الحضرمي حدثنا سعيد ابن مسلم الباهلي حدثنا أبي عن جدي عن أبي الأسود الدؤلي أو قال: عن جدي أبي الأسود عن أبيه قال دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فرأيته مطرقاً مفكراً فقلت فيم تفكر يا أمير المؤمنين قال: إني سمعت ببلدكم هذا لحناً فأردت أن أصنع كتاباً في أصول العربية فقلت: إن فعلت هذا أحييتنا وبقيت فينا هذه اللغة ثم أتيته بعد ثلاثة فألقى إلي صحيفة فيها بسم الله الرحمن الرحيم الكلمة اسم وفعل وحرف فالاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل ثم قال: تتبعه وزد فيه ما وقع لك وأعلم يا أبا الأسود أن الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر وإنما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر قال أبو الأسود فجمعت منه أشياء وعرضتها عليه فكان من ذلك حروف النصب فذكرت منها إن وأن وليت ولعل وكان ولم أذكر لكن فقال لي لم تركتها فقلت لم أحسبها منها فقال بل هي منها فزدها فيها.
وأخرج ابن عساكر عن ربيعة بن ناجر قال: قال علي كونوا في الناس كالنحلة في الطير إنه ليس في الطير شيء إلا وهو يستضعفها لو يعلم الطير ما في أجوافها من البركة لم يفعلوا ذلك بها خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم فإن للمرء ما اكتسب وهو يوم القيامة مع من أحب.
وأخرج عن علي قال: كونوا بقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل فإنه لن يقل عمل مع التقوى وكيف يقل عمل يتقبل؟.
وأخرج عن يحيى بن جعدة قال: قال علي بن أبي طالب يا حملة القرآن أعملوا به فإنما العالم من علم ثم عمل بما علم ووافق علمه عمله وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم وتخالف سريرتهم علانيتهم ويخالف عملهم علمهم يجلسون حلقاً فيباهي بعضهم بعضاً حتى إن الرجل يغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله.
وأخرج عن علي قال: التوفيق خير قائد وحسن الخلق خير قرين والعقل خير صاحب والأدب خير ميراث ولا وحشة أشد من العجب.
وأخرج عن الحارث قال: جاء رجل إلى علي فقال: أخبرني عن القدر فقال طريق مظلم لا تسلكه قال أخبرني عن القدر قال بحر عميق لا تلجه قال: أخبرني عن القدر قال سر الله قد خفي عليك فلا تفتشه قال أخبرني عن القدر قال يا أيها السائل إن الله خلقك لما شاء أو لما شئت قال بل لما شاء قال فيستعملك لما شاء.
وأخرج عن علي قال إن للنكبات نهايات ولا بد لأحد إذا نكب من أن ينتهي إليها فينبغي للعاقل إذا أصابته نكبة أن ينام لها حتى تنقضي مدتها فإن في دفعها قبل انقضاء مدتها زيادة في مكروهها.
وأخرج عن علي أنه قيل له ما السخاء؟ قال ما كان منه ابتداء فأما ما كان عن مسألة فحياء وتكرم.
وأخرج عن علي أنه أتاه رجل فأثنى عليه فأطراه وكان قد بلغه عنه قبل ذلك فقال له علي إني لست كما تقول وأنا فوق ما في نفسك.
وأخرج عن علي قال: جزاء المعصية الوهن في العبادة والضيق في المعيشة والنقص في اللذة قيل وما النقص في اللذة؟ قال: لا ينال شهوة حلال إلا جاءه ما ينغصه إياها.
وأخرج عن علي بن ربيعة أن رجلا قال لعلي: ثبتك الله وكان يبغضه قال علي: على صدرك.
وأخرج عن الشعبي قال كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان عثمان يقول الشعر وكان علي أشعر الثلاثة.
وأخرج عن نبيط الأشجعي قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق بهمها الصدر الرحيب
وأوطنت المكاره واطمأنت ... وأرست في أماكنها الخطوب
ولم ير لانكشاف الضر وجه ... ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث ... يجيء به القريب المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت ... فموصول بها الفرج القريب
وأخرج عن الشعبي قال: قال علي بن أبي طالب لرجل كره له صحبة رجل:
فلا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى ... حليماً حين آخاه

يقاس المرء بالمرء ... إذا ما هو ما شاه
وللشيء من الشيء ... مقاييس وأشباه
قياس النعل بالنعل ... إذا ما هو حاذاه
وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه
وأخرج عن المبرد قال كان مكتوباً على سيف علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
للناس حرص على الدنيا بتدبير ... وصفوها لك ممزوج بتكدير
لم يرزقوها بعقل بعد ما قسمت ... لكنهم رزقوها بالمقادير
كم من أديب لبيب لا تساعده ... وأحمق نال دنياه بتقصير
لو كان عن قوة أو عن مغالبة ... طار البزاة بأرزاق العصافير
وأخرج عن حمزة بن حبيب الزيات قال: كان علي بن أبي طالب يقول:
ولا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا
فإني رأيت غواة الرجا ... ل لا يدعون أديماً صحيحا
وأخرج عن عقبة بن أبي الصبهاء قال: لما ضرب ابن مل
جم علياً دخل عليه الحسن وهو باك فقال له علي يا بني احفظ عني أربعاً وأربعاً قال: وما هن يا أبت قال: أغنى الغنى العقل وأكبر الفقر الحمق وأوحش الوحشة العجب وأكرم الكرم حسن الخلق قال فالأربع الآخر قال إياك ومصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك وإياك ومصادقة الكذاب فإنه يقرب عليك البعيد ويبعد عليك القريب وإياك ومصادقة البخيل فإنه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه وإياك ومصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافه.
وأخرج ابن عساكر عن علي أنه أتاه يهودي فقال له متى كان ربنا فتمعر وجه علي وقال لم يكن فكان هو كان ولا كينونة كان بلا كيف كان ليس له قبل ولا غاية انقطعت الغايات دونه فهو غاية كل غاية فأسلم اليهودي.
وأخرج الدراج في جزئه المشهور بسند مجهول عن ميسرة عن شريح القاضي قال: لما توجه علي إلى صفين افتقد درعاً له فلما انقضت الحرب ورجع إلى الكوفة أصاب الدرع في يد يهودي فقال لليهودي الدرع درعي لم أبع ولم أهب فقال اليهودي: درعي وفي يدي فقال نصير إلى القاضي فتقدم علي فجلس إلى جنب شريح وقال لولا أن خصمي يهودي لاستويت معه في المجلس ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " أصغروهم من حيث أصغرهم الله " فقال شريح قل يا أمير المؤمنين فقال: نعم هذه الدرع التي في يد هذا اليهودي درعي لم أبع ولم أهب فقال شريح أيش تقول يا يهودي قال درعي وفي يدي فقال شريح ألك بينة يا أمير المؤمنين قال نعم قنبر والحسن يشهدان أن الدرع درعي فقال شريح شهادة الابن لا تجوز للأب فقال علي رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة " فقال اليهودي أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه وقاضيه قضى عليه أشهد أن هذا هو الحق وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله وإن الدرع درعك.
فصل: وأما كلامه في تفسير القرآن فكثير وهو مستوفى في كتابنا التفسير المسند بأسانيده وقد أخرج ابن سعد عن علي قال والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت إن ربي وهب لي قلباً عقولا ولساناً صادقاً ناطقاً.
وأخرج ابن سعد وغيره عن أبي الطفيل قال: قال علي سلوني عن كتاب الله فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار وفي سهل أم في جبل.
وأخرج ابن أبي داود عن محمد بن سيرين قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطأ علي عن بيعة أبي بكر فلقيه أبو بكر فقال أكرهت إمارتي فقال: لا ولكن آليت أن لا أرتدي بردائي إلا إلى الصلاة حتى أجمع القرآن فزعموا أنه كتبه على تنزيله فقال محمد لو أصيب ذلك الكتاب كان فيه العلم.
فصل في نبذ من كلماته الوجيزة
المختصرة البديعة

قال علي رضي الله عنه: الحزم سوء الظن أخرجه أبو الشيخ وابن حيان.
وقال: القريب من قربته المودة وإن بعد نسبه والبعيد من باعدته العداوة وإن قرب نسبه ولا شيء اقرب من يد إلى جسد وإن اليد إذا فسدت قطعت وإذا قطعت حسمت أخرجه أبو نعيم.


وقال: خمس خذوهن عني لا يخافن أحد منكم إلا ذنبه ولا يرجو إلا ربه ولا يستحيي من لا يعلم أن يتعلم ولا يستحيي من لا يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله أعلم وإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان وإذا ذهب الرأس ذهب الجسد أخرجه سعيد بن منصور في سننه.
وقال: الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يرخص لهم في معاصي الله ولم يؤمنهم من عذاب الله ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره لأنه لا خير في عبادة لا علم فيها ولا علم لا فهم معه ولا قراءة لا تدبر فيها أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن.
وقال: وأبردها على كبدي إذا سئلت عما لا أعلم أن أقول الله أعلم أخرجه ابن عساكر.
وقال: من أراد أن ينصف الناس من نفسه فليحب لهم ما يحب لنفسه أخرجه ابن عساكر.
وقال: سبع من الشيطان شدة الغضب وشدة العطاس وشدة التثاؤب والقيء والرعاف والنجوى والنوم عند الذكر.
وقال: كلوا الرمان بشحمه فإنه دباغ المعدة أخرجه الحاكم في التاريخ.
وقال: يأتي على الناس زمان المؤمن فيه أذل من الأمة أخرجه سعيد بن منصور ولأبي الأسود الدؤلي يرثي علياً رضي الله عنه:
ألا يا عين ويحك أسعدينا ... ألا تبكي أمير المؤمنينا
وتبكي أم كلثوم عليه ... بعبرتها وقد رأت اليقينا
ألا قل للخوارج حيث كانوا ... فلا قرت عيون الحاسدينا
أفي شهر الصيام فجعتمونا ... بخير الناس طراً أجمعينا
قتلتم خير من ركب المطايا ... وذللها ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال ومن حذاها ... ومن قرأ المثاني والمبينا
وكل مناقب الخيرات فيه ... وحب رسول رب العالمينا
لقد علمت قريش حيث كانت ... بأنك خيرهم حسباً ودينا
إذا استقبلت وجه أبي حسين ... رأيت البدر فوق الناظرينا
وكنا قبل مقتله بخير ... نرى مولى رسول الله فينا
يقيم الحق لا يرتاب فيه ... ويعدل في العدى والأقربينا
وليس بكاتم علماً لديه ... ولم يخلق من المتكبرينا
كأن الناس إذ فقدوا علياً ... نعام حار في بلد سنينا
فلا تشمت معاوية بن صخر ... فإن بقية الخلفاء فينا
فصل فيمن مات في زمنه من الأعلام
مات في أيام علي من الأعلام موتاً وقتلا حذيفة بن اليمان والزبير بن العوام وطلحة وزيد بن صوحان وسلمان الفارسي وهند بن أبي هالة وأويس القرني وخباب بن الأرت وعمار بن ياسر وسهل بن حنيف وصهيب الرومي ومحمد بن أبي بكر الصديق وتميم الدراي وخوات بن جبير وشرحبيل ابن السمط وأبو ميسر البدري وصفوان بن عسال وعمرو بن عنبسة وهشام ابن حكيم وأبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم وآخرون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق