دكتورة أسماء محمد سعد تكتب: ماذا تعرف عن التبلد الصدمي؟

التبلد الصدمي هو حالة نفسية معقدة يمر بها الإنسان عندما يتعرض لصدمة نفسية قوية تفوق طاقته على التحمل فيدخل في حالة من الانفصال العاطفي والذهني عن الواقع المحيط به فلا يعود قادرا على التعبير عن مشاعره أو فهم ما يحيط به بشكل طبيعي وتبدأ هذه الحالة عادة كردة فعل فورية أو تدريجية على حادثة مفجعة أو تجربة قاسية مثل الفقد المفاجئ أو الحوادث أو الكوارث أو حتى الخيانة أو الصدمة العاطفية الشديدة
يبدو الشخص المصاب بالتبلد الصدمي وكأنه متواجد جسديا لكنه غائب ذهنيا لا يبدي أي ردود فعل واضحة لا يظهر حزنا ولا غضبا ولا فرحا وكأن مشاعره تعطلت بشكل كامل ويتحول إلى مراقب صامت لما يحدث من حوله دون أن يشارك فيه أو يتفاعل معه بشكل طبيعي وقد يصفه البعض بأنه بارد أو غير مبال لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير فهو في الواقع يعيش حالة من الشلل العاطفي
هذا التبلد لا يعني أن الشخص لا يشعر بل على العكس هو يشعر بألم كبير لكنه لا يستطيع التعبير عنه أو التعامل معه فيغلق عقله على نفسه ويمنع أي شعور من الخروج أو الدخول كنوع من الحماية النفسية المؤقتة من الانهيار الكامل وهذا ما يجعل من التبلد الصدمي آلية دفاعية يستخدمها العقل البشري للهروب من الألم الفائق
التبلد الصدمي قد يظهر بعد الصدمة مباشرة أو بعد أيام أو حتى أسابيع وفي بعض الحالات يستمر لفترة طويلة إذا لم تتم معالجته بشكل صحيح وقد يتطور إلى اضطرابات نفسية أكثر تعقيدا مثل الاكتئاب الحاد أو اضطراب ما بعد الصدمة أو حتى فقدان المعنى وفقدان الرغبة في الحياة
من أبرز أعراض التبلد الصدمي انعدام التفاعل العاطفي عدم الاهتمام بالأنشطة اليومية صعوبة في التركيز فقدان الشعور بالزمن أو المكان تغييرات مفاجئة في السلوك الانعزال الاجتماعي ضعف في الذاكرة الشعور بالفراغ الداخلي وقد يصاحب ذلك أعراض جسدية مثل الأرق أو الصداع أو فقدان الشهية
في بعض الأحيان قد لا يلاحظ المحيطون بالمصاب هذه الحالة بسهولة لأن التبلد الصدمي لا يظهر دائما بشكل درامي بل قد يكون صامتا خفيا يتغلغل في حياة الإنسان ببطء ويغير نظرته إلى العالم ويجعله يعيش بشكل آلي بلا مشاعر ولا دافع حقيقي مما يزيد من صعوبة اكتشافه وتشخيصه مبكرا
علاج التبلد الصدمي يتطلب فهما عميقا لحالة الشخص واستيعابا لحجم الألم الذي يعيشه ولا يمكن إجباره على الشعور أو التفاعل فذلك قد يزيد الطين بلة بل يجب منحه الوقت والدعم المناسب دون ضغط كما أن العلاج النفسي المتخصص يعتبر من أنجح الوسائل في التعامل مع هذه الحالة حيث يساعد المعالج الشخص على استعادة التواصل مع مشاعره وتفريغ الألم المكبوت داخله بطريقة آمنة وموجهة
أحيانا يكون التحدث عن التجربة الصادمة خطوة أولى نحو الشفاء حتى وإن كان ذلك صعبا جدا فمجرد الاعتراف بوجود ألم ومحاولة فهمه بدل الهروب منه قد يكون نقطة تحول مهمة في رحلة التعافي كما أن بعض الأنشطة مثل الكتابة أو الرسم أو ممارسة التأمل قد تساهم في تخفيف حدة التبلد وإعادة الاتصال بالذات
من المهم أيضا ألا يشعر الشخص المصاب بالذنب تجاه حالته أو يظن أنه ضعيف أو غير طبيعي فالتبلد الصدمي ليس دليلا على الضعف بل على أن الصدمة كانت فوق طاقة الإنسان وتحمله وأن ما يمر به هو استجابة نفسية دفاعية طبيعية تحدث للكثيرين ويجب تقبلها والعمل على معالجتها لا إنكارها
المجتمع يلعب دورا كبيرا في دعم المصاب سواء من الأسرة أو الأصدقاء أو الزملاء فكلمة طيبة أو احتضان أو صبر أو حتى مجرد وجود شخص يسمع بصمت يمكن أن يصنع فرقا كبيرا في حياة المصاب ويوصله إلى بر الأمان مع الوقت
لا يوجد جدول زمني محدد للخروج من التبلد الصدمي فكل شخص يختلف عن الآخر من حيث التجربة والقوة الداخلية وطبيعة الصدمة لذلك يجب احترام خصوصية كل حالة وعدم مقارنة مسارات التعافي بين الأشخاص لأن ذلك قد يزيد من شعور المصاب بالفشل أو العجز
الوقاية من التبلد الصدمي تكون أحيانا أصعب من علاجه لأن الإنسان لا يستطيع دائما توقع الصدمات أو منع حدوثها لكن يمكن بناء قدر من الصلابة النفسية من خلال تطوير المهارات العاطفية والتعبير عن المشاعر والتواصل مع الذات ومع الآخرين بشكل صحي مما يقلل من آثار الصدمات المحتملة
يبقى التبلد الصدمي واحدا من أكثر الحالات النفسية غموضا وألما لأنه يسلب الإنسان أعز ما يملك وهو القدرة على الشعور بالحياة ويجعل من كل شيء يبدو فارغا باهتا بلا لون أو معنى لذلك فإن فهمه والوعي به هو أول الطريق نحو تجاوزه وعودة الإنسان إلى نفسه وإلى الحياة التي تستحق أن تعاش بكل ما فيها من مشاعر وتجارب.
تعليقات