.post-outer {-webkit-touch-callout:none; -webkit-user-select:none; -khtml-user-select:none; -ms-user-select:none; -moz-user-select:none;}

بحث

آراء محمد أرکون في النص القرآني..بقلم د/سمر الموسوي

آراء محمد أرکون في النص القرآني

د/سمر آل محمد الموسوي

الملخص:

اهتم الباحثون على مر العصور بالنص القرآني ؛ تفسيرا وتأويلا، تحليلا

وقراءة، من حيث النظرية والتطبيق ، وتعددت مناهجهم في ذلك بتعدد خلفياتهم الثقافية والمعرفية، وتعدد زوايا الرؤية عندهم.

فكان من الباحثين المعاصرين من وضع الأسس النظرية الحديثة لتحليل الخطاب القرآني، ومنهم من طبق هذه المناهج الحديثة ؛ كعلوم اللسانيات والسيمائيات والمنهجية البنيوية على النص القرآني، بغرض الكشف عن البنية اللغوية لهذا النص وشبكة التوصيل المعنوية والدلالية التي ينبني عليها ، فنتج عن ذلك قراءات حديثة ومعاصرة للخطاب القرآني، مثل قراءة محمد أركون وقراءة الحاج حمد، وناصـــــر حامد أبوزيد وغيرهم.

فماهي هذه المناهج المعاصرة في تحليل الخطاب القرآني، ومـا هـي الإضافات الحقيقية التي قدمتها هذه القراءات المعاصرة من حيث المقاربات المنهجية، ومن حيث الكشوفات المعرفية ؟ وما هي الجهود النقدية الموجهة لها؟

هذا ما سأتناوله بالتحليل من خلال هذه المداخلة مركزة على قراءة محمد أركون.

 المقدمة:

في فترة الستينات، زاد الاحتكاك بين الشرق والغرب، وبسبب تردي الأوضاع في المجتمع الإسلامي من جهة، والتطوّر العلمي الغربي من جهة أخرى، برزت فئات من داخل البيئة الإسلامية انبهرت من التطوّر الغربي وما وصل إليه، ودعت إلى الإفادة من منجزاته، وكان مركز الاهتمام هو القرآن الكريم؛ لأنّه يمثل النّصّ الرئيس للأمة الإسلامية.

من بين تلك الفئات ظهرت شخصيات عربيّة حداثية دعت إلى القطيعة مع التراث، وسعت إلى تطبيق المناهج التي توصل إليها الغرب في فهم النصوص الدينية على مجمل الخطاب القرآني، وقامت بنقد الآليات التي وضعها المسلمون لفهم النّصّ القرآني، كأصول التفسير وقواعده، وعلوم القرآن، وغيرها، ودعت إلى ضرورة استبدالها بمناهج غربيّة بحجة أنَّ الأصول الإسلامية هي السبب في التخلّف الذي تعيشه الأمة.

إِنَّ الشخصيات الحداثية لم تدعُ إلى القطيعة مع التراث الإسلاميّ المُفَسِّر للنصّ الأوّل، بل دعت إلى العمل على النّص القرآني نفسه، وعلّلت سبب تلك الدعوى بأنّ النّصّ القرآني هو محور الحضارة الإسلامية،

فلا بد أن تتعدّد تفسيراته وتأويلاته، وأيضاً لا بدَّ من تنوّع الآليات المنهجية المتبعة في فهم نصوصه. إنَّ القول بإمكانية تعدّد التفسير والتأويل لآيات القرآن الكريم شجّع الحداثيين على محاولة تجديد آليات التفسير والتأويل من خلال محاولة تطبيق الآليات الغربيّة المُطبّقة على النصوص الدينية في الغرب، والتي - بحسب قول الحداثيين - ساعدت على الوصول لفهم متقدّم ومتطوّر لتلك النصوص.

من بين تلك المشاريع الحداثية برز مشروع الجزائري محمد أركون، إذ دعا بشكل واضح وصريح إلى ضرورة إخضاع النصّ القرآني للمناهج الغربية المعاصرة.

ويعد مشروع محمد أركون من المشاريع الحداثية؛ وذلك لأنَّه قام بتوظيف منجزات الحداثة الغربية في فهم النصوص الدينية، والإفادة من مناهجها، وآلياتها، وأدواتها في التحليل والتفسير والقراءة. إنَّ المتأمل في قراءة محمد أركون للنّصّ القرآني يجدها - كأيّ نسق معرفيّ - تحتوي على تضمينات أيدلوجية وأهداف تصبو إليها، وتستند على جملة من المرجعيات تستمد منها المقولات الأساسية والمنطلقات المعرفية، وتحوز أدوات وآليات توظفها في التفسير والتحليل، وكل ذلك يتم ضمن استراتيجية معرفية ترتكز على مناهج ونظريات.

وسيُسلّط البحث الضوء في مطلبه الأوّل على التعريف بمحمد أركون ومؤلّفاته، ويهدف المطلب الثاني من البحث إلى بيان الآليات التحليلية التي وظفها محمد أركون في فهمه للنّصّ القرآني، وتكفل المطلب الثالث بعرض نماذج تطبيقية لهذه الآليات التحليلية على سور القرآن الكريم، مع الإشارة إلى الأثر الاستشراقي في فهم محمد أركون لماهية النّصّ القرآني.

ويكتسب هذا الموضوع أهميته من مركزيّة المجال المعرفي الذي اشتغل محمد أركون وهو النص القرآني. ويقع البحث في أربعة مطالب، أولها: التعريف بمحمد أركون ومشروعه النقدي،

 وثانيها: بيان الآليات المنهجية عند أركون في فهمه للنص القرآني، وثالثها: نماذج تطبيقية لتحليل محمد أركون للنص القرآني وفق المناهج الحديثة وأثر الاستشراق في ذلك.[1]

التعريف بمحمد أركون ومشروعه النقدي:

ولد محمد أركون عام ۱۹۲۸م في أسرة فقيرة، بدأ بالدراسة الابتدائية وصولاً للجامعة في بلده الجزائر، ونال شهادة البكالوريوس من كلية الآداب في اللغة العربية، وفي عام ١٩٥٢م شدّ أركون الرحال للسوربون في باريس لمواصلة دراسته العليا، فدرس ودرس فيها وأصبح أستاذاً في عدة جامعات ومعاهد أوروبية إلى أن توفي عام ٢٠١٠م (1). وأثناء تواجده في فرنسا حضر دروساً في الفلسفة، وعلم الاجتماع، وقدّم أطروحته بعنوان (نزعة الألسنة في الفكر العربي جيل مسكوب هو التوحيدي)([2])

 مؤلفاته:

له عدة مؤلفات أبرزها: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، قضايا في نقد العقل الديني. مشروعه

قام أركون بتقديم مشروعه النقدي لإعادة قراءة النّصّ القرآني بالاعتماد على مناهج العلوم الإنسانية، وهو ما أسماه الإسلاميات التطبيقية، مع استثمار لبعض الأصول المنهجية التي طرحها فلاسفة الحداثة الغربية، والمستشرقين، وبعض الفرق الإسلامية كالمعتزلة. طبق محمد أركون المناهج الحديثة في فهم القرآن الكريم، واعتمد على مناهج متعدّدة، قسم منها يختص بعلوم الإنسان، وقسم آخر بدراسة الأديان، وقسم ثالث يختص بدراسة النصوص الدينية.

ويمكن أن نلخص مشروع محمد أركون في توجهين:

الأوّل: العمل على تأريخ النّص القرآني من جهة تكوينه وجمعه وتدوينه، والهدف من ذلك التشكيك في صحته، ونزع قداسته، ثم المطالبة بإعادة تشكيله وفق النتائج التي توصل إليها النقد الفيلولوجي واللسانيات الحديثة.

الثاني: إعادة قراءة القرآن الكريم وذلك بإخضاعه لمناهج العلوم الإنسانية الحديثة»

هذا التوجه المنهجي عند أركون نجده هدفاً أساسياً في مشروع المستشرقين عند دراستهم للقرآن الكريم. إنَّ مشروع المستشرقين يمكن أن نفهمه من خلال ما قاله المستشرق كلّود جيليو  «إن تطوّر الدراسات القرآنيّة بالغرب منذ منتصف القرن العشرين تحقق بفعل تأثير التقدّم الملحوظ في مجال الدراسات الإنجيلية ونظريات النقد الأدبي ويمكننا أن نميز بين توجهين رئيسين في هذه الدراسات:

الأول: يشتغل على تأريخ النّصّ القرآني من حيث تكوينه وجمعه وتدوينه.

الثاني: يهتم بإعادة فهم القرآن انطلاقاً من الوسائل التي توفّرها العلوم الإنسانية». ونلاحظ مما تقدّم التشابه الكبير الواضح بين هدفي المشروعين، على الرغم من محاولة أركون تجاوز المنهج الفيلولوجي للمستشرقين، من خلال نقد ما أسماه الإسلاميّات الكلاسيكيّة، وقدّم الإسلاميات التطبيقية كبديل لها.

فأركون استفاد أولاً من المنهج الفللوجي، ثم حاول تجاوزه بالاعتماد على مناهج العلوم الإنسانيّة. لقد تلقف أركون فكرة تطبيق منهج الفيلولوجيا على لفظة (كلالة) من المستشرق الأمريكي دافيد باورس. لقد صرّح أركون بذلك بقوله: «لقد فعلت كما فعل باورس، حيث عرضت عليه هذه الآية غير المشكلة على الناطقين بالعربية أي الذين يجيدون الإعراب والعربية ولم يقرؤوا هذه الآية فاكتشف الشيء المدهش الآتي: إنَّ أولئك الذين حفظوا القرآن عن ظهر قلب يتلون الآية كما التي قد اعتمدت بعد طول نقاش من قبل التفسير الكلاسيكي، ثم فرضت في المصحف الرسمي منذ الطبري على الأقل، ولكن أولئك الذين لا يحفظون عن ظهر قلب ويخضعون فقط للكفاءة القواعديّة واللغوية يختارون دائماً القراءات الأخرى» نجد أن أركون رجح القراءة الشاذة على المتواترة من خلال استعمال المنهج الفيلولوجي، وذهب أركون إلى ما ذهب إليه المستشرق باورس من تقديم القراءة الشاذة على المتواترة .([3])

الآليات المنهجيّة لفهم النّصّ القرآني عند محمد أركون:

 لقد حدّد أركون منذ البدء هدف مشروعه باستكشاف الآليات التي يتشكّل بها الخطاب القرآني حتى يمكن من خلالها فهم بنية النّصّ القرآني، ثم الدخول في المستوى التحليلي الدلالي.

ويجب التنبيه إلى أنّ «مشروع أركون لإعادة تفسير القرآن أو قراءته ظل يتراوح بين مختلف النظريات والمناهج فقد دعا إلى الأخذ بالبنيوية ثم انتقل إلى اللسانيات ثم السيمائيات ثم انتقل إلى علم الأناسة أو الأنثروبولوجيا، وأحياناً يدعو إلى النظر في القرآن اعتماداً على سديم من المناهج المتعدّدة» . وعلى الرغم من أن أركون قام بنقد المنهجية الاستشراقية في فهم الخطاب القرآني والتي تأخذ بالمنحى الفيلولوجي إلا أنّه لا يستغني عن هذا المنهج بحسب مقتضيات الفهم التي يتطلبها البحث، يقول في ذلك:

«فأمام مجمل عبارات الإيمان ونصوصه، فإنّ التحري الأولي الذي يفرض نفسه منهجيّاً وأبستمولوجيا. هو التحرّي التاريخي الذي يمزج بين الأداة الفيلولوجيّة والألسنية والنفسية والاجتماعية والسيمائية والانتولوجية السوسيولوجية والانثربولوجيّة لفهم النواة الصلبة للاعتقاد الإسلامي وتفكيكها من الداخل». وبحسب رأي أركون فبما أنّ الظاهرة القرآنية ظاهرة تاريخية فيجب إعادة قراءة النص القرآني وفق المنظور التاريخي .

في «بداية القرن التاسع عشر اهتم العلماء بدراسة أصل اللغة ونشأتها وكان لعلماء الأنثروبولوجيا وبخاصة أصحاب الاتجاه التاريخي والتطوّري السبق في ذلك بقصد التعرف على الأصول الأولى لكل الأشياء

وبخاصة اللغة، ولكن المدرسة البنيوية الفرنسية فتحت باباً جديداً للاهتمام باللغويات حين اعتبرت دراسة المدخل الأساسي الذي يمكن أن تقوم عليه نظرياتها الأنثروبولوجية والأدبية والفلسفية». إِنَّ اللغة عند أركون عبارة عن بنيات مستقرة ومتغيرة في نفس الوقت، حيث أنها في تركيبها وصياغاتها تتعلّق بالفكر، من حيث هو جملة أفكار تفرزه، ويفرزها تشكّله، ويشكّلها كما تتعلّق بالعقل الذي أبدع هذه اللغة وتطوّر في كنفها والمفروض أن تتطوّر في كنفه أيضاً». فالهدف جعل النَّص القرآني نصاً لغوياً لا يختلف عن النصوص البشرية، وتتم معاملته وفق المناهج والآليات الحديثة. من هذين النصين المتقدمين يمكن أن نقول إنَّ أركون ارتكز على آليتين أو منهجين أساسيين، هما: المنهج الألسنيّ السيميائي والمنهج التاريخي الأنثروبولوجي، وبيانهما الآتي:

١. مناهج اللسانيات والسيمائيات: تُعرّف اللسانيات بأنّها علم يدرس: «اللغة الإنسانية دراسة علميّة تقوم على الوصف ومعاينة الواقع بعيداً عن النزعات التعليمية والأحكام المعياريّة». ويمكن القول: إنَّ اللسانيات في المحصلة نتائج ونظريات تمثل بمجموعها أدوات بحث وآليات تحليل).

يقول أركون: «لقد شرعت في تطبيق إشكاليات ومناهج اللسانيات والسيمائيات لتحليل الخطاب القرآني منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي»  إذ قام بتطبيقهما على سورتي الفاتحة والكهف. يهدف أركون من توظيف السيمائية والألسنيّة إلى فهم اللحظة اللغوية التي تبلور فيها النّصّ القرآني. يقول أركون: إنّي أحاول أن أرى كيف يشتغل النّصّ القرآني وكيف يولّد المعنى. وسبب اختياره للتحليل السيميائي لأنّه يقدّم لنا فرصة ذهبيّة لكي نمارس تدريباً منهجيّاً ممتازاً يهدف إلى فهم كل المستويات التي تشكّل المعنى أو يتولّد من خلالها.[4]

 فهو يستعين بالسيمائية لكشف هدفين:

أولاً: تاريخية اللغة القرآنية.

ثانياً: إظهار الكيفية التي يمكن الحصول على المعنى الجديد من خلالها. فأركون يعتقد أنه وفق المقاربة السيمائية يمكن العودة إلى الأصول التي تشكّل من خلالها الخطاب القرآني، وكذلك يمكن فهم مكوناته وعباراته بصورة حديثة معاصرة تتجاوز النمط القديم، ويتم ذلك بالمزاوجة بين السيمائية والألسنية، إذ يقوم فهم النّص وتأويله على الأطر الألسنية التي تشمل «علم السيمائيات، وعلم المعاني، وعلم الدلالات ... وكلّها علوم متقاربة ومتداخلة، ويصعب التمييز بينها أحياناً»  وعلّل أركون سبب اختياره للتحليل الألسني كنقطة انطلاق لفهم النص القرآني؛ بأنّه يمثل مرحلة منهجيّة مهمة قبل القيام بأي تفسير أو تأويل للنص، وتكمن أهميتها «إنّ هذه المنهجية تذكر بالمشروطية اللغوية للنص، بما في ذلك نص الوحي، فهو مكتوب بلغة بشريّة معيّنة وخاضع لإكراهاتها النحوية والصرفية واللفظية والبلاغيّة كما أنّه خاضع للإكراهات السوسيولوجية والثقافية للبيئة التي ظهر فيها»  نجد أنّ الألسنية لها أهمية كبرى عند أركون، لأنه إذا أراد أن يتقن قراءة أي نص وجب عليه تفكيكه ألسنيّاً لكي يعرف كيفية تشكّله.[5]

ويمكن أن نقول: إنَّ الدراسة السيمائية الألسنيّة تنظر للنص القرآني كنص لغوي متكوّن من جمل وكلمات بعيداً عن القداسة، وهو ما أراده أركون عند تطبيقه لهما.

٢. منهج النقد التاريخي والأنثروبولوجي

عبر أركون عن تبنيه للمنج التاريخي في أكثر من مناسبة، وطبّق هذا المنهج لأول مرة في الغرب، إذ قام الغربيّون بتطبيقه على النصوص المسيحية.

إِنَّ المطالعة في كتب الحداثيين تبيّن لنا مرادهم من منهج النقد التاريخي، يقول أحد الحداثيين: «فحينما يُقال النقد التاريخي يُراد به عادة خمسة ضروب من النقد: نقد الوثيقة التاريخية التي بين أيدينا، والنقد الأدبي لهذه الوثيقة التاريخية، ونقد المضامين المدرجة في النّصّ التاريخي، ونقد ذلك النّص شكليّاً، ونقد المؤلّف أو نقد مبدع النص»

فالخطوة الاولى لأصحاب هذا المنهج هو البحث عن درجة اعتبار هذا الكتاب المراد تطبيق هذا المنهج عليه، وإلى أي قرنٍ ينتمي هذا الكتاب؟

وثاني تلك الخطوات هي البحث عن مصدر محتويات الكتاب ومدى صحة نقلها.

وثالث تلك الخطوات البحث عن صحة المضامين والأفكار الواردة في الكتاب.

ورابع خطوة هي نقد الأسلوب، والخطوة الأخيرة هي نقد مؤلّف الكتاب، إذ لا يمكن فهم النّصّ دون معرفة صاحبه وهذه الخطوات - بحسب نظر الحداثيين - هي منهج فهم لأي نص، وكانت بمثابة أصول لفهم لنصوص الكتاب المقدس في الغرب .

وعندما يتحدّث أركون عن النقد التاريخي فهو لا يستبعد النّصوص الدينية بل يعتبرها الأولى بالنقد؛ لأنَّ القرآن حادثة تاريخية يجب أن تفهم بحسب تسلسها الزمني ، فهو يوظف التأريخ كآلية لفهم النَّص القرآني، حتى أصبحت التاريخية أساساً لفهم النّصّ القرآني عند أركون وغيره من الحداثيين، وتترتب عنها أسس أخرى.

إنَّ التاريخية أصبحت منطلقاً لربط البحث في فهم النّصّ القرآني بتأريخ الأديان وعلم الاجتماع والتحليل النفسي والأنثروبولوجيا الدينية.

تكمن أهمية هذا المنهج عند أركون لأنَّ النقد التاريخي للنص القرآني يحاول إعادة قصة تشكل القرآن ومن ثم فهو يُعتبر المنهج الأخطر والأكثر حساسية في مجال فهم النّصّ القرآني

يؤكّد أركون على أنَّ المنهجيّة الأنثروبولوجية لا تهتم بالوقائع والأسماء والأحداث التي تحصل في وضح النهار، وإنّما تهتم بالجوانب الغامضة والمخفيّة من التأريخ المقارن للأديان، والثقافات والحضارات، إنّها تهتم بالوظائف الرمزية وعمليات الإبداع المجازي، والأسطرة، والمخاتلة والأدلجة، والتقديس والتعالي. إنَّ النقد التاريخي في مفهوم أركون لا يُسلّم بأي معطى ديني سابق على النّصّ يُفهم النَّصَّ من خلاله، وإنّما يتّضح النّصّ ويُفهم من خلال إخضاعه لحركة التأريخ والاجتماع، فالواقع سابق على النص، والنص خاضع لهذا الواقع، ويعتقد أركون أنَّ النقد التاريخي هو الكفيل بإخراج النصوص من السياقات الأيديولوجية التي سجنت النّص وحبسته في القراءة الأحادية. إضافة لما تقدّم نجد أنَّ أركون وظّف مجموعة مفاهيم لزحزحة القناعات مثل: مفهوم الأسطورة، إنتاج المعنى، وغيرها من المفاهيم التي يرى أركون ضرورة إدخالها وتوظيفها كآليات قرائية، خاصة أنها صارت متداولة في مجال العلوم الإنسانية».[6]

وعلى أية حال، نجد أركون يبيّن أولوية المناهج التي وظفها في فهم النّصّ القرآني، يقول في هذا الصدد: «إنَّ التحليل الألسني – اللغوي - له مرتبة الأولوية وخاصة عندما يتعلّق الأمر بالنصوص القديمة بعدئذٍ يجيء دور التحليل التاريخي والاجتماعي والأنثروبولوجي لإضاءة النّص والكشف عن مشروطيته التاريخية.

ويمكن أن نلخص خطوات أركون التحليلية للنصّ القرآني في عدة مستويات

الأول: التحليل اللغوي الألسني والسيميائي، وهما يبحثان عن المعاني اللغوية وغير اللغوية. ب: التحليل التاريخي، إذ يساهم في تحديد منشأ الحقيقة ورابطها. الثالث: التحليل الاجتماعي: لأنه انعكاس لما يجري من صراعات داخل الجماعات. الرابع: التحليل الأنثروبولوجي: لأنّه يدخل في مقارنة الثقافات البشرية بعضها ببعض.

الثاني: الخامس: التحليل الفلسفي: لأنّه يبحث عن علاقة الحقيقة بالكائن الماورائي للذات البشرية. السادس: التحليل اللاهوتي التأويلي: لأنّ فيه محاربة لكل انغلاق على اليقينيات الثابتة، وكل أنواع التبجيل. ويعتقد أركون أنَّ من الضروري أن تأتي القراءة التأويلية بعد القراءات السابقة ويجب أن تستند إلى نتائجهما .

 الجانب التطبيقي عند أركون:

ألقى محمد أركون مداخلة في ملتقى الفكر الإسلامي الثاني عشر في مدينة باتنة تحت عنوان: "مفهوم العلم في القرآن والتفكير المعاصر" فاستهلها بقوله تعالى:"و قالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك مـن علم إن هم إلا يظنون "الجاثية"، ثم طرح سؤالا مفاده ما الفرق بين مفهوم العلــم ووظائفه في القرآن ثم في التفكير الحديث؟

ثم يمهد للجواب حول السؤال فيقول: "لقد كثرت الكتب والمقالات والمحاضرات والأقاويل التي تلح على إبراز فضائل القرآن وتسعى لتأييد صحة الآية المشهورة "و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو و يعلم ما في البر و البحر و مــا تسقط من ورقة إلا يعلمها و لا حبة في ظلمات الأرض و لا رطب و لا يابس إلا في كتاب مبين "الأنعام 59، والقائمون بهذا العمل يدعون أن جميع ما اهتدى إليه العلماء المحدثون من الاكتشافات والنظريات التعليلية للواقع قد صرح به القرآن، فمــــا كـــان على هؤلاء العلماء إلا أن يكرروا أو يقلدوا ما عرفه المسلمون قبل غيرهم ..وقد تعدد المسلمون المؤيدون لهذا الاتجاه التمجيدي والتنزيهي.. إني لا أريد أن أجادل هؤلاء في ممارستهم لعلم التاريخ وتلاعبهم بقواعد اللسانيات ومبادئ الفلسفة وانثروبولوجية

الأديان، بل إني أعترف لهذا التيار الأدبي القوي عند المسلمين بأهمية نفسانية فائقة. إلا أن هذه الوظيفة النفسانية الهامة تعدل في نفس الوقت بعقول النـاس عــن الاجتهاد العقلي المجرد والمنتج، ونحن نعلم أن العقل لا يوفق إلى نتائج علمية سليمة إلا إذا تحرر من الاهتزازات الوجدانية والتصورات الذاتية ، وهذا دعوة منه إلى الموضوعية المطلقة وهذا ما لا يمكنه أن يتحقق في نظري خاصة إذا تعلق الأمر بالأصول والثوابت والعقائد.

واعترافا منه بوعورة الطريق إذا تعلق الأمر بالبحث في القرآن قال : "ولا أريد أيضا أن آتي بنظرية جديدة وحل نهائي في موضوع متشعب بعيد المنال إنما أريد أن أقترح بعض الملاحظات في المنهاج الذي لابد أن نتقيد به إذا أردنا أن نحترم القرآن ومقصودة الألسني من جهة، والتفكير الحديث ومقتضياته النظرية والعملية من جهة أخرى.

وبعد هذه المقتطفات عن الجوانب النظرية، وتطبيقا لنظريته تلك جاء بمثـــال

عن مفهوم العلم في القرآن الكريم

فقال : " سننطلق من حقيقة إحصائية قد أبرزها المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وإذا جمعنا ما ورد من الألفاظ المشتقة من الأصل "عليم" نجد أنها تبلغ 750 وهو عدد يسترعي النظر إذ الفعل "قال" مثلا وهو من أكثر الألفاظ الواردة في اللغة العربية قد ورد 1700 مرة ، واسمه تعالى (الله) ورد 2696 مرة ، أما الألفاظ المشتقة من الأصل (عرف) فإنها تبلغ 68 . ومنها اسم المفعول (المعروف) الذي ورد 38 مرة

ثم قال : وقبل أن نواصل هذا البحث الإحصائي لمفهوم العلم في القرآن،[7]

يجدر بنا أن نقيد الملاحظات التالية:

1 - من الألفاظ المشتقة من علم ، نجد أن الوزن "عليم" وهو من أسماء الله الحسنى قد ورد 140مرة، واسم التفضيل "أعلم الدال على أنه تعالى أعلم بكل شيء قد ورد 49 مرة ، والاسم نفسه أي "العلم" قد ورد 80 مرة ؛ أغلبها تحيل إلى علمــــه تعالى، ثم إن الأفعال في الماضي والمضارع وردت 388 مرة، وفاعل تلك الأفعال أغلب الأحيان هو "الله تعالى".

2 - في كل الألفاظ المشتقة من عرف مرتبطة نحويا بالإنسان، ونستبين من هذه الظاهرة النحوية أن الألفاظ المشتقة من "عرف" تدل على عملية فكرية خاصة بمرتبة

الإنسان، بينما العلم يدل على عملية متفاوتة الدرجات، بل على حقيقة إلهية لا يدركها الإنسان، كما سيتضح لنا ذلك فيما يلي:

3- ويؤكد هذا الفرق في الوظيفة النحوية فرق واضح أيضا في الدلالة، فإن العلم يحيل إلى عالم من الحقائق هو عالم الغيوب، يؤتي تعالى منها من يشاء أجزاء ضئيلة متفرقة، وكأنه نور فجاج تنزل منه أشعة حتى تبلغ عباد الله الصالحين عـــن طريق الرسل والأنبياء

ويمكن أن نستشهد على ذلك بآيات عديدة منها:

الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات و الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بأيديهم و ما خلفهم و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات و الأرض و لا يؤده حفظهما و هو العلي العظيم" البقرة 255 .

- نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلَّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ" يوسف (76).

وهناك فرق بين العلم بالله، أي ما يدركه الإنسان من الحقيقة الإلهية، وعلم الله المجموع في اللوح المحفوظ والكتاب السماوي الذي نزلت منه آيات مقيدة فــــي كتبنا الأرضية. والقرآن يتكلم عن علم الله لا عن العلم بالله أي العلوم المختلفة والطرق العقلية التي سيبدعها من بعد العلماء المسلمون . ولذلك لم ترد في القرآن صيغة الجمع "العلوم"، ونجد ربطا معنويا متينا بين " العلم من جهة والكتاب والوحي والتنزيل والإيمان من جهة أخرى .

أما الأفعال عرف يعرف ؛ فإنما تدل على إدراك بالحواس لأشياء وشيم وأشخاص وأخبار... منحصرة في نطاق الخبرة الإنسانية والإنسان يستند فيما يعرفه على مــا سمع وتلقى ورأى ولمس واختبر ، وتشهد على هذا المعنى الآيات: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ "محمد (30)

تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ" المطففين (24). "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم و إن فريقا منهم ليكتمون الحق و هم يعلمون" البقرة/146.

4- وعلى هذا فيمكننا أن نقول إن العلم قد يحتوي على عناصر مما عرفه الإنسان - بالمعنى القرآني - إلا أن مصدره أعلى من مصادر ما يعرف ومضمونه[8]

نقد المناهج الحديثة في تحليل القرآن و نقد منهج محمد أركون: سعت القراءة الحداثية العربية للنص القرآني إلى تحقيق قطيعة معرفية مع القراءات الإسلامية التراثية التي تعمل على ترسيخ الإيمان والاعتقاد واستبداله بترسيخ التشكيك والانتقاد ، ومن أشهر القراءات النقدية الحداثية قراءة محمد أركون وأتباعه مع التونسيين مثل عبد المجيد الشرفي ويوسف صديق وكذلك قراءة نصــــر حامد أبو زيد وطيب تزيني، ويدخل في هذا الباب قراءة حسن حنفي التأويلية بشكل أقل حدة، واتبعت هذه القراءات في سبيل تحقيق مشروعها الحداثي النقدي مجموعــــة من الخطط تهدف إلى رفع العوائق الاعتقادية من أبرزها خطة أنسنة القرآن الكــريم والتي تهدف إلى رفع عائق القداسة عن النص القرآني عن طريق التعامل مع الآيات القرآنية باعتبارها وضعا بشريا ، وقد عبر عن ذلك عبد المجيد الشرفي بنزع الميثية عن النص الديني بمحاولة أنسنته بعلمنة القراءة وانتهجت هذه القراءة الحداثية عمليات خاصة، كحذف عبارات التعظيم المتداولة إسلاميا واستبدال المصطلحات المقررة تاريخيا بمصطلحات جديدة كاستبدال مصطلح نزول القرآن بالواقعة القرآنية والقرآن الكريم بالمدونة الكبرى والآية بالعبارة والاستشهاد بالكلام الإلهي والكلام

الإنساني على نفس الرتبة في الاستدلال والتفريق بين مستويات مختلفة في الخطاب الإلهي كالتفريق بين الوحي والتنزيل، والقرآن والمصحف، والشفوي والمكتوب، وفي هذا السياق يقول محمد أركون " وكنت قد بينت في عدد من الدراسات السابقة أن مفهوم الخطاب النبوي يطلق على النصوص المجموعة في كتـب العهد القديم والأناجيل والقرآن كمفهوم يشير إلى البنية اللغوية والسيمائية للنصوص، لا إلـــى تعريفات وتأويلات لاهوتية عقائدية "، ويؤكد هذا المعنى أبو زيد بقوله: "إن القـــول بإلهية النصوص والإصرار على طبيعتها الإلهية تلك يستلزم أن البشر عاجزون بمناهجهم عن فهمها ما لم تتدخل العناية الإلهية بوهب البشر طاقات خاصة تمكنهم من الفهم

وكان من نتائج التطبيق المنهجي لخطة أللسنة القرآن جعل القرآن نصــا لغويا لا يختلف عن النصوص البشرية ، وترتب على هذه المماثلة اللغوية بين النص القرآني والنصوص البشرية اعتبار النص القرآني مجرد نص أنتج وفق المقتضيات الثقافية التي تنتمي إليها اللغة لا يمكن أن يفهم أو يفسر إلا بالرجوع إلى المجــال الثقافي الذي أنتجه، كما شدد على ذلك نصر حامد أبو زيد بقوله: " إن النصوص الدينية ليست في التحليل الأخير سوى نصوص لغوية، بمعنى أنها تنتمي إلــى بنيـــة ثقافية محددة تم إنتاجها طبقا لقوانين تلك الثقافة التي تعد اللغة نظامها الدلالي المركزي "، ومن نتائج القراءة الحداثية جعل القرآن إشكاليا بحيث يصبح النص مجملا ينفتح على احتمالات متعددة وتأويلات غير متناهية فالطيب تيزيني يـــرى "أن الوضعيات الاجتماعية المشخصة في المجتمع العربي بما انطوت عليه من سمات ومطالب اجتماعية اقتصادية وسياسية وثقافية الخ، هي التي تدخلت في عملية خلخلة النص القرآني وتشظيه وتوزعه بنيويا ووظيفيا في اتجاهات طبقية وفئوية وأقواميــــة إثنية متعددة، وأتى ذلك على نحو ظهر فيه هذا النص معاداً بناؤه وفق قراءات متعددة محتمله تعدد تلك الاتجاهات وحواملها المجسدة بالوضعيات المذكورة إياها "، ومن النتائج المترتبة على القراءة الحداثية فصل النص القرآني عن مصدره الإلهي وربطه بالقارئ الإنساني، واعتباره نصا غير مكتمل كما يؤكد ذلك تيزيني بقوله " فإننا في الاختراق الحالي نواجه المسألة من حيث مسألة حول " تمامية المتن القرآني " وكما هو بين فإن إجماعا على هذه التمامية يغدو والحال كذلك أمرا خارج المصداقية التاريخية التوثيقية" . ومن الاستراتيجيات المتبعة في القراءة الحداثية العربية خطة عقلنة هي النص القرآني والتي تهدف إلى رفع عائق الغيبية، وبحسب هذه القراءة فإن العائق الأكبر يتمثل في اعتقاد أن القرآن وحي جاء من عالم الغيب، ولذلك لا بد من التعامل مع الآيات القرآنية طبقا للمنهجيات والنظريات الحديثة كما يرى أركون، ومن العمليات المتبعة في سبيل تحقيق خطة عقلنة النص القرآني اعتبار علوم القرآن التي اتبعها علماء المسلمين تشكل وسائط معرفية متحجرة تمنع من التواصل مع القرآني وتعيق أسباب النظر العقلي، من هنا كان لا بد من نقل مناهج علوم الأديان المتبعة في تحليل ونقد التوراة والأناجيل وتطبيقها على النص القرآني، والتوسل بالمناهج المعتمدة في علوم الإنسان والمجتمع .

وأضاف بعضهم لا يخلو منهج معرفي أيا كانت طبيعته، من تضمينات أيديولوجية ومقاصد معرفية، يصبو إلى بلوغها، سواء توافقت مع العــــرف المعرفــــي السائد أم تعارضت ؛ والمنهج يستند فيما يستند إلى مرجعية أساسية ومرجعيات تابعة، يستمد منها مقولاته الأساسية ومنطلقاته المبدئية وغاياته النهائية، ثم هو – أي المنهج يحوز على أدوات يوظفها في التحليل والتفسير والقراءة، وتناول جميع القضايا مـــــن خلال المنطلقات ومحاكمتها من خلال الغايات. وهذا كله يتم ضمن استراتيجية معرفية شاملة، تستبطن ولاءات أيديولوجية، وتحيزات نظرية لا يقدر أي عالم على الانفكاك وتترجم تلك التحيزات في صورة نظريات، ترتكز إلى مناهج، تسعى إلــى مآلات محددة، تنتهي إلى أغراض كلية، سواء كانت ؛ تاريخية، أم سياسية، أم معرفية، والأرجح أن جميع المناهج تنتهي إلى أغراض معرفية وأيديولوجية في أساسها.[9]

ظاهرها من تلك المناهج، المنهج المعرفي التفكيكي الذي أرسى دعائمـــه محمــد أركون، تقليدا ، بقصد التعامل مع الموروث الإسلامي، والفكر والعقل الإسلاميين، بشكل تفكيكي تقويضي، يهدف إلى تأسيس عقل استطلاعي منبثق حديثا، ينتهي إلــــى زعزعة المنظومة المعرفية التوحيدية الكامنة وراء تلك التجليات الجزئية، التي برزت في صورة اجتهادات في شتى حقول المعرفة ( كلامية، أصولية، فقهية...). يسعى أركون من خلال مشروعه المعرفي التفكيكي، إلى بناء نمط معرفي جديد فيما يعتقد ، يتجاوز المرجعية الإسلامية التاريخية والمتمثلة في القرآن، وذلك بادعاء بشريته أي القرآن - ؛ إذ هو يميز في القرآن بين ما يسميه الخطاب النبــوي،

وبين الكلام الإلهي، هذا الأخير -حسبه- تكلم به الإله في الأزل ولا يقدر أي خطــاب بشري على احتوائه وبالتالي يترجم النبي الموحى إليه المعاني المستقرة في نفسه، بخطاب إنساني متلبس بمقتضيات الزمان الذي قيل فيه الخطاب، ومن هنا لا يمكن رفع القرآن إلى مستوى الكلام الإلهي، لأنه مجرد خطاب نبوي، تلفظ به النبي محمد بما يتوافق ومستواه اللغوي ومقدرته البيانية، وإذن فالقرآن ليس إلهي المصدر فـــي أحكامه، إذ أن هذه الأخيرة لا ترتفع عن كونها وعيا بشريا إنسانيا،

لغته، ولا في استوعبه النبي محمد بما يناسب ويوافق المرحلة التاريخية التي وجد فيها، ومن هنا لا جدوى من القول بأزلية الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان. فالقرآن مرجعية المسلمين جميعا، غير أن أركون يعده الهيا، والنسخة المدونة الموجودة بين أيدينا اليوم -حسبه- ما هي إلا صورة مؤقتة نسبية مغلقة للمعنى الإلهي الأزلي المطلق أو ما فوق المطلق، المستوعب لامتدادات التاريخ وتقلبات الأيام. زيادة إلى أن القرآن الحالي، نسخة أرثوذكسية فرضتها فئة من الصحابة على جميع المسلمين في جميــع التاريخ، مع أن هناك مصاحف أخرى ونماذج أخرى للقرآن، تم الاستغناء عنها، بدعوى الإقصاء السياسي الذي أحدثته قريش لبقية القبائل، واستئثارها بالخلافة، في مقابل القبائل الأخرى، بإبعاد لغاتها وقراءاتها، وتبني لغة قريش على أنها لغــة الله (سبحانه) . واللغة المشار إليها، تُعقد باستمرار عمليات التحليل والتفكيك، لاتصالها بسياق دلالي ولغوي تاريخي مضى وانقضى، والتعامل مع القرآن في إطار تلك اللغة يستدعي تجاوبا تقديسيا، يعمي العقل ويغشيه بحكم الهالة التعظيمية التي يحاط بها الخطاب النبوي - القرآن ، وهذا ما أعجز العلماء بالإسلام عن تكوين نظرية قرآنية، تمكن من دراسة القرآن وتبين معانيه عكس الوارد عند علماء اللاهوت في فكــر الآخر، يهودية ومسيحيه ، لذا لا مندوحة من تخليص أساليب تناول الخطاب النبوي من هيمنة اللغة العتيقة ومن سيطرة تناول علماء اللاهوت والأصوليين الإسلاميين، وإحلال الأسلوب الحديث في تناول القرآن والاستفادة من تطورات العلوم الحديثة، التي يجب إقحامها عنوة بالمعنى المعرفي - للتمكن من تفكيك الخطاب القرآني (النبوي) لإدراك التلاعبات الحاصلة داخله من زحزحة بعض الفئات المُخاطبة، والتركيز على أخرى، وهذا كله عمل أيديولوجي، ينتهي إلى هدر السياق الإلهي للقرآن الكريم، مــن حيــث المصدر الإلهي، ومتكأه في ذلك المجهود الذي قامت به المعتزلـة قـديما، مع أن الموجبات النظرية والتاريخية للفكرة تختلف تماما، زيادة إلى إسقاط الجدوى المعرفية لجهود علماء اللغة والأصول والكلام المسلمين، وتفضيل مقابلهم الغربي عليهم، وهذا إظهار للولاء الأيديولوجي المفضوح، لفكر الآخر والذوبان فيه، والقصد الأيديولوجي من ذلك تجريد القرآن والفكر الإسلامي، من أرضية منهجية ومعرفية متينة، تــم تطويرها عبر قرون طويلة، انتهت إلى صياغة منهجيات معرفية متعاضدة، يقوي بعضها البعض الآخر، ليخلو المجال للانقضاض على القرآن والإجهاز عليه. ثم إن دعوى أرثوذكسية النسخة القرآنية، يفيد الإلماح إلى عتاقة المبنــى والمعنى القرآنيين، وكون الوعي الإنساني متجاوزا في آفاقه ومقدرته الإبداعية لمستوى البيان القرآني، ودوره في بناء الفهم البشري، وفي هذا أيضا، إعلاء للبشري التاريخي على الإلهي الغيبي.[10]

ينتهي لدينا مما سبق، أن الاستراتيجية الأيديولوجية لمحمد أركون، تتأسس على هدر الطابع الإلهي للقرآن والتأكيد على بشريته تمهيدا لنكرانه، زيـــادة إلــــى التزهيد في المقدرة المعرفية للقرآن في توليد الوعي وصناعة الفكر وبناء العقل، ثــم العمل على ربط الوحدات النصية، هكذا يسميها، الآيات القرآنية بلازمات زمانية وربما ظرفية مكانية في مضمونها وملفوظها ، وهذا أيضا لإسقاط الطابع المتجاوز للأحكام، كمدخل لرفض الشريعة، وتعويضها بالاجتهاد الوضعي.

أضف إلى الإكبار المبالغ فيه لمناهج الغرب المعرفية، التي أبدعتها عقــول متأسسة على وعي آخر، وإدراجها في تناول القرآن، بكيفيات غير صالحة، لكــــون منبتها، خطابات إنسانية أدبية وعلمية وفنية، ولمغايرتها للطابع الإلهي للبيان القرآني، إضافة إلى الزهد في مبدعات العقل الإسلامي، والإصرار على ضحالتها وضعفها، وهكذا ...

والمطلوب من المفكر والمثقف والمتعلم والعالم المسلم العمل نظريــا علــى تفويت الفرصة معرفيا، على أمثال هؤلاء، والإلحاح على فرادة القرآن، واستعصاءه على المناهج الحديثة للفكر الغربي، وأن في الفكر وعلم الأصول الإسلاميين، ما يغني ثقافة الأمة ويثريها ويحررها وإن كان من الضروري الاستفادة من فكر الآخر، لا مفر من عرض ذلك على مناهج الفكر الإسلامي المعرفية والأصولية، حتى تتم عملية الغربلة والتنقية من المضامين الأيديولوجية المباينة للطابع التوحيدي للرؤية الوجودية الكونية الإسلامية، حتى ينتفع بها.

ولعل الأمر - في نظري - يندرج ضمن قواعد العولمة التي صبغت كل شيء بما في

ذلك الذهن البشري...

جاء على لسان إحدى الباحثات دفاعا عن الفكر الأركوني من خلال كتابه القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني:" يعرض محمد أركون فــــي كتابه "القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني" رؤية جديدة في التعامل مع الوحي على أساس ما توصلت إليه العلوم الإنسانية من عقلانية ومنهجية وفهـم عميق، وهو يعتبر أن دراسة معمقة لظاهرة الوحي يمكن أن تستخدم وسيلة فعالة لتنشيط الفكر الإسلامي وجعله فكرا نقديا...

هناك نظام معتزلي، حنبلي، حنفي، إمامي، إسماعيلي، سني، صوفي، فلسفي، تاريخي، قصصي، علماني، أصولي ماركسي فرويدي، بنيوي، كاثوليكي، تلمودي، بوذي للحقيقة، والعولمة كمرحلة تاريخية جديدة من مراحل الفكر تفتح لأول مرة المجال من أجل المقارنة بين أنظمة الحقيقة بحجة أنه إلهي منزل وغيره بشــــري زائل أو دنيوي عرضي، غير أن جميع التراثيات الدينية سوف تخضع لمنهجية النقد التاريخي والحفر الأيكولوجي في الأعماق، وإذا كان هناك نظام للحقيقة يستحق الاستثناء فسيجبر لا محالة على أن يجدد بيانه وبراهينه وتأصيله بحسب ما تقتضيه عولمة الذهن البشري وما يصاحب ذلك من المعرفة الكونية العالمية".

إن المقاربات العقلانية للنص القرآني التي يقوم بهــا أركون تجرده في الواقع، من سمة القداسة، وتجعل منه مادة تنقيب واستكشاف مفتوحة على مختلف المناهج بما فيه المناهج ذات المنزع المادي فربط أركون لمبدأ الإعجاز بالحس الأسطوري، وبالذهنية البدوية هو تحوير لحقيقة يقرها الخطاب القرآني( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)

المصادر والمراجع:

(1) ظ: أبي نادر، نايلة التراث والمنهج بين أركون والجابري، ٤٥١ - ٤٥٦. وظ: هاليبر، رون، العقل الإسلامي أمام تراث عصر الأنوار في الغرب، ص ٦٣. (مقابلة مع محمد أركون).

(2) ظ: أبي نادر، نايلة، التراث والمنهج بين أركون والجابري، ص ٤٥٦.

(3) ظ: أحمد فاضل ،السعدي، ، القراءة الأركونية للقرآن دراسة نقدية، ص٤٦-٤٧.

(4) نجدي، النص في القرآن بين تأويل القدامى والمحدثين دراسة تحليلية اطروحة دكتوراه، إشراف: محمد عباس، (جامعة أبي بكر بلقايد / كلية الآداب واللغات)، (٢٠١٤م)، ص٤٣٤.

(5) مستشرق فرنسي معاصر، ولد عام ١٩٤٠م، كانت رسالتيه للماجستير والدكتوراه عن تفسير الطبري، وأشرف على عدد من طلبة الدراسات العليا في فرنسا والعالم الإسلامي، وتفرّغ للدراسات القرآنية (ظ) موقع ملتقى أهل التفسير عبد الرزاق هرماس / http://vb.tafsir.net/tafsir).

(6) جيليو، كلود، مبحث الدراسات المعاصرة النشرة الفرنسية، ص٥٤٧.

(7) أركون، محمد، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، ص٣٦.

(8) ظ: علي، عمر زهير، القراءة الحداثية المعاصرة للقرآن الكريم وأثر الاستشراق فيها، ص ١٩٠-١٩٣

(9) علواش، محمد، مناهج تحليل الخطاب القرآني في الفكر العربي المعاصر، ص١٤١-١٤٢.

(10) ، محمد، أركون ،الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص۳۳۳.

(11) ظ: أركون . محمد، الفكر الإسلامي، قراءة علمية، ص۷۱.

(12) بن عاشوراء، صليحة، الخطاب القرآني والمناهج الحديثة في تحليله دراسة نقدية، بحث مقدّم إلى الملتقى الدولي الثالث

في تحليل الخطاب، مجلة الأثر، ص۲۲۳.

(13) ، أحمد، قدور،مبادئ اللسانيات العامة، جامعة حلب، (سوريا – ٢٠٠٦م)، ص ١٥.

(15) للاطلاع على تأريخ اللسانيات ومناهجها ومدارسها ومستوياتها التحليلية، ظ: الشرابي وليد محمد، الألسنية مفهومها، مبانيها المعرفية، ومدارسها المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، الطبعة الأولى، (العراق – ٢٠١٩م).

(16) القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص ٥. (۱۷) ظ: المصدر نفسه، ص۱۰.

(18) محمد، أركون القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص٦.

(19) مجموعة مؤلفين محمد أركون دراسة النظريات ونقدها، ص۳۰۹.

(20)مجموعة مؤلفين، محمد أركون دراسة النظريات ونقدها، ص٣٦.

(21) ظ: أركون، محمد، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص (٢٢) الأندلسي، محمد، قراءات في مشروع محمد أركون الفكري، ص ١١٥.

(22) ظ: أركون، محمد، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص۲۳۱.

(23) شبستري، محمد مجتهد، الهرمنيوطيقا الكتاب والسنة، ترجمة: حيدر نجف مركز دراسات فلسفة الدين، الطبعة الأولى،

(بغداد – ٢٠١٣م)، ص ١٤٩.

(24):ظ: خنوس، نور الدين، الخلفية الاستشراقية لمنهج النقد التاريخي للنص الديني عند محمد أركون، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، (العدد ۲۱) الجزائر - ٢٠١٥، ص ١٥٦.

 


[1] أبي نادر، نايلة التراث والمنهج بين أركون والجابري، ٤٥١ - ٤٥٦. وظ: هاليبر، رون، العقل الإسلامي أمام تراث عصر الأنوار في الغرب، ص ٦٣. (مقابلة مع محمد أركون).

[2] أحمد فاضل ،السعدي، ، القراءة الأركونية للقرآن دراسة نقدية، ص٤٦-٤٧.

 

[3] ) نجدي، النص في القرآن بين تأويل القدامى والمحدثين دراسة تحليلية اطروحة دكتوراه، إشراف: محمد عباس، (جامعة أبي بكر بلقايد / كلية الآداب واللغات)، (٢٠١٤م)، ص٤٣٤.

 

[4] محمد، أركون ،الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص۳۳۳.

 

[5] : المصدر نفسه، ص۲۲۹.

[6] أحمد، قدور، مبادئ اللسانيات العامة، جامعة حلب، (سوريا – ٢٠٠٦م)، ص ١٥.  

[7] علي، عمر زهير، القراءة الحداثية المعاصرة للقرآن الكريم وأثر الاستشراق فيها، ص ١٩٠-١٩٣

 

[8] محمد، أركون القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص٦.

[9] المصدر السابق نفسه، ص۲۲۹

[10]: مجموعة مؤلفين محمد أركون دراسة النظريات ونقدها، ص۳۰۹

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق