بلاغة الأسلوبية والأسلوب
في سورة الفرقان
الاستاذة الدكتورة المشرفة المحترمة
د. مرضية أباد
للباحثة
طالبة الدكتوراه سمرآل محمد الموسوي
2024 1445
الملخص
لا يخفى على من له إلمام باللغة
العربية، أن القرآن الکريم نصّ أدبي فريد ببلاغته، ولا نظير لفصاحته؛ فيؤثّر على
المتلقي إثر سماعه وتلاوته؛ لأنّه يحتوي على ميزات أسلوبية، وخصائص فنية، ومؤشرات
جمالية تميّزه عن غيره؛ فلذلك جدير بالدراسة والتحليل والكشف عن ميزاته وأسباب
جماله.
وسورة الفرقان المبدوءة بـ"
تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦ لِيَكُونَ
لِلۡعَٰلَمِينَ نَذِيرًا"، من أحسن سور القرآن شكلاً ومعنى، بما فيها من تكرار
كلمة "الله" و"الآيات" الدالة على وحدانية الله تعالى. من هذا
المنطلق، يستهدف هذا البحث تحليل سورة الفرقان على أساس الأسلوبية على مستوى الصوت
والتركيب والدلالة، متبعاً المنهج الوصفي ـ التحليلي.
وقد جاءت السورة لتؤكد صحة إنزال
القرآن الكريم على نبي الله فهو الفرقان بين الحق والباطل، والمعجزة الخالدة
الباقية إلى يومنا هذا.
وقد ختمت بوجوب عقاب من كفر بالله
-تعالى- وكذب دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم كما بينا كل هذا في جزئية اسلوب
المقام .
اما في جزئية اسلوب المقال فقد عالج أسلوب المقال في سورة الفرقان. وقد
تضمن جملة من المتغيرات الأسلوبية المعالجة وفق المستويات اللسانية، وأظهر كل
متغير العديد من النتائج الملموسة وفق ما تضمنته السورة الكريمة من معطيات مع
مراعاة قدسية كتاب الله - تعالى- الأسمى من كل شيء.
وصلت المقالة أخيرا إلى أن الأصوات والكلمات
التي تكررت في السورة، أنشأت موسيقى رائعة ونغمات متناسقة تجلب القلوب وتمهّدها
للانقياد والانصياع وتكون في خدمة المعنى؛ وعلى مستوى التركيب، تتبلور ميزات
الأسلوبية في التقديم والتأخير، والتعريف والتنكير، والاستفهام، والحذف، وتكرار
الجملات وتثبت أن القرآن يستخدم أغراضا أسلوبية لتزيين أسلوبه وإعجاز بيانه؛
والدقة في اختيار الكلمات واستخدام التضاد والترادف والاشتراك اللفظي، ميزات أخری
للقرآن تسترعي الانتباه وتتضمن معاني التأكيد والشمول.
الأسلوبية من
المناهج العلمية التي ازدهرت في الآونة الأخيرة، وذلك بفضل تطور علم اللغة على يد
العالم السويسري دسوسور[1]، حيث قدم
آراءه في قالب دروسه المشهورة علم اللغة العام ؛ فولدت منها علوم فرعية، مثل:
السيمائيات، وعلم الدلالة، وعلم النص، ومن أهمها الأسلوبية التي اعتنى بها
الباحثون أكثر من غيرها في تحليل النصوص. تستخدم الأسلوبية لتحليل الأعمال الأدبية
وتوصيفها وتقوم بالكشف عن جماليتها، أساسا في المستويات اللغوية: الصوتية،
والصرفية، والنحوية، والدلالية، والبلاغية. ولاشك أنّ القرآن أحسن الكتب حديثا
وأتقنها انسجاما وتأليفا وأروعها أدبا بلفظه ونظمه، مما أعجز العرب والعجم أن
يأتوا بمثله، فيليق أن نغوص في بحاره ونستخرج من درره، حسب مستطاعنا على أساس
الأسلوبية.
سورة الفرقان، وهي من السور المكية
عند الجمهور، واستثنى منها ابن عباس ثلاث آيات نزلت بالمدينة، وذلك من قوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ .. ﴾ إلى قوله: ﴿وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾ ، والصحيح أنها آيات مكية نسختها آية مدنية في سورة النساء بقوله
تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُه جَهَنَّمُ خَلِدًا فيها﴾ [2].
وقد سميت سورة الفرقان بهذا الاسم في
عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا يُعرف لها اسم آخر غيره. أما وجه تسميتها فعائد
إلى وقوع لفظ (الفرقان) فيها ثلاث مرات في أولها، ووسطها، وآخرها[3] وهي في ترتيب نزولها الثانية والأربعون وعدد آياتها
سبع وسبعون باتفاق أهل العدد"[4].
وأما المفاهيم
الأساسية للسورة فما يلي: امتنان الله -تعالى- على عباده بإنزال
القُرآن عليهم، وتنزيه الله عن الولد والشريك، وذم الأوثان، وذكرها لطعن المُشركين
في الأنبياء والمُرسلين، وطلبهم للمُعجزات منهم. إذلال المُشركين بالعذاب، وعزة
المؤمنين بالجنة، وخطاب الله -تعالى- مع ملائكته يوم القيامة يكون فيه تهديد
للكافرين والطُغاة، وتبشير المُجرمين بالعُقوبة، وبُطلان أعمال الكافرين عند نصب
الموازين. بشارة المؤمنين بمكانتهم في الجنة، كما تحدثت عن انشقاق السماء، وندامة
الظالمين يوم تتحدث أعضائهم، وحديثها عن بعض أحوال الأُمم السابقة. الثناء على
الله -تعالى-، وتقريرها أن النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- مبعوثٌ من الله -تعالى-،
وأنّ الله مالك السماوات والأرض من غير شريكٍ أو ولد، وأن خلق الكون على أدق
ترتيبٍ وحِساب. الحديث عن الكافرين الذين يتخذون آلهةً من دون الله لينفعوهم،
فبينت الآيات أن هذه الآلهة لا تضر نفسها أو تنفعها، ولا تملك الموت ولا الحياة
ولا النُشور. فرأينا أن ندرسها أسلوبيا وفقا للمنهج الوصفي ـ التحليلي، نقوم أولا
بتقديم تعريف عن الأسلوب والأسلوبية، ثم نطبق نظريات الأسلوبية على سورة الفرقان
على ثلاثة المستويات: الصوتية، والتركيبية، والدلالية، للوصول إلى أبرز السمات
الأسلوبية في هذه السورة المباركة.
ونستهدف دراسة
أهم الظواهر الأسلوبية على مستوی الصوت، والترکيب، والدلالة، لکى نتعرف على مؤشرات
الجمال ويتيسر لنا فهم معاني القرآن، نتذوق بتلاوته ونهتدي بتدبره ونحاول إدراك
العلاقة بين الشكل والمعنى والكشف عن دور الأصوات والكلمات والتراكيب في بيان
الأغراض الدينية، كوحدانية الله تعالى، وإثبات المعاد، راجين أن تکون هذه الدراسة
إلى جانب الدراسات القرآنية الأخری، خير نموذج لتفسير القرآن على أساس اللغة
والأدب.
لقد
جاءت سورة الفرقان المكية لتلخص كل هذه الحقائق، وترد على المكذبين، وتواسي الرسول
الأمين الذي لا ينطق عن الهوى، وافتتحت مطلعها بتعظيم الله -تعالى-
وتوقيره، والتنويه بصدق ما جاء به الرسول ﷺ وأُنزل عليه لترفع من شأنه، وتثبته على
دعوته. وقد تضمنت السورة حقائق كثيرة لابد من الوقوف أمامها، وتدبرها وفهمها، وهذا
الأمر يقتضي معرفة أسباب النزول، والإلمام بالسياق، والأحداث المهمة التي تضمنتها
الآيات. أما السبيل إلى ذلك فلا يكون إلا من
خلال أسلوب المقام الذي يؤدي دورًا مهمًا في عملية تشكيل الأسلوب، لذلك يركز هذا
البحث على خصائص الأسلوب في سورة الفرقان المكية. يتطرق البحث إلى أسلوبيات المقام،
ويهدف إلى معرفة سبب تسمية السورة، وسياق ترتيبها، وأسباب نزولها
ومقاصدها، وأهم الأغراض التي وردت فيها، ويتناول
أسلوبيات المقال التي يعالج السمات اللغوية، ويبين أهم المتغيرات
الأسلوبية اللسانية، وأبرز الخصائص الأسلوبية التي ظهرت بشكل لافت في سورة
الفرقان المكية.
وقد جاءت سورة
الفرقان بعد سورة النور التي خُتمت بقوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .. ٦٤) ، ثم جاء تفصيل هذه الجملة في سورة الفرقان،
بقوله تعالى: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ
وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ
فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ ، وهذا من حسن الترابط بين السور، ومن الخصائص الأسلوبية
التي تميز القرآن[5].
كما أن سورة
الفرقان افتتحت بالثناء على الله - تعالى - وتمجيده بعد سورة النور لما في ذلك من
الإشارة إلى نوع استقلال وإلى الانتقال من نوع إلى نوع[6]، ولم يرد سبب
في نزولها جملة واحدة، وإنما وردت بعض الآيات التي أنزلت مواساة للنبي وردا
على المشركين الذين عايروه بالفاقة.
أما مقصودها
العام فيدور حول وحدانية الله - تعالى - وتنزيهه "وإثبات صدق القرآن، وصحة
الرسالة المحمدية، وحول عقيدة الإيمان بالبعث والجزاء، وفيها بعض القصص
للعظة والاعتبار"[7] .
يمكن تقسيم
محاور السورة إلى سبعة كالآتي:
1.
الافتتاح بتنزيه الله -تعالى- وتصديق القرآن الكريم: من الآية (1) إلى الآية (6). أي من قوله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي
نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ إلى
قوله: ﴿ قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾.
افتتحت سورة الفرقان بمطلع مميز لا
يليق إلا بجلالة الله - تعالى - من خلال الفعل (تبارك) ويعني تمجد، أو تعظم، أو
تزايد خيره وهو فعل لم يرد في القرآن الكريم إلا مسندًا
الله - تعالى - ولا يأتي إلا في صيغة الماضي ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا
يُحس على وجه لا يُحصر ، ولا يُحصى، قيل لكل ما يُشاهد منه زيادة غير محسوسة، هو مبارك، وفيه بركة"[8]
وقد اشتملت هذه الافتتاحية على تمجيد الله تعالى - والثناء عليه،
ووصفه بالألوهية، وتنزيهه عن اتخاذ الولد والشرك به وأدمج في ذلك التنويه بالقرآن
الكريم، وجلال منزله، وما فيه من الهدى، وتعريض بالامتنان على الناس بهديه، وإرشاده
إلى اتقاء المهالك،
والتنويه بشأن النبي ﷺ[9].
وقد ورد في هذا المحور ادعاء المشركين بأن ما جاء به النبي -- هو إفك افتراه بمساعدة قوم آخرين، وكذب اخترعه، وقيل إن
القائل هو النضر بن الحارث ويقصد بالقوم
الآخرين الذين أعانوه على ذلك جماعة من الكتابيين اليهود، كانوا قد أسلموا، وتعهدهم الرسول - فقيل ما قيل[10] بل إنهم تمادوا في ذلك
وادعوا بأن ما جاء به أساطير
الأولين؛ أي قصص السابقين التي تملى عليه من اليهود صبحًا ومساء؛ خفية عن الناس حتى يحفظها، ويلقيها وذلك
لعلمهم بأنه -- لا يكتب، كما ادعى عبد الله
ابن الزبعري أن الرسول - حاشاه- رجل مسحور، واختل عقله. واختتم هذا
المحور بتوجيه الرسول - إلى الرد على مزاعمهم ليخرسهم فالله تعالى هو منزل القرآن، وهو الذي أحاط علمه بما
في السماوات والأرض، وهو الغفور لمن تاب منهم عن الذنوب والمعاصي، وهو الرحيم الذي
لم يعاجلهم بالعقوبة لكنهم أصروا
على شركهم.
2.
مواساة
النبي وبيان عاقبة المشركين: من الآية (7)
إلى الآية (20).
أي من قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ
الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ * لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ
فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾ إلى قوله تعالى:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي
الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ
رَبُّكَ بَصِيرًا﴾. أنزل الله -
تعالى - هذه الآيات مواساة للنبي ودفاعا عنه. إذ اجتمع رهط من المشركين، واتفقوا على أن يبعثوا إلى رسول
الله ليكلموه حتى يُعذروا منه أمام قريش،
وباقي العرب على ما جاء به من دين جديد أدخله عليهم ليصرفهم عن آلهتهم، فلما جاءهم
عرضوا عليه أن يجمعوا له المال إن كان غرضه التكسب من وراء ما جاء به، أو السيادة
على قريش، أو الملك، فرفض الرسول ما قالوه، وبلغهم بأن الله - تعالى - قد بعثه
إليهم، وأنزل عليه الكتاب، وأمره أن يكون بشيرا ونذيرا، فلما قال ذلك طلبوا منه أن
يسأل الله -تعالى- أن يبعث معه ملكًا يصدق قوله، وأن يجعل له جنانًا، وقصورًا من
ذهب وفضة تغنيه عن القيام بالأسواق، وطلب المعاش حتى يعرفوا منزلته العظيمة عند
ربه إن كان رسولا، فرفض ما قالوه [11]، وأنزل الله تعالى فيهم قوله: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا
الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ
نَذِيرًا﴾.
حزن النبي لما عيروه بالفاقة،
فجاءه جبريل عليه السلام - مواسيا له، ونزل عليه بقول الله تعالى: ﴿وَمَا
أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ
الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ
فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) وحينما كان جبريل عليه السلام
والنبي يتحدثان، ذاب جبريل عليه السلام - حتى صار كالهردة؛ أي العدسة فقال رسول
الله: مالك ذبت حتى صرت مثل الهردة ؟ قال: يا محمد فتح باب من أبواب السماء، ولم
يكن فتح قبل ذلك اليوم، وإني أخاف أن يُعذب قومك عند تعييرهم إياك بالفاقة، وأقبل
النبي وجبريل - عليهما السلام- يبكيان، إذ عاد جبريل -عليه السلام- إلى حاله، فقال
: أبشر يا محمد. هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضا من ربك"[12].
أقبل رضوان - عليه السلام - ومعه مفاتيح خزائن الدنيا ليعطيها الرسول
دون أن ينتقص شيء
مما له عند الله تعالى - في الآخرة فنظر النبي - إلى جبريل - عليه السلام -
كالمستشير له، فضرب جبريل بيده إلى الأرض فقال: تواضع الله، فقال: يا رضوان لا
حاجة لي فيها الفقر أحب إلي، وأن أكون عبدًا صابرا شكورًا، فقال رضوان عليه السلام:
أصبت أصاب الله بك، وجاء نداء من السماء، فرفع جبريل رأسه، فإذا السماوات قد فتحت
أبوابها إلى العرش، وأوحى الله تعالى إلى جنة عدن أن تدلي غصنًا من أغصانها عليه
عذق عليه غرفة من زبرجدة خضراء ، لها سبعون ألف باب من ياقوتة حمراء ، فقال جبريل -
عليه السلام : يا محمد ارفع بصرك، فرفع فرأى منازل الأنبياء ، وغرفهم، فإذا منازله فوق منازل
الأنبياء فضلا له خاصة، ومناد ينادي :أرضيت يا محمد
، فقال النبي - رضيت، فاجعل ما أردت أن تعطيني في الدنيا ذخيرة عندك في الشفاعة يوم القيامة[13] ، فأنزل الله - تعالى -
قوله : تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاءَ جَعَلَ
لَكَ خَيْرًا مِّن ذُلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل
لَّكَ قُصُورًا﴾. وقد تخللت هذه
الآيات بيان عاقبة المكذبين بالساعة، وما أعد لهم الله - تعالى - من
نار السعير نظير كفرهم وإشراكهم به، وتوعدهم بحشرهم مع آلهتهم التي عبدوها من دونه، وإنطاقها أمامهم وسؤالها عن ضلالتهم،
وردها بإنكار قولهم وتنزيهها الله تعالى. وقد
اختتم المحور ببيان طبيعة الرسل البشرية من أكل للطعام، ومشي في الأسواق.
3.
بيان أهوال يوم
القيامة ومصير المكذبين من الآية (21) إلى الآية (29)
أي من قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا
لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ
اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ﴿۲۱﴾ ) إلى قوله: ﴿ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ
الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا ﴿۲۹﴾. وصفت الآيات أهوال يوم القيامة بعد استكبار
المشركين عن عبادة الله تعالى - وطلبهم أن يروه، أو يُنزل عليهم الملائكة. وقد
توعدهم الله -تعالى- في هذا اليوم الذي أنكروه بتشقق السماء ، ونزول الملائكة
لتمنع عنهم البشرى بدخول الجنة. كما أُنزلت الآيات الثلاث الأخيرة في هذا المحور
من قوله: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْه... ﴾ إلى قوله : (...
وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا ﴾ في عقبة بن أبي معيط، وكان إذا عاد
من سفر دعا أشراف قريش إلى الطعام، ومنهم الرسول - الذي رفض أن يأكل حتى يشهد عقبة
بكلمة التوحيد فشهد بها وأكل. وقد كان عقبة خليلا لأمية بن خلف، ولم يكن حينها
حاضرًا، فلما علم بذلك غضب منه، وقال له لن أرضى عنك حتى تأتي محمدًا، وتبزق في
وجهه، فكفر وامتثل لأوامرأمية، وقيل إن بزاقه عاد إليه، وأحرق وجهه [14].
4.
الرد على
المكذبين بالقرآن وضرب الأمثال بالأمم السابقة: من الآية (30)
إلى الآية (44).
أي من قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي
اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا
﴿٣٠﴾ إلى قوله : أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ
يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾. توجه الرسول -
إلى ربه لينصره على قومه بعد هجرهم القرآن، وفي رد الله -تعالى- عليه تسلية بأن ما لقيه من بعض قومه هو
سنة من سنن الأمم مع أنبيائهم، ووصف أعداء
الأنبياء بأنهم من المجرمين، وأعقب التسلية بالوعد بهداية كثير ممن هم يومئذ معرضون" .[15] وكان القرآن ينزل على
الرسول منجما فعادوا إلى الطعن فيه ليرد
عليهم الله - تعالى - من خلال سورة الفرقان التي دحضت قولهم إعلامًا للنبي بأن الحكمة من ذلك تثبيت قلبه والتيسير
عليه، فجمعت السورة أباطيلهم، وتعليلاتهم الفاسدة، ودحضتها واحدة تلو الأخرى،
وتوعدهم الله - تعالى - بالحشر على وجوههم .
انتقلت السورة في سياق تلك الأباطيل التي ردت عليها إلى بيان أحوال
الأنبياء مع الأمم المكذبين المواساة النبي وتسليته، ووعده بالانتصار له، فذكرت
معاناة موسى - عليه السلام - وتأييد الله - تعالى - له بأخيه هارون - عليه السلام
- وبينت مصير تكذيب قومه
لهما ، وهو التدمير الكامل، ثم انتقلت بعد ذلك إلى نوح - عليه السلام ووصفت قومه
بالظالمين، وكيف أنهم لاقوا مصيرهم بالغرق. ثم ضُرب المثل بقوم عاد وثمود، وأصحب
الرس ولما كان سوق خبر هذه الأقوام، وما بينها من القرون مقصودًا لاعتبار قريش بمصائرهم، نُقل نظم الكلام
هنا إلى إضاعتهم الاعتبار بذلك، وبما هو أظهر
منه لأنظارهم، وهو آثار العذاب الذي نزل بقرية قوم لوط"[16]. إذ يمرون عليها
وكأنهم لا يرونها. وقد بدأت الآية أولا بذكر قصة موسى - عليه السلام لأنه الأقرب زمنيا لهم قبل الانتقال إلى نوح -
عليه السلام - وباقي الأقوام البائدة.
لقد لقي الرسول -- من قومه كثيرًا من الأذى، وكانوا يستهزؤون به كلما
رأوه في غير زي
الكبرياء والمترفين، لا يجر المطارف، ولا يركب النجائب، ولا يمشي مرحًا، ولا ينظر خيلاء ، ويجالس الصالحين، ويعرض
عن المشركين، ويرفق بالضعفاء ،ويواصل الفقراء [17] ويرون أنهم على هدى، وأن
الرسول كاد أن يضلهم عن آلهتهم. وقد
خاطبه الله تعالى بقوله : ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ
تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾
وذلك لما يخطر بنفسه من الحزن على تكرر إعراضهم عن دعوته. إذ كان حريصًا على هداهم، والإلحاح في دعوتهم،
فأعلمه بأن مثلهم لا يُرجى اهتداؤه، لأنهم جعلوا
هواهم إلهتهم[18] فهم كالأنعام التي تسمع صوت الدعوة، ولا تنتفع
بها، بل هم أشد منها في ضلالهم، فالأنعام قد تفقه عند الزجر لكنهم لا يفقهون ما
يقوله الرسول لهم،
ولا يسمعون.
أي من قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظَّلَّ
وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ
جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ﴾ إلى قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ
أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴿٦٢﴾.
انتقلت الآيات في هذا المحور إلى إثبات وحدانية الله -تعالى- وإبطال
الشرك، وضربت المثل بالظل
الذي اقتضت مشيئته أن يتدرج فيه، ليمثل بتنزيل القرآن منجما، ويبين الحكمة من هذا التدرج، وهو حصول المقصود
من ورائه، ونزول القرآن يشبه ظهور الشمس في المواضع المظللة، وهكذا كان حال الناس
قبله يشبه حال" امتداد ظلمة الظل،
وصار ما كان مظللًا ضاحيًا بالشمس، وكان زوال ذلك الظل تدريجيا حتى ينعدم الفيء"[19].
كما أن في هذا التمثيل إظهارا لقدرة الله - تعالى - في مد الظل وقبضه،
وجعله نعمة يستظل بها
من شعاع الشمس الحارقة، ويُعرف من خلاله أوقات الصلاة، ثم انتقلت الآيات إلى إظهار
قدرة الله - تعالى - الذي جعل الليل غطاء ساترا، والنوم راحة لخلقه وشبهه بالموت، ودلل عليه بالنهار الذي
يُبعث فيه النائم من ذلك السبات، فجعله نشورًا لمعايش
الخلق وحوائجهم. كما ذكرت الآيات تفضل الله تعالى بإنزال الماء طهورا من السماء لا ينجسه شيء، وصرفه بين الناس، ويقصد
بالتصريف أن يسقي هذه الأرض ويمنع عن
غيرها، ﴿وذلك لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾،
وقد أخرج ابن المنذر في قوله: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ
لِيَذَّكَّرُوا..﴾، أَن المقصود به
القرآن، وليس المطر استنادًا إلى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا﴾، والأقرب إلى ذلك التفسير
الأول؛ أي المطر، لأن هذا المحور يتحدث عن الآيات التي خلقها الله - تعالى - في
كونه كالظل، والليل، والنوم، والنهار والماء .
وقد ذكر البحرين اللذين جعل بينهما برزخا أي : محبسًا لا يختلط البحر
العذب بالبحر الملح [20] ، وهذه من مسائل الإعجاز
القرآني التي أثبتها العلم الحديث. كما أن من دلائل قدرة الله تعالى أن خلق البشر
من ماء ضعيف، وجعل بينهم نسبا وصهرا من خلال هذا
الماء، ومع ذلك أبى هؤلاء الكفار إلا أن يشركوا بالله تعالى- ومنهم أبو جهل الذي نزل فيه قوله تعالى: ﴿وَكَانَ
الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا﴾، أي: يعين الشيطان، ويظاهر على ربه بالعداوة وعبادة
الأوثان. وقد أرسل الله
تعالى محمدًا - ليبشر بالجنة، وينذر من النار. لا يريد على دعوته عرض الدنيا، وأمره أن يتوكل عليه، فهو
الحي الذي لا يموت، وأن يسبحه، وينزهه عن
الشريك والولد، ويكفي أنه تعالى خبير عليم مطلع على ذنوب عباده، وهو الرحمن الذي خلق السماوات والأرض، واستوى على
العرش، وأبي الكافرون السجود له" فقد
شاع بينهم تسمية مسيلمة برحمن اليمامة"[21]. ومما ذكر في هذا المحور من دلائل قدرة الله
تعالى - وعظمته أن خلق في السماء اثني
عشر برجا، وقيل " إن البروج قصور على أبواب السماء فيها الحرس وقيل: هي القصور في الجنة[22]. وقد ذكر عكرمة أنها
"النجوم، وأن أهل السماء يرون مساجد
الدنيا كما يرون أهل الدنيا نجوم السماء "[23] . وقد ختم المحور بآيتين عظيمتين من آيات الله -تعالى- التي خلقهما، وهما
آيتا الليل والنهار، وجعل كل واحد منهما يخلف
الآخر لمن أراد أن يذكر، أو يشكر فيهما نعم الله - عز وجل- عليه، فمن فاته العمل بالنهار، أدركه بالليل، ومن فاته
بالليل، أدركه بالنهار .
6.
وصف عباد
الرحمن : من الآية (63) إلى الآية (76)
أي من قوله
تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ... ٦٣ إلى قوله ﴿... خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا
وَمُقَامًا﴾
وصف الله
-تعالى- عباده مضيفًا إليهم اسمه الشريف (الرحمن) تعظيمًا وتشريفا بالذين يمشون
على الأرض هونا ؛ أي يمشون بالطاعة، والعفاف، والتواضع، والوقار ، والسكينة. إذا
خاطبهم الجاهلون ردوا بالقول السديد. لا يجهلون على من جهل عليهم، وإن خلوا في
ليلهم مع الله - تعالى - باتوا سُجدًا وقيامًا يدعونه بأن يصرف عنهم عذاب جهنم.
كما أنهم معتدلون في الإنفاق، فلا يسرفون، ولا يقترون، ومن صفاتهم الأخرى أنهم لا
يشركون بالله تعالى. وقد سأل ابن مسعود رسول الله- عن أعظم الذنوب فأجابه" أن
تجعل الله نداً وهو خلقك
، فقال : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: ثم أي قال: أن تزاني حليلة جارك [24] فأنزل الله تعالى تصديقا
لذلك، قوله: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذُلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾، والمقصود
بقوله (آثاما) واد من القيح والدم في جهنم، يُضاعف فيه العذاب، ويهان فيه من أشرك بالله -عز
وجل- ومن قتل، ومن زنا، وقيل نزلت في جماعة
من المشركين قد قتلوا فأكثروا القتل، وزنوا ثم أتوا النبي فقالوا :إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما
عملنا كفارة، فنزل قوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ... ﴾[25] ونزل معها من سورة الزمر قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ
أَسْرَفُوا لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾[26] .وقد يأس البعض من مغفرة
الله - تعالى - لما اقترفوه من الذنوب، منهم وحشي الذي قتل، وزنا، وأشرك ، فأنزل الله -تعالى-
قوله: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا.. ﴾ وبدل سيئاتهم حسنات، ورزقهم بالتوبة والإيمان،
والعمل الصالح.كما ذكرت
الآيات صفات أخرى لعباد الرحمن، وهي أنهم لا يشهدون الزور، وقيل "إن الزور كان صنما بالمدينة يلعبون
حوله كل سبعة أيام، وكان أصحاب رسول الله إذا مروا
به مروا كراما لا ينظرون إليه". [27] وقيل الزور : أعياد
المشركين، ومنهم وبدل سيئاتهم حسنات، ورزقهم بالتوبة، والإيمان، والعمل الصالح.
كما ذكرت الآيات صفات أخرى لعباد الرحمن، وهي أنهم لا يشهدون الزور، وقيل "إن
الزور كان صنما بالمدينة يلعبون حوله كل سبعة أيام، وكان أصحاب رسول الله إذا مروا
به مروا كراما لا ينظرون إليه". وقيل الزور: أعياد المشركين، ومنهم من قال
مجالس السوء. أما اللغو فكل المعاصي، وعباد الرحمن لا يصمون آذانهم عن الحق إذا
ذكروا بآيات ربهم، ولا يعمون عنها، ودعاؤهم الدائم أن يرزقهم الله - تعالى- بالزوج
والذرية التي تعمل الطاعة، وتقر بها العين. وقد خُتم هذا المحور ببيان الجزاء الذي
وعدهم الله -تعالى- به ، وهي الغرفة أي ؛ الجنة، وتتلقاهم الملائكة بالسلام، ولهم
الخلود فيها والمستقر الدائم والمقام.
7.
الاختتام بوجوب
العقاب للمكذبين: الآية (77)عند قوله تعالى: ﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ
بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا
﴾
كما افتتحت السورة بتوحيد الله - تعالى - وتنزيهه عن الشريك، وتخللها
مظاهر كبر المشركين، وادعاءاتهم الباطلة، وإساءاتهم المتكررة للنبي -- كان لابد أن
تختتم ببيان عاقبة المشركين بالله - تعالى - والمنكرين برسالة نبيه، وكان ذلك
لزامًا ماضيا عليهم، واللزام هو القتل. وقد تحقق ذلك في غزوة بدر .
أسلوبيات المقال
في سورة الفرقان
تتنوع الخصائص اللغوية التي تشكل بنية
النص إلى خواص صوتية، وأخرى أو تركيبية، أو معجمية، أو دلالية [28]
والحاجة إلى معرفة هذه الخواص والكشف عنها يكون من خلال المستويات المتعددة التي
يقوم عليها التحليل اللساني، وينطلق منها صرفية، هذا المبحث القائم على أسلوبيات المقال في سورة الفرقان للكشف
عن أبرز المتغيرات الأسلوبية، مراعيا خصوصية القرآن الكريم. ويمكن توضيحها كالآتي:
1)
المتغيرات الشكلية:
تتنوع المتغيرات الشكلية التي يمكن
الانطلاق منها لاستكشاف المظهر الذي يغلف الكلمات، ويحمل أبعادا أخرى في طياته. ولأهمية
طول الكلمة، وطول الجملة في استكشاف تلك الأبعاد، والخروج بنتائج جديدة لا تخالف
القرآن الكريم.
·
طول الكلمة:
يبلغ عدد كلمات سورة الفرقان "ثمانمائة واثنتين
وتسعين كلمة، وحروفها ثلاث آلاف وسبعمائة وثلاثة وثمانون حرفا، وقاعدة فواصلها
(لا)، وعدد آياتها سبع وسبعون ًاتفاًقا".[29]
أما أطولها مقيًسا بعدد الحروف فقد تمثل في الكلمات المركبة، وأولها [أساطير
الأولين(13)]، يليها طولا: [ ثبورا كثيرا(10)، عذابا كثيرا(10)، عذابا أليًما(10)،
حجرا محجورا(10)، هباًء منثورا(10)، جهاًدا كبيًرا(10)، عباد الرحمن(11)، أحسن تفسيرا(10)]،
وبملاحظة هذه الكلمات فإنها تمثل الفريقين اللذين وصفتهما السورة، وهما: فريق
الرسول-صلى الله عليه وسلم- ومن تبعه من المؤمنين، وفريق المشركين. وقد
جاءت الألفاظ الأكثر طولاً فيما ُعّني به الرسول -صلى الله عليه وسلم- واختص به،
وهو القرآن الذي رد على كفرهم، وادعاءاتهم الباطلة بأحسن تفسير، وطولب الرسول-صلى
الله عليه وسلم- بأن يجاهد به المشركين جهاًدا كبيًرا، واصًفا الفئة التي آمنت
بالله ورسوله بعباد الرحمن، فكانت إضافة تشريف، ومحل تعظيم بالقلب.
أما فريق المشركين فاستحق الثبور،
والعذاب الكثير والأليم، وعدم الأمن، فلا بشرى لهم بالجنة، وكل أعمالهم تصبح هباء منثورا
يوم القيامة، فجاءت الألفاظ الأكثر طولا معبرة عن نهاية مصيرهم.
وفيما يخص الكلمات الأقصر طولا فتمثلت
في مجموعة من الأفعال والأسماء. وقد عادت معظم الأفعال إلى الله - سبحانه وتعالى- ودلت
على قدرته ومشيئته، ومثال ذلك: [شاء(3)، جعل(3)، مرج(3)، خلق(3)، بعث(3)]، ومنها
ما خوطب به الرسول-صلى الله عليه وسلم- بألا يطيع المشركين، وأن يسبح الله -تعالى-
ويحمده، وينزهه عن كل نقص، ويتوكل عليه ويكتفي به، ومثال ذلك: [تطع(3)،
سبح(3)،كفى(3)]، ومنها ما ناسب حال المؤمنين التائبين العائدين إلى الله - تعالى-
بالعمل الصالح، ومثال ذلك: [تاب(3)، عمل(3)]، ومنها ما ناسب حال المشركين الذي
تمثل في أفعال القول، والكذب بما ُنِّزل على الرسول صلى الله عليه وسلم والندم بعد
البعث على تفريطهم، ومثال ذلك:[ قيل(3)، قال(3)، كذب(3)، ُنِّزل(3) يعض(3)،
يلق(3)، نرى(3)]. أما المجموعة الأخرى المتعلقة بالأسماء فقد احتلت فيها الربوبية
العدد الأكبر، ومن أمثلة ما دل على ذلك: [ ربي (3)، ربك(3)، ربه(3)]. أما باقي
الأسماء الأخرى فدارت حول محور السورة من تكذيب المشركين، وسخريتهم من رسول الله،
وإنكارهم البعث، ومثال ذلك: [إفك(3)، ُملك(3)، ملك(3)، مال(3)، كنز(3)، جنة(3)،
خير(3)، وعد(3)، أجر(3)، نبي(3)، قوم(3)، شيء(3)، ضًار(3)، يوم(3)، ُصًّما(3)،
يدي(3)، ماء(3)]. وأغلبها مفاتيح للسورة[30].
ومن أبرز المتغيرات الشكلية التي
لوحظت وفقاً لطول الكلمة، مراعاة التساوي المادي. إذ ظهرت بعض الكلمات المتعلقة
بالثراء المادي، وجاءت متساوية في عدد الحروف، ومثال ذلك: [ كنز(3)، جنة(3)]، وقد
وردت في المحور المتعلق بالرد على المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم حينما
طلبوا منه أن يسأل الله تعالى- بأن يهبه ُملًكا، أو جنة يأكل منها، أو يلقى إليه
كنًز، وذلك في قوله:﴿ وقاُلوا مال هـٰذا الَّرُسول يْأُكل الطعام.. ﴾.
· طول الجملة
والآية:
يعتمد قياس طول الجملة في القرآن الكريم على طول
الآية. وقد جاءت الآية الأكثر طولاً في المحور المتعلق بمواساة النبي صلى الله
عليه وسلم والرد على المشركين المكذبين، وتمثلت في جملة مقول القول التي وردت على
لسان المشركين، وأخذت ثلاث آيات باعتبار طول الآية مرتبطا بمعناها، ومراعيا لما
سبقها، وما لحقها من آيات، وذلك في قوله تعالى:﴿ وقاُلوا ما ل هـٰذا الَّرُسول
يْأُكُل الطعام ويْمشي في اْلأْسواق ۙ لْولا أُنزل إلْيه ملك فيُكون معُه نذيًر﴿٧﴾أْوُيْلقٰى
إلْيه كنز أْو تُكوُن لُه جَّنة يْأُكُل مْنها وقال الَّظالُمون إن تَّتبُعون إَّلا
رُجًلا َّمْسُحوًرا﴾. وعدد كلماتها(26) بالوقوف عند كلمة (منها) أي نهاية مقولهم. أما
بالوقوف عند آخر الآية فسيكون عدد الكلمات (33).
تلي هذه الآية في الطول احتساًبا من
حيث الشكل والمعنى، جملة الآيات التي وصفت حالة الظالم عقبة بن أبي معيط في يوم
القيامة، وتضمنت كذلك جملة مقول القول، وبلغ عدد كلماتها(28) كلمة بالوقوف عند آخر
الآية و(24) كلمة بالوقوف عند نهاية جملة مقول القول، أي عند الفعل(جاءني)، وذلك
في قوله:﴿ويْوم يعض الظالم على يديه يُقول ياليتني اَّتخْذت مع الَّرسول
سبيًلا﴿٢٧﴾ يويلتى ليتني لم أَّتخْذ فلاًنا خليًلا﴿٢٨﴾َّلقْد أضَّلني عن الِّذْكر
بْعد إْذ جاءنيۗ وكان الَّشْيطاُن للإنسان خذولا﴾ .أما إذا نظرنا إلى الآيات
باعتبار نهاية الفواصل فقط، فالأطول بالتساوي الآية (3)، والآية (68)، وعدد كلمات
كل آية منهما (22) كلمة. وقد وصفت الآية الأولى حال المشركين، واتخاذهم الأصنام من
دون الله -سبحانه وتعالى- وذلك في قوله:﴿واَّتخُذوا من ُدونه آلهًة َّلا يْخُلُقون
شْيًئا وُهْم ُيْخلُقون ولا يْملُكون لأنُفسهْم ضًّار ولا نْفًعا ولا يْملُكون
مْوًتا ولا حياًة ولا ُنشوًار ﴿٣﴾﴾. أما الآية الثانية فوصفت حال المؤمنين الذين لا يشركون بالله، ولا
يقتلون، ولا يزنون، وشتان بين الفريقين، وذلك في قوله:﴿واَّلذين لا يْد ُعون مع
الَّلـه إلـًٰها آخر ولا يْقتُلون الَّنْفس اَّلتي حَّرم الَّلـه إَّلا باْلحق ولا
يزنون ومن يْفعل ٰذلك يْلق ُأثاما﴿٦٨﴾﴾. وأما الأقصر فتمثل في قوله:﴿وما أْرسْلنك
إَّلا ُمبشًرا ونذيًرا ﴿٥٦﴾﴾، وقد قدمت هذه الآية خلاصة ما ورد في سورة الفرقان،
ولخصت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم التي جاءت بالبشرى لمن آمن، والإنذار لمن
كفر، وعدد كلماتها خمس[31].
2)
المتغيرات الصوتية:
تتنوع المتغيرات الصوتية التي تضفي
طابعا خاصا على السور القرآنية ، ويمكن تتبعها ورصدها أسلوبًيا، ويقتصر الحديث في
هذا الجانب على مقاطع المحاور والنظر إليها من حيث البدء والانتهاء. إضافة إلى
بيان دور الفاصلة القرآنية، وما تحققه من أثر صوتي يترك في النفس وقًعا[32]،
ويمكن التوضيح كالآتي:
·
مقاطع المحاور:
(الآيات) تنوعت المقاطع في
سورة الفرقان ما بين القصير المفتوح، والمتوسط المغلق، والطويل المفتوح، والطويل
المغلق. وقد بلغ إجمالي عدد المقاطع في سورة الفرقان (2,239) مقطًعا. احتلت فيها
المقاطع القصيرة المفتوحة مساحة كبيرة في السورة. إذ بلغ عددها (935) مقطًعا،
وساعدت على الربط بين المقاطع المتوسطة المغلقة، والانتقال منها إلى المقاطع الطويلة
المفتوحة. كما أظهرت نوًعا من السرعة والخفة تطلبها طبيعة السورة المكية التي
اُفتُتحت بتنزيه الله -تعالى- عن الشرك، وتصديق القرآن الكريم. وعندما انتقلت
الآيات بعد ذلك إلى مواساة النبي-صلى الله عليه وسلم- والرد على المكذبين وهو
المحور الذي أخذت فيه المقاطع المتوسطة المغلقة، والمقاطع الطويلة المفتوحة حيزا
كبيًرا عن باقي المحاور- كان لابد من وضع حد صارم مع هؤلاء المشركين المكذبين،
والدفاع عن النبي-صلى الله عليه وسلم- فجاء هذا النوع من المقاطع المتوسطة المغلقة
ليشكل إيقاعا صارما، ويعلو قليًلا مع النوع الآخر من المقاطع الطويلة المفتوحة
التي تُعد ً الأقل حضورا من حيث العدد، لكنها أظهرت بعًدا آخر أسفر عن الطول
الزمني الذي قضاه المشركون في تماديهم، وصدهم عن دعوة رسول الله فاستحقوا أن يمتد
بهم هذا الطول أكثر، ويهوي بهم إلى قاع جهنم[33].
افتُتحت كل مقاطع المحاور في بدايتها بالمقطع القصير المفتوح،
واختُتمت بالمقطع الطويل المفتوح باستثناء آيتين، الآية التي حشر الله -تعالى-
فيها المشركين مع آلهتهم وأنطقها، وذلك في قوله تعالى: ﴿ويْوم يْحُشُرُهْم وما يْعُبُدون
منُ دون اللَّه فيُقول أأنُتْم أضلْلُتْم عبادي هؤلاء أْم هْم ضُّلوا السبيل﴿١٧﴾﴾.
إذ بدأت بمقطع قصير مفتوح، وانتهت بمقطع طويل مغلق، وكأنه يوحي بطول انغلاقهم على
حياة الشرك. إضافة إلى الآية التي خِتمت بها السورة. إذ بدأت بمقطع متوسط مغلق،
وانتهت بمقطع طويل مفتوح، وذلك في قوله تعالى: ﴿ُقل ما
يعبأُ بُكم ربي لولا دعاُؤُكم فقْد كَّذْبُتْم فسْوف يُكوُن لزًاما﴿٧٧﴾﴾، وكأنه
يوحي بالطول الزمني الذي ينفتح على مصيرهم المحتوم، وهو العذاب الملازم لهم.
· الفاصلة القرآنية:
تقع الفاصلة في آخر الآية، وتؤدي الفاصلة القرآنية دورا مهما في تحسين
المعاني، والاستراحة في الكلام. كما تضفي إيقاعا جميًلا باتحاد وزنها مع قافيتها.
وقد شكل انتهاء الفاصلة في سورة الفرقان بمقطعين متتاليين من النوع الطويل المفتوح
سمة بارزة في كل الفواصل، عدا فاصلة واحدة فقط انتهت بمقطع قصير مفتوح، يليه مقطع
طويل مغلق. أما نهاية المقاطع فقد تنوعت أصواتها بين ال راء، واللام، والميم،
والنون،
والباء مع اتصال كل صوت بالألف الممدودة، عدا الفاصلة الوحيدة التي
خالفت المقطع الطويل المفتوح. فقد انتهت بصوت اللام دون اتصاله بالألف الممدودة.
وقد بلغ مجموع فواصل سورة الفرقان (77) فاصلة[34].
أتت سورة الفرقان أولى آياتها الأربع بفاصلة مختومة بصوت/ ر/ الذي
يسبق ألف المد في (نذيرا- تقديرا- نشورا-زورا) وانتقلت في الآية الخامسة إلى صوت/
ل/ في (أصيلا) ثم
إلى صوت / م/ في (رحيما:6) ليعود صوت / ر/ مرة أخرى في آيتين متتاليتين من خلال
(نذيرا:7، مسحورا:8)، ثم يكسر بفاصلة واحدة لامية في(سبيلا:9) للفت الانتباه قبل
أن يعود مرة أخرى إلى صوت / ر/ مجدًدا عبر ستة فواصل متتالية هي (قصورا، سعيرا،
زفيرا، ثبورا، كثيرا، مصيرا). انكسرت هذه الفواصل المتتالية مرة أخرى بفاصلتين
لاميتين؛ الأولى (مسؤلا:16) التزمت بنفس المقطع الطويل المفتوح، والثانية
(سبيل:17) خالفته – بالنظر إلى الوقف- إلى المقطع الطويل المغلق / ل/ ثم عادت في
الفاصلة التي تليها إلى نفس المقطع الذي بدأت به السورة مع صوت / ر/ في (بورا:18)[35] .
وبملاحظة ما ورد قبل وبعد الفاصلة التي خالفت المقطع الطويل المفتوح
فتكون لدينا هذه التراكيب (وعدا مسؤولا – ضلوا السبيل– قوما بورا ) ويناسب المقطع
الطويل
المفتوح ما وعد الله -تعالى- به المتقين وهي جنة الخلد، وكأن هذا
الطول الزمني
يوحي بالأبد الذي لانهاية له.
وقد جاءت الفاصلة التي ختمت بها الآية (وعدا مسئولا: 16) بعد استفهام
غرضه التقريع، والتهكم بهؤلاء
الكافرين الذين أضاعوا الجنة، و(ضلوا السبيل: 17 ) لتقف الفاصلة الأخرى، وتُختتم
بمقطع طويل مغلق من خلال )السبيل)الذي يناسب طول انغلاقهم
في الحياة مع ما عبدوه من دون الله – تعالى- فالسبيل الذي أضلوه
كان في الإقرار بروحانيته وطاعته، وطاعة رسوله، فسلكوا سبيل الكفر
فناسب أن ينغلق عليهم ويهوي بهم إلى الهلاك، واستحقوا
الوصف بأن يكونوا (قوماً بورا:18) وهذا ما يمكن تفسيره بالنظر إلى ما سبق فاصلة /
ل/ المغايرة لباقي الفواصل، وما جاء بعدها من فواصل أخرى تناوبت بين صوتين هما /
ل ،/ / ر/ مع اتصالها بألف المد، وسير تلك الفواصل (62-19) على الوتيرة
نفسها التي سارت عليها مقاطع الآية عند بدايتها[36].
أما الفارق فيظهر بعد ذلك في الأصوات التي وردت في محور وصف عباد
الرحمن الذي يعود فيه صوت / م/ متصلا بالألف الممدودة مسترسلا عبر هذه الفواصل (سلاما،63:
قياما،64: غراما،65: مقاما،66: قواما،67: آثاما:68) التي جاءت في وصفهم حتى ينكسر صوت الميم بفاصلة واحدة
نونية هي (مهانا:69 ( تصف حال كل من يخالف أوامر الله -تعالى- بالشرك،
والقتل، والزنا، وخلوده مهان في العذاب يوم القيامة، ثم يأتي الاستثناء بعد ذلك لمن
تاب وعمل صالح و يعود صوت / م / في فاصلة وحيدة (رحيما: 70) تكسر بصوت / ب / في (متابا:71)
الذي رافق توبة من عاد إلى الله -تعالى- ليتراجع مرة أخرى إلى صوت / م/ في فاصلة
واحدة كذلك هي (كراما: 72) تجدد وصف عباد الرحمن لتنكسر بصوت/ن
/نافية أن يكون حال المؤمنين إذا سمعوا آيات الله - تعالى- كحال
الكافرين صمًا و(عميانا : 73) لتعود الفاصلة الميمية متوالية
ثالث مرات في وصف عباد الرحمن عبر(إماما: ،74) (سلاما: ،75) (مقاما: 76)
اما المفارقة فهي أن تختتم السورة بصوت /م/ في (لزاما:
77) بعد أن انطلقت منه في وصفهم، لتعلن تشديد العقوبة على من
أشركوا بالله - تعالى- وكذبوا بما جاءهم ليستحقوا مصيرهم في يوم اللزام الذي حل
بهم في غزوة بدر. كما سيكون العذاب ملازما لهم في الآخرة.
لقد سارت المقاطع على الوتيرة نفسها التي سارت عليها دعوة رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- في صبر، وعناء، ومكابدة مع قومه الذين أشركوا بالله
-تعالى- وكفروا بما أنزل عليه، ولم تتغير إلا في فاصلة واحدة قصرت قليلا كأنها
تبين حالهم.
وقد أعطت الأصوات المجهورة الفموية التي انطلقت منها السورة وهي / ر
/، /ل/ قوة وقدرة على لفت الانتباه مع ظهور صوت / ب/ في نهاية الآيات
الأخيرة ليحقق هذا الانطباع أكثر. أما الأصوات الأخرى المجهورة
فكانت أنفية المخرج، وتمثلت في/ م/،/ ن/ وكانت لافتة جداً لظهورها في
آخر الآيات، وأعطت إيقاعًا جميلاً مع تناغم صوت/ م / وألف المد.
خلاصة ما ورد أعلاه، أن لدينا مجموعة من التتابعات الصوتية التي ظهرت
في فواصل سورة الفرقان، بلغ عددها (76)[37].
3)
المتغيرات
التركيبية:
تتنوع المتغيرات التركيبية ومنها ما يظهر بشكل لافت ليصبح خاصية
أسلوبية تميز النص، والقرآن الكريم كتاب مقدس مميز بكل
ما فيه، فهو منزل من لدن حكيم عليم، ولا يمنع ذلك من النظر إلى الخصائص الأسلوبية
التي تميز أي سورة من غيرها من السور. وقد ظهرت في سورة الفرقان بعض الأساليب
التي تستدعي الوقوف أمامها بعناية، منها: التعريف بالموصول، ومنصوبات
الفواصل،[38] ويمكن
التفصيل كالاتي:
§
التعريف
بالموصول:
افتتحت السورة الكريمة أول آياتها بالفعل المضارع (تبارك) وهو فعل لا
يطلق ولا يستعمل في غيره تعالى،
فلا يجيء منه مضارع، ولا اسم فاعل، ولا مصدر[39]، ومعنى الفعل الزيادة في
الخير من الله تعالى، والعطاء الكثير "ويجوز أن يكون كناية عن إنشاء الثناء
على الله تعالى[40] أي:
تمجد الله وتعظم، فالذي أنزل الفرقان هو الله تعالى والموصول يومئ إلى علة ما
قبله، فهو كناية عن تعظيم شأن الفرقان وبركته على الناس، وكناية عن تعظيم شأن
الرسول صلى الله عليه وسلم".
كما أن السورة أقيمت على ثالث دعائم افتتحت بجملة (تبارك الذي) الأولى:
أشير إليها وهي، نزول
القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم والرفع من شأنه، والثانية: إثبات حقيقة
البعث والجزاء، وبيان ثواب الصالحين، وسوء حظ المشركين. وقد وردت في الآية
العاشرة من قوله تعالى :﴿تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من
ذلك.. ﴾ فلما سبق هذه الآية إصرار المشركين على شركهم و إنكار
وحدانية الله تعالى والطعن بالقرآن الذي أنزل على الرسول-صلى الله عليه وسلم- أعرض
عن أباطيلهم، وأعيد اللفظ الذي بدأت به السورة على غرار وصل الكلام،
ليثبت به الرسول والمؤمنين. أما
الدعامة الثالثة فوردت في قوله تعالى:﴿ تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ
بُرُوجٗا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَٰجٗا وَقَمَرٗا مُّنِيرٗا ﴿٦١﴾﴾، وافتتحت بالثناء على الله –عز وجل- بالبركة، وما جعله من منافع كثيرة لخلقه؛ تمهيداً للانتقال
إلى وصف عباد الرحمن في الآية:﴿ وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ
عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمٗا﴿٦٣﴾﴾، وهم أصحاب الرسول خاصة، والمؤمنين الذين يتصفون بهذه الصفات التي أجريت عليهم
للثناء والوعد بالجنة جزاء لطاعتهم . وقد أضيف إلى اسم الرحمن تشريفا لهم، وأطنبت الآيات بصفاتهم تعريضاً للمشركين
الذين أبوا أن يسجدوا للرحمن، فأعيد الموصول للتأكيد على أنهم يعرفون
بما اتصفوا به من أوصاف[41].
§
منصوبات
الفواصل:
حفلت فواصل سورة الفرقان بمجموعة كبيرة من المنصوبات المتنوعة. وقد
احتلت المفاعيل فيها المرتبة الأولى، وظهر منها، المفعول به، ومثال
ذلك ما ورد في قوله تعالى : ﴿وَلَقَدۡ
ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلۡنَا مَعَهُۥٓ أَخَاهُ هَٰرُونَ وَزِيرٗا﴾ لتقع النبوة على هارون -عليه السالم- ويكون مؤازر لأخيه.
إضافة إلى المفعول المطلق ، ومثال ذلك ما ورد في قوله: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖ
فَقَدَّرَهُۥ تَقۡدِيرٗا﴾ وفي هذا تأكيد
مطلق لقدرة المولى–عز وجل- على خلق كل شيء بقدر. تليها في المرتبة
الثانية الصفات المنصوبة ومن أمثلتها ما ورد في قوله تعالى : ﴿ وَأَنزَلۡنَا
مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ طَهُورٗا﴾ وقد بينت الآية صفة الماء المنزل من
السماء، وعبرت عن شدة طهره. ثم يأتي بعد ذلك خبر كان، في المرتبة الثالثة،
ومثاله ما ورد في قوله تعالى : ﴿ فَسَوۡفَ يَكُونُ لِزَامَۢا ﴾ إذ أخبرت الآية عن
حال المكذبين، ونهايتهم. كما ظهر التمييز في منصوبات
الفواصل، ومما ورد في قوله تعالى﴿إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ
أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾أي أنهم أكثر من الأنعام في ضلالة الطريق، وقد شكلت هذه
المنصوبات ملمحا أسلوبيا في فواصل السورة، وأدت في كل آية غرضا أسهم في تأدية
المعنى وتقويته[42]
خلاصات واستنتاجات:
أنزلت سورة الفرقان تمجيداً لله تعالى وتنزيهاً له عن الشرك واتخاذ
الولد، وتشريفاً للنبي صلى الله عليه وسلم بوصفه عبدا مكلفا بإبلاغ الرسالة، مبشراً
بالجنة، ونذيراً بالنار. وقد جاءت السورة لتؤكد صحة إنزال القرآن
الكريم على نبي الله فهو الفرقان بين الحق والباطل،
والمعجزة الخالدة الباقية إلى يومنا هذا.
لقد عانى الرسول-صلى الله عليه وسلم- من أجل إبلاغ الدعوة، ولقي
الكثير من الأذى، وتعرض إلى السخرية من قومه الذين أثاروا الشبهات حول
القرآن. فما كان من الله -تعالى – الا أن يدافع عن نبيه المرسل، وعن
كتابه المقدس، لتأتي سورة الفرقان، وتدحض ما أثاروه من
شبهات، وتواسي رسول الله، وتعلي من قدره، والسورة في مضمونها العام
أنزلت لتوحيد الله - تعالى- والدفاع عن القرآن والنبي صلى الله عليه
وسلم. وقد تضمنت في محتواها مصير الكافرين، وكيفية حشرهم يوم القيامة في اليوم
الذي أنكروه. كما ردت على تعنتهم وسوء أدبهم، وضربت المثل بالأقوام
المكذبين وما ألوا إليه. كما بينت السورة مصير المؤمنين الذين
وصفهم الله بعباد الرحمن، وجزاءهم حيث الغرفة التي أعدت لهم أي الجنة.
وقد ختمت بوجوب عقاب من كفر بالله -تعالى- وكذب دعوة النبي - صلى الله
عليه وسلم كما بينا كل هذا في جزئية اسلوب المقام .
اما في جزئية اسلوب المقال فقد عالج أسلوب المقال في سورة الفرقان. وقد
تضمن جملة من المتغيرات الأسلوبية المعالجة وفق المستويات
اللسانية، وأظهر كل متغير العديد من النتائج الملموسة وفق ما تضمنته السورة
الكريمة من معطيات مع مراعاة قدسية كتاب الله - تعالى- الأسمى من كل شيء.
وقد رصدت المتغيرات الشكلية أطول كلمة بالرسم العثماني، وهي من
الكلمات المركبة التي بلغ عدد حروفها مع احتساب الألف
المرسومة (13)حرف . كما جاءت الألفاظ الأخرى الأكثر طوًال مفاتيح للسورة؛
فبالنظر إليها فإنها تمثل فريق بعض المؤمنين، وفريق المشركين. وظهرت كذلك بعض
المتغيرات الشكلية الأخرى التي دلت على الثراء المادي، وجاءت متساوية في عدد
الحروف، ومثال ذلك: (كنز (، (جنة).
أما فيما يخص طول الجملة، فأطول ما جاء كان في جملة مقول القول لدى
المشركين الذين سخروا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- . وقد امتد
قولهم إلى ثلاث آيات، وبلغ عدد الكلمات (26) عند الوقوف على آخر كلمة بجملة
مقول القول (منها)، و(33) بالوقوف عند نهاية الآية (رجًلا مسحورا).
أما من حيث الفواصل، فالأطول بالتساوي الآية (23) والآية (56). وقد
وصفت الآيتان حال الفريقين بالتساوي، فريق المشركين، وفريق المؤمنين.
أما أقصر آية فقد لخصت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم
وبلغ عدد كلماتها خمسة.
أما أبرز المتغيرات الصوتية ف ظهرت من خلال تنوع المقاطع ما بين
القصير المفتوح، والمتوسط المغلق، والطويل المفتوح،
والطويل المغلق. وقد افتتحت كل مقاطع المحاور في بدايتها بالمقطع القصير المفتوح،
واختتمت بالمقطع الطويل المفتوح باستثناء الآية التي توعد الله -تعالى- فيها
المشركين بحشرهم وآلهتهم، وإنطاقها أمامهم. إذ بدأت بمقطع قصير مفتوح، وانتهت بمقطع
طويل مغلق. إضافة إلى آخر آية ختمت بها السورة. إذا بدأت بمقطع متوسط مغلق، وانتهت
بمقطع طويل مفتوح.
كما رصدت فواصل السورة التي انتهت بمقطعين متتاليين من
النوع الطويل المفتوح، عدا فاصلة واحدة فقط؛ انتهت بمقطع قصير
مفتوح يليه مقطع طويل مغلق . وتنوعت الأصوات بين ال راء، واللام،
والميم، والنون، والباء، مع اتصال كل صوت بالألف الممدودة. وقد ظهرت مجموعة من
التتابعات الصوتية التي بلغ عددها (76) تمثلت في ( يرا –
ورا) ،( يلا - ولا )، (أما – يا( ، (انا-ابا)، وفاصلة واحدة متقاربة تمثلت في (يل).
وفيما يخص المتغيرات التركيبية فقد ظهرت بعض الأساليب المهمة منها
التعريف بصفات الله تعالى من خلال الاسم الموصول. إضافة إلى اعتماد فواصل
السورة على المنصوبات بشكل لافت.
المصادر والمراجع
1. القران الكريم, سورة
الفرقان.
2. خفاجي، فرهود وشرف، 1992م.
3. السيوطي ، أسرار ترتيب سور القرآن: عبد القادر
أحمد عطا، دار الاعتصام، (د.م)، 1978 .
4. ابن الزبير الغرناطي البرهان في ترتيب سور
القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت .
5. الواحدي النيسابوري أسباب النزول.
6. شهاب الدين الألوسي البغدادي، روح المعاني في
تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني.
7. السيوطي، تفسير الدر المنثور في التفسير المأثور.
8. سعد مصلوح، في النص الأدبي دراسة أسلوبية
إحصائية،.
9. المخللاتي، القول الوجيز في فواصل الكتاب العزيز.
10.
ابو حيان الأندلسي
الغرناطي، تفسير البحر المحيط.
11.
ابن عاشور،
تفسير التحرير والتنوير.
12.
العنود سمير
العتيبي , سورة النور والفرقان دراسة اسلوبية في خصائص المدني والمكي.
[1] خفاجي، فرهود وشرف، 1992م، ص 12
[2] ابن عاشور ، تفسير التحرير والتنوير ،
ج ، 18 ، ص : 313.
[3] المرجع السابق، ص : 313
[4] المرجع نفسه، ص : 314
[5] انظر : السيوطي ، أسرار ترتيب سور القرآن ت: عبد القادر أحمد عطا،
دار الاعتصام، (د.م)، 1978 ، ط: 2، ص: 119.
[6] المرجع نفسه، ص : 120.
[7] ابن الزبير الغرناطي البرهان في ترتيب سور القرآن، دار الكتب
العلمية، بيروت ، 2019 ، ص: 110.
[8] شهاب الدين الألوسي البغدادي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم
والسبع المثاني، ج18، ص: 230.
[9] ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج 18، ص: 314.
[10] شهاب الدين الألوسي البغدادي، روح
المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، ج18، ص: 234.
[11] انظر : السيوطي، الدر المنثور في
التفسير المأثور، ج 6، ص: 236
[12] الواحدي النيسابوري أسباب النزول، ص
332
[13] المرجع السابق، ص 333.
[14] انظر : ابن عاشور، تفسير التحرير
والتنوير، ج : 19، ص: 11، 12
[15] المرجع السابق، ص: 17، 18
[16] المرجع نفسه، ص 29
[17] المرجع نفسه، ص32
[18] المرجع نفسه، ص : 35
[20] السيوطي، تفسير الدر المنثور في
التفسير المأثور، ج من: 206
[21] شهاب الدين الألوسي البغدادي، روح
المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، -: 19، ص 39.
[22] لمرجع السابق، ج: 19، من41.
[23] السيوطي، تفسير الدر المنثور في
التفسير المأثور، ج 6، ص 209
[24] المرجع السابق، ص : 277
[25] المرجع نفسه، ص : 276 .
[26] سورة الزمر : الآية (53).
[27] السيوطي، تفسير الدر المنثور في
التفسير المأثور، ج 6، ص: 282
[28] د. سعد مصلوح، في النص الأدبي دراسة
أسلوبية إحصائية، ص:120.
[29] المخللاتي، القول الوجيز في فواصل
الكتاب العزيز، ص: 247.
[30] العنود
سمير العتيبي , سورة النور والفرقان دراسة اسلوبية في خصائص المدني والمكي ,143.
[31] العنود سمير العتيبي , سورة النور
والفرقان دراسة اسلوبية في خصائص المدني والمكي144
[32] المصدر نفسه,145
[33]المصدر نفسة,145
[34] العنود سمير العتيبي , سورة النور
والفرقان دراسة اسلوبية في خصائص المدني والمكي,158
[35] العنود سمير العتيبي , سورة النور
والفرقان دراسة اسلوبية في خصائص المدني والمكي158.
[36],المصدر نفسه,161.
[37] العنود سمير العتيبي , سورة النور
والفرقان دراسة اسلوبية في خصائص المدني والمكي,163.
[38] العنود سمير العتيبي , سورة النور
والفرقان دراسة اسلوبية في خصائص المدني والمكي,165.
[39] أبو حيان الأندلسي الغرناطي، تفسير
البحر المحيط، ج: ،6 ص: .
[40] بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج:
،18 ص: 31
[41] العنود سمير العتيبي , سورة النور
والفرقان دراسة اسلوبية في خصائص المدني والمكي,168
[42] المصدر نفسه , 167
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق