.post-outer {-webkit-touch-callout:none; -webkit-user-select:none; -khtml-user-select:none; -ms-user-select:none; -moz-user-select:none;}

بحث

دراسة أسطورية لقصائد الشاعر عبد الكريم كاصد الأهوار الجنة الضائعة..طالبة الدكتوراة سمر آل محمد الموسوي



                                               وزارة العلوم والبحوث والتكنولوجيا

جامعة فردوسي مشهد کلیة الآداب والعلوم الإنسانية لدکتور علي شریعتي

 

دراسة اسطورية لقصائد الشاعر عبد الكريم گاصد  الاهوار الجنة الضائعة

 

 الأستاذة المشرفة الدكتورة المحترمة

د. بهار صديقي

الطالبة:

سمر آل محمد الموسوي

تاريخ

٢٠٢٣م-١٤٤٥هـ

 المقدمة :

كثيراً ما ننجذب للحكايات الأسطورية والخرافية، ونتحلق حول ساردها الكبير قبل الصغير للسماع والاستمتاع، ولمّا كان هذا النوع الأدبي فنٌّ وجب تقويمه؛ ظهر النقد الأسطوري الذي انصرف لنقد المتون النصيّة التي اختص اهتمامها بهذه الموضوعات، وكثيراً ما يلجأ الكاتب لهذه المتون لأسباب سياسية و دينية و ثقافية[1].

أما النقد الأسطوري هو النقد الذي “يقوم على استقراء الظواهر الأسطورية داخل النصوص الإبداعية، ثم تَتَبُّع مصادر هذه الأساطير الموظفة ثم يصنفها تصنيفاً نوعياً ثم يحدد طرائق التوظيف الأسطوري في النصوص الإبداعية موضوع الدراسة للوقوف على تجلياتها داخل العمل الأدبي، ومدى احتفاظها بخصائصها كشخصية، أو حادثة أو موقف أسطوريا، من خلال احتفاظها بالحد الأدنى للخصائص الجوهرية، ومدى تحولها داخل العمل الأدبي”[2].

 

نبذة عن الشاعر عبد الكريم گاصد

تشكل تجربة عبد الكريم گاصد، الشعرية خصوصاً والثقافية عموماً، واحدة من التجارب العربية الجديرة بالاهتمام. وبالنسبة لجيلنا من شعراء الوقت الحالي ، فقد مثّل ديوانه "الاهوار الجنة الضائعة" (صدر عن دار "لندن للطباعة والنشر" في المملكة المتحدة  ) علامة بارزة في الشعر العربيّ الجديد. أتوقف عند ذلك الديوان الذي كان ضمن  هذه المسارات يرسم الشاعر "رؤيته" للشّعر وللوجود كلّه، للحياة والإنسان والحيوان، للمُدن والطّرق، وللأزمنة والأمكنة التي تتداخل لتصنع عالم النصّ/الذي يمثل القصيدة، بل عوالمَها المشغولة بمهارة وحنكة عاليتَين. وفي هذا الإطار يرى گاصد "وظيفة" الشّاعر، الذي هو، على نقيض العالم جميعًا من المُوظَّفين، ليس موظَّفاً عند أحد سوى الشّعر، لكنّه على خلاف الموظّفين جميعاً يظلُّ يعمل بلا نهاية، ففي قصيدته "مديح" (بمناسبة اليوم العالمي للشعر)، يرى الشاعر أنّ “الجميع يتقاعدون/ إلاّ الشاعرُ".[3]

وقد كان له قبل هذا الديوان دواوين عديده ، مثل ديوانه "وردة البيكاجي"، ليتبعه الكثير من الدواوين والانشغالات في القصة وأدب الرحلة والترجمة، عن الإنجليزية والفرنسيّة، ما جعل "مكتبة نتاجاته" عامرة بعشرات الكتب تأليفاً وترجمة، شعراً ونثراً، وصولاً إلى تجربته الشعريّة

١- الحقائب الطبعة الأولى 1975 دار العودة- بيروت، الطبعة الثانية 1976 دار الأديب- بغداد،الطبعة الثالثة 2011 دار تموز- دمشق

2-النقر على أبواب الطفولة الطبعة الأولى 1978 مطبعة شفيق- بغداد

3-الشاهدة الطبعة الأولى 1981 دار الفارابي- بيروت

4- وردة البيكاجي الطبعة الأولى 1983 دار العلم – دمشق

5- نزهة الآلام الطبعة الأولى 1991 دار صحارى- دمشق

6- سراباد الطبعة الأولى 1997 دار الكنوز الأدبية – بيروت

7- دقّات لا يبلغها الضوء الطبعة الأولى 1998 دار الكنوز الأدبية- بيروت

8- قفا نبكِ الطبعة الأولى 2002 دار الأهالي- دمشق، الطبعة الثانية 2003 دار الأهالي- دمشق

9- زهريات الطبعة الأولى 2005 دار الكندي-الأردن

10- ولائم الحداد الطبعة الأولى 2008 دار النهضة العربية- بيروت

11- الديوان المغربيّ الطبعة الأولى 2009 دار الحرف- المغرب

12- الفصول ليست أربعة الطبعة الأولى 2009 اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين- البصرة

13- هجاء الحجر الطبعة الأولى 2011 مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، القاهرة

14-حذام الطبعة الأولى2011 دار تموز- دمشق

 أحلام مكسورة بطريق العودة إلى "الجنة الضائعة".. الأهوار العراقية والشغف بأرض الأجداد

صفحات كتاب "الأهوار.. الجنة الضائعة" ليست مقصورة على الشعر فحسب، بل تقدم توليفة مغايرة في أدب الرحلة، بلغة جميلة تفيض شاعرية وتجوالا[4].

يأخذ الشاعر والمترجم العراقي المقيم في المملكة المتحدة، عبد الكريم گاصد، قارئ كتابه الأحدث "الأهوار.. الجنة الضائعة"، في رحلة شعرية وتدوينية شائقة يعرّفه فيها بمنطقة الأهوار المغمورة بالماء في جنوب العراق، بجمالها وطبيعتها وناسها وهمومها وقد نال منها الوحل والإهمال الحكومي على حد سواء.

صدر كتاب گاصد حديثا عن دار لندن للطباعة والنشر في لندن، محتويا على مقدمة و6 فصول هي: زيارة أولى، باتجاه "الهوير"، هور الحويزة، ديوان الأهوار، ويضم ما يقرب من 30 قصيدة، والفصل الخامس "الحنين يزور ثانية" كتبه زياد ابن الشاعر عبد الكريم گاصد الذي ترجمه عن الإنجليزية[5].

أما الفصل السادس فقد قدم "لمحة عن الأهوار" كما عاش يومياتها ودوّنها الرحالة البريطاني "ويلفرد ثسيجر"، بترجمة گاصد أيضا. وثمة 12 صورة ملونة توثق ملامح ووجوها من الأهوار، بعدسة زياد عبد الكريم إحداها تصدرت غلاف الكتاب[6].

يبدأ الكتاب بمقدمة ثم مشاهد من رحلات قام بها عبد الكريم گاصد إلى الأهوار بدأت في السبعينيات، ثم استؤنفت في المدة الأخيرة، تحديدا في عام 2016، ثم 2017، وآخرها في 2018.

كتب الشاعر والناثر عبد الكريم گاصد مقدمة شافية ووافية لهذا الكتاب المتنوّع في ثيماته وموضوعاته الأدبية الشائقة. وسنعرف من خلال المقدمة بأنّ الراوية قد قام بزيارة للأهوار في سبعينات القرن الماضي، ووقف عند حدودها، ولم يتوغل إلى أعماقها الساحرة بسبب غزارة الأمطار التي هطلت آنذاك. كما قام في سنة 2015 بزيارة مماثلة لـ “الجنة الضائعة” كما يصفها الكاتب نفسه لكنه لم يشهد منها إلاّ حوافّها التي تشي بامتداداتها الهائلة إلى ما وراء خطّ البصر. أمّا الزيارات الرئيسية الثلاث فهي تبدأ تباعًا سنة 2016وتنتهي سنة 2018 حيث يقترح الفنان والمخرج السينمائي خالد خزعل أن يجري مقابلة مُصوّره مع عبد الكريم گاصد بوصفه رحّالة هذه المرة، وإن كانت الرحلة داخلية ضمن حدود الوطن الذي لم نتمعّن بتفاصيله جيدًا، وأن يحكي فيها عن انطباعته المباشرة وهو يتوغل في عمق الأهوار، ويشمُّ رائحة مائها وقصبها وبرديّها، فكان له ما أراد، وهذا هو أول ثمار هذه الرحلة الاستكشافية التي تفجّر في نفس الشاعر وروحه منابع الحنين إلى المضارب الأولى التي لا تبعد كثيرًا عن مسقط رأسه وملاعب لهوه وطفولته. وفي الزيارة الثانية التي حدثت سنة 2017 سوف يرافقه خمسة فنانين مبدعين وهم: خالد خزعل وحامد سعيد، وطيف عبد الكريم وأُسامة، وولده زياد الذي سيُسهم، هو الآخر، في تأليف هذا الكتاب بمقالة معمّقة، وعددًا من الصور الفوتوغرافية المُبهرة التي التقطها بعينه الثالثة التي تكشف عن حسّه الفني المُرهَف. أمّا الزيارة الثالثة والأخيرة التي قام بها الراوية حتى الآن فقد حدثت سنة 2018 وفيها تفتحت روحه “كشجرة في ذلك الأفق الأزرق المُخضّر”[7].

 قصائد كتاب الاهوار الجنة الضائعة

تتمثل قصائد مؤلف الشاعر عبد الكريم كاصد بالعديد من المجالات فهو شاعر يرسم صورة الشاعر، ومن بين الملامح البارزة في المجموعة، كما في تجربة كاصد عمومًا، الاحتفاء بأسلوب الحوار والسّرد، والقصّ، وكثيرًا ما يبدأ القصيدة بالفعل،  ثمة الكثير ليقال عن هذه المجموعة المدهشة، لكنها تحتاج إلى دراسات وليس مجرد قراءة "صحافية" كهذه، كانت مهمّتها إلقاء الضَّوء على بعض عوالم الشاعر، وملامح من ديوانه هذا لا الديوان كلّه[8].

وعلى سبيل التنويع المختلف، والتمثّل بنصوص عربية وعالمية، ثمة تنويع على الجملة الشائعة من قصيدة  الشهيرة وإلى كثرة وغزارة حضور الأمكنة، القرى والمدن والمقاهي والقطارات والمحطات، عراقية وعربية وعالمية، فثمة حضور بارز للطرق، وفي صور مختلفة ومتعددة، واقعية ومتخيّلة، ويحضر التاريخ كذلك في هواجسه وأسئلته الجوهرية، نقرأ فيها تاريخُ الإنسان الحيوان الأشباح إذا شئت و يختصر الشاعر الكثير من تلك المعالم التي تحدثنا عنها في هذا المقطع "المحطة القادمةُ، القريةُ البعيدة، المزرعةُ التي تلُوحُ في الأفق، السّحابةُ التي تمرّ، الشمسُ تحتجبُ وتسفرُ ضاحكةً، المرأةُ تلوّحُ بعباءتها، الرجلُ يلوّحُ بعباءتِهِ، السكّةُ تلمعُ في الضَّوء، الشجرةُ الوحيدة الخضراء، كغابةٍ، وهي تلمسنا بأغصانها مباركةً.".

الأسطورة في هذه الأبيات لا تنطوي على مفهوم محدد، نتيجة لإرتباطها بعلوم و مناهج عديدة، فهي مرة قصة مقدسة تروي أحداث حضارات سابقة، ومرة تحكي محتويات وأفكار فلسفية ومرة تكون طقوسا تحكي بطولات آلهة أو أنصاف آلهة يتواجد فيها الإنسان ويكون مكملا لها. مما جعلها تقرأ عدة قراءات تتخام المناهج المتعددة للدراسات الأسطورية. و هي أنواع كمنها: أسطورة التكوين، الأسطورة الطقوسية، الأسطورة التعليلية، أساطير الآلهة، الأساطير البطولية والأسطورة الرمزية.

1.     أسطورة التكوين

2.     الأسطورة الطقوسية

3.     الأسطورة التعليلية

4.     أساطير الآلهة

5.     الأساطير البطولية

6.     الأسطورة الرمزية

 

اسطورة التكوين

فقصة الخلق السومرية كان مطلعها الغمر المائي، الذي یرسخ فكرة المیلاد المائي. وهذه الفكرة كانت هي سمة الفكر الأسطوري للعدید من الحضارات "ففكرة المیلاد المائي تتكرر فیما بعد في الأساطير البابلية التي تحكي عن ولادة الكون من المیاه الأولى ((تعامة)) المقابلة لـ((نمو)) السومریة. وفي الأسطورة السومرية نجد ((یم)) المیاه الأولى، وقد انتصر علیه الإله بعل وشرع بعد انتصاره بتنظيم العالم.

إن المیثولوجیا السومریة تتوقف بشكل مطول عند فعالیات الآلهة في مطالع التاریخ في الأزمان المیثولوجیة التي تلت الزمن الكوزموغوني، وقیامها بتنظیم شؤون العالم والمجتمع الإنساني"(5).

هذا، ولم یهتم صانعو قصص الخلق الأولى بتقدیم الدلائل والب ارهین على ما جاء فیها بل همهم الأكبر هو خلق توازن بین العقل والروح لتقویة العقائد في النفوس.

في قصيدة “القصب هو الأصل” على مفردة القصب وينسج منها نصُا شعريًا عذبًا ينتمي إلى تقنية “السهل الممتنع” الذي يمكنك أن تفهمهُ كلمة القصب  متعلقة ومستخدمة في النصوص الأسطورية ولكنك لا تستطيع أن تجاريه أو تأتي بمثله، فالقصب الذي يكتب عنه صاحب ديوان “الأهوار”  هو “القصب النائح في الليل، والسائر فوق الماء على قدمين”. وفي المقطع الثاني يهيمن السواد على كل شيء، الجنود، والبدو، والنجوم ومن حق الشاعر أن يسأل الربّ بانكسار ممضّ عن الجهة التي تقيم له العزاء. ويختم القصيدة بإنليل، الإله السومري الذي يتحكّم بالرياح والعواصف[9].

يسعى الشاعر لأن يحقق وجوده الخاص المميز، الذي يعتمد أساساً على مادته، والتحكم بتطوير أدواته المحكمة، واختيار الكلمة ذات الجرس الحساس، الذي يشع بإحكام الكلمة المتنادهة صوتياً، والمتفاعلة عبر تداعيات موسيقاها. ولهذا فالذائقة الفنية عند كل شاعر تختلف باختلاف خصائصها اللغوية، ورنين بنائها، وإيقاع تعابيرها.

والتي تتشكل في ثلاثة بناءات:

  ان جملة القصب هو الاصل تعطي الاصالة الاسطورية للقصب فالقصب في تلك المكان كانت الدنيا  والقصب دليل الجنه حيث ان النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم عند تزوجه صلى الله عليه وآله بخديجة رضي الله عنها وبسبب وفضائلها وبعض أحواله المفيد، عن ابن قولويه، عن أبيه، عن سعد، عن ابن عيسى، عن العباس بن عامر، عن أبان، عن بريد، عن الصادق عليه السلام قال [10]: لما توفيت خديجة رضي الله عنها جعلت فاطمة عليها السلام تلوذ برسول الله صلى الله عليه وآله وتدور حوله، وتقول: أبه [11]أين أمي؟ قال:

فنزل جبرئيل عليه السلام فقال له: ربك يأمرك أن تقرء فاطمة السلام وتقول لها: إن أمك في بيت من قصب كعابه من ذهب، وعمده ياقوت أحمر، بين آسية ومريم بنت عمران، فقالت فاطمة عليها السلام: إن الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام [12]. وهذا يدل ان فقدان الاهوار وقصبها كانه فقدان احد صفات الجنه

ويستمر الشاعر في بنائه للقصيدة

من هذا السائر فوق الماء علاقة قدمين

 هنا يسأل ويجيب إنه القصب ان الاجابة كانت باسلوب  جملة اسمية اي جمله تخبرنا عن معناها
 
يقول الرب كما وان اخبار الرب بذلك سدل على ايقاع الفعل بذلك كونها  جملة فعلية
 
وهذه النار القادمة

 ترى أين تخبئها

 ترى أين تخبئها أين تخبئها أيها الرب

 في القصب القصب

 يقول الرب

 وهذه البناءات تشكل تحسساً سمعيّاً بسروح تفاعلها الصوتي القائم أساساً على دور المخيلة وفضائها اللا محدود، في مستوى الوعي الانفعالي في جمالية النص ومدى انعكاسه على القارئ. عندما ترتكز ولادته على وحي المحسوس التخيلي الشعري، فالشعر توهج خيالي غير منظور يصل المتلقي عبر دفعات نهداته الذاتية والتخيلية، كجزء من ملامسة الشاعر لتلك الحالة، وتداعياته التي تتجذر في القصيدة. إذن فالشاعر هو مشروع حضاري لعصره، كونه يشكل محور التلاقي الفني والمعرفي بآن على مجمل الثقافات الفكرية والاكاديمية والإبداعية الاخرى، إذ يؤكد صلة التيار الأدبي والفكري الأنموذجي بالتراث والمجتمع. وقد اجتهد الجيل الستيني متأثراً تأثراً كبيراً بفكرة الحداثة، بعد أن أسس لها جيل الرواد، بعد أن أسس لها جيل الرواد، فاجتهدوا في فك قيود القصيدة العمودية وتحريرها من هيكلتها الصارمة، إلى فضاء واسع يطلق للقصيدة حريتها في البناء بشكليها الداخلي والخارجي، بمعنى خلق الجديد الحداثي أو عصرنة التغيير، كون هذا الجيل تتلمذ بصدق وإخلاص وبعمق على الثقافة الغربية، وقد لاح عند الكثير من شعراء هذا الجيل تأثرهم: ببودلير.. دانتي.. والت ويتمان.. عزرا باوند.. اراغون..  ت.أس. اليوت.. ورامبو وآخرين،

الاسطورة الطقوسيه

 في ابيات قصائد الشاعر نلاحظ  القراءة التفسيرية للأسطورة، وهي القراءة التي تقول إن الأساطير تتأصّل في محاولات شرح أصول الظواهر الطبيعية وأسبابها. إذا صحّت هذه القراءة التفسيريّة، فإنها تجعل الأسطورة أقدم من الطقوس أو مستقلة عنها، وهو ما يقول به إدوارد بورنت تايلور. لكن هيمان يقول إن الناس إنما يستعملون الأسطورة لأسباب تفسيريّة بعد أن تستقرّ، أي باختصار: لا تنشأ الأساطير لتكون شروحًا للظواهر الطبيعية. بل تنشأ الأسطورة في رأي هيمان من أداء الشعائر. من ثَمّ فإن الطقوس تأتي قبل الأسطورة، وتعتمد عليها الأسطورة في وجودها حتّى تجمع مكانةً مستقلّة بوصفها قصّة تفسيريّة. وهذا دليل انفتاح المثقف العربي على الثقافة الاوربية، وقد بيّنَ " البيان الشعري " الذي أطلقه الشاعر العراقي الكبير فاضل العزاوي، وناقشه الشاعر عبدالكريم كاصد بموسوعة فكرية أجاد في تحليل مضامين البيان ورفده بمعلومات قيّمة مفيدة ومهمة، مؤكدا تبيان تأثير الشعر الاوروبي المعاصر والواضح على الشاعر العربي. ولم يكن هذا الجيل جيلا مجددا للفن فحسب، بل كان جيلا ممهداً للثورة ومتأثراً بها، ضد الدكتاتوريات التي نشأت في تلك الحقبة من خلال سعة إبداعه الثقافي[13].

 ويكمل الشاعر

الجنود بأحذية سوداء

 الماء يعني التوكيد تجفيف المياه

 لما أين البدو يسيرون بأرضية سوداء

 النجوم تطلب وجه بوجوه سوداء

 النجوم تطل بوجه بوجوه سوداء النجوم ترمز للمعان لكن هناك ليست ثياب سوداء الحزن العميق والألم من يقيم العزاء لي أيها الرب

فقد اهتم الشاعر بالبناء المحكم لتمثيل الواجهة الاسطورية ، وتباين اللفظ الذي يؤلف تطابق المعنى في المقومات الذاتية للنص، والعناية بخاصية الصفات التي تطابقت بين القصيدتين فأحكمت تفاضل المعاني، وليس في تكوين نسخٍ شائهة، لأن الشاعر هنا إذا لم يوفق في إحكام المضمون، يكون قد أخرجه من البيان، وهذا فساد للنص، ولكن الشاعر كاصد أجدر في التأمل الاسطوري الذي بنيت على أساسه  في ثبوت هذا الأصل ابتدأ المعنى يأخذ سريانه الشعري إلى السمع التحليلي ، وهو الترتيب في أسلوب معلوم يجعل من إحكام الشاعرية من حيث تصاعد أنغامها مبنية على تفاعل مبتدأ جلالية المعنى، والحصول على صور ناجحة عبر تلاحق البناء التفاعلي، في أخيولة توازن زمانية عذبة وسائغة، تتفق في تلاقٍ للرؤيا المجسدة لهرمونية الصورة،

 أما الأختلاف في طبيعة ولادة النصين ونضج الشهوة المكانية في التشكيلين فهو تابع لطبيعة فلسفة وموهبة وزمنية الشاعرين، وتنوع وسعة تفاعلات النضوج الذاتي في الخيال الإبداعي. " وفي ثبوت هذا الأصل ما تَعْلم به أن المعنى الذي له كانت هذه الكلم بيتَ شعرٍ أو فصلَ خطابٍ، هو ترتيبها على طريقة معلومة، وحصولها على صورة من التأليف مخصوصة. وهذا الحُكمُ، أعني الاختصاص في الترتيب، يقع في الألفاظ مرتَّباً على المعاني المرتَّبَة في النفس، المنتظمة فيها على قضيّة العقل. ولا يتّصوّر في الألفاظ وُجُبُ تقديمٍ وتأخير، وتخصّصٍ في ترتيب وتنزيل، وعلى ذلك وضعت المراتب والمنازل في الجمل المركبَّة، وأقسام الكلام المدوَّنة، فقيل: من حق هذا أن يسبق ذلك، ومن حق ما ههنا أن يقع هناك". على هذا فإنك تجد نصاً مقبولاً إذا تشكّلَ على أساس حسن الملاءمة في توازن بنائه وسلامة معناه، مما يتبين للمحصل هو إن الاشتراك في التأمل كما ينبغي أن يفاضل الصور الشعرية بين شاعرين كل منهما هو جزء من زمن مختلف في كل شئ، يؤدي إلى اختلاف حتمي، لكن الطاقة الفنية التوصيلية عند الشاعر عبدالكريم كاصد هي سبب الاستدعاء في مؤثرات التباين والتجانس بفارق الأسلوب بين الشاعرين، مع اختلاف البناء الخارجي وهو اختلاف منهجي في طبيعة التطور الزمكاني، لأنه يخضع لفنية تقطيع وموسقة الإيقاع الظاهر في نهاية البيت الشعري في قديمه "القافية: وفي الحداثة الخروج عن ذلك المألوف القانوني الصارم، ولننظر هنا في هذا التجلي المهيمن في تماسكة النغمي الداخلي

وفي ختام قصيدته يختمها بالاله الاسطوري

 انليل

 السماء وتلتصق بالأرض

 الثانية

 الليل

 أنا أختنق التكرار أحد العتبات النصية

 هنا صراحة بالجو الأسطوري   تمتاز هذه المقاطع على قدرة عالية على الايحاء، بانطباعات مفتوحة على النظم التقنية، وأعني هنا تقنية الاقتباس لتحويل المقطع الى عالم اسطوري مستوحى من الالهه من مصدرها، وجعلها مركزة على نحو ثري صممه الذهن اللماح الذكي، في ملامسة عاطفية تكابدها الروح ويقاسيها الوجد[14].

الاسطورة التعليلية

الأساطير التعليلية  تهدف إلى تفسير الظواهر الطبيعية. فالسكان في الاهوار  القدماء مثلاً كانوا يعتقدون بأن أحد آلهتهم  انليل الذي كان يقود الجاموس  ـ هو الذي كان يصنع الرعد والبرق عندما كان يقذف بمطرقة في وجوه الأعداء وقد اعتقد السومريون  القدماء بما يشبه هذا التعليل.ونستطيع بدراستنا للأساطير أن نعرف كيف اجاب الشاعر عن الأسئلة الأساسية المتعلقة بالعالم ومكان الفرد فيه. ونحن ندرس الأساطير لنعرف كيف أن شعبًا من الشعوب طَوَّر نظامًا اجتماعيًا معينًا بعاداته المختلفة وطرق حياته المتعددة.وهذه الصور المتلاحقة الأطياف في نغميتها جعلت الشاعر وهو يراها في خياله عارية فأهابه روع حسنها، أما سر النفس وما توحيه من إنفعالات عبر النظر المحتار في ما يرى ويشعر، والكشف عن هيامه الحاضر الملغى،

·        جواميس

الجواميس تهبط فوق ظهور الجواميس أين ترى سوف تمضين بي يا جواميس  اي القادة الذطن يقودون شعبة وقومه أي أبناء بلده

و آلهتي السلام اللي معك أيتها الآلهة مع بيت كبير يغضب الآلهة

أين البشر هنا يشير إلى الأهوار التي أصبحت امثلة يشير إلى تحطيم الأهوار

 الجواميس السوداء

 هنا مزيد للحياة

والجواميس بيضاء

.

.

.

في هذا الكوخ النائي

كم ابدو منك  قريبا يا الله

وقد تحضر أي انعكاسات لون القصب عليها فتصبح حاضرة الجواميس آه أيوه وسط الإيجار أزهار البردي على ظهر الجاموس يقف الآن طائر مش حوف برد يا خضر

لحظة صفا الإنسان مع نفسه اي بعيد عن التلوث لان كل ما حوله يذكره بالنعم الالهية المقدسةفي

 قصيدته الثانية “جواميس” على هذه الكائنات المتماهية مع أهوار الجنوب نقتبس منها:”الجواميس / سوداء / بيضاء . . .   وقد تخضرُّ  / حين أقترب منها قليلاً . . ./ الجواميسُ عائمة /  وسط الأزهار / . . . على ظهر جاموسة / يقف الآن طائر”. يستعيد الشاعر أجواء محددة من “ملحمة كَلكَامش” حيث يحضر آنكي، إله الحكمة ويأمر كوخ القصب أن يهدم بيته ويبني قاربًا، فيفعل، ولم يبنِ القارب، ويظل يتساءل: ”متى أبنِ القاربَ يا آنكي؟”. ولو أيقنّا بأنّ الشاعر، كما الفنان التشكيلي، “يرى ما لا يراه الآخرون” فإنّ الراوية سينتبه إلى أشياء كثيرة قد لا تخطر ببال الناس العاديين مثل تصويره لهدوء الجواميس التي تخوض في المياه ولم يظهر منها سوى مناخيرها المفتوحة وقرونها المعقوفة، ولم يروَ عن غضبها أو سقوطها في دائرة الهيجان إلاّ مرة واحدة كما يشير كَافن يونغ في “العودة إلى الأهوار” حيث رأى جاموسة “أخذت تضرب الأرض بحوافرها احتجاجًا، ما أثار مخاوفه ولم يتم التخلّص من غضبها هذا إلاّ بطردها بعيدًا بالزجر”، ويصف هذه الحادثة بالاستثنائية في ذلك المحيط الهادئ.

نتوقف  عند مدلول تجانس الجملة الشعرية وأختها، فينبسط أمامنا معنى الحس الدلالي التجاذبي في المعنى، حسب قواعد اللغة التي تميل بنا إلى هزة نفسية محببة في النص، وحسن اللفظ، وحلاوته في التصاعد الإيقاعي المرن، عبر موسيقاه الداخلية التي تظهر علانية من خلال إيحاء بوحه التواتري، كاشفةً عن المعنى الحسي، الذي يجمع إرهاص الوعي الوجداني في جودة معانيه، وبين الشاعر وتكوين الأنثى سُكينة، وهذه القصيدة تمثل العاطفة الصادقة، التي وجدناها تجمع بين رقص مشاعر الكلمات، وبوحها المعلن، وهو أي الشاعر في هذه الحالة الانسجامية المتصاعدة في فضائه التخيلي المطلق، يكون على وعي منسجم تماماً مع التداعي النفسي الخاص، الذي يعلن عن ولادة تبوح بالصورة الشعرية، عبر إيحائه الذي ألّمَ به بتأثير سُكينة، وطبعها الأنثوي الجذاب المميز بين البشر. والصورة التي ينقلها لنا الشاعر في هذه القصيدة، هي حقيقة موجودة ولها واقعها الملموس والمنظور، وليس خيالاً عابراً في رؤى الشاعر، بل هي وجود مادي ألقى بمؤثراته الجمالية الواقعية على الشاعر، فأثار إحساسه الإبداعي وفجر ينابيعه النقية، ذات اللغة المموسقة في تجلياتها الموحية في رقصها الفني، الذي استطاع بنجاح بالغ الاهمية، توصيل طبيعة سكينة وتشكيلاتها الروحية والجمالية، وانتمائها البيئي إلى القارئ[15].

في هذا الكوخ النائي كم أبدو منك قريبا يا الله لحظة صفاء الإنسان معه نفسه أي عبد بعيدا عن التلوث لأنه كل ما حوله اذكره النظم الإلهية المقدسة للتعريف للتوكيد قصب لدلالة على كثرته ولم يخصص نوعه القصيدة الأولى مقدمة للثانية والثالثة الأطفال يسيرون على الماء واحد يقف على اليابسة عنده مهاجرة إلى الخارج أي فقدت هذه الحب والأهل دلالة سلبية أرض وزرقاء انظر سمائها القصب تصوير فني ونعم صورة مقلوبة وراء القصب آلهة تصغي أقول تلك السمكة التي تمر أنا ما أكل الذي يحن أنا بالغربة وأحن للوطن وإنت ميلك أي عنصر المياه للماء الطائرة السابح في الهواء صورة معكوسة هنا استيعاب للفضاء المتسع السماء والأرض المتحدة اي تلغونها جميل الطريق الذي حذرت أي الطريق خطر لا تذهب كم يبدو جميلة في الليل كيف بناء عوارض ينضح ني إشارة إلى رجال الأمن إذن الذين يلاحق وهم المشاحيف قارب وظل يأمر وأشباحه بالنزول أطفال يقترضون من الضفة لم يصلوا في طالب الحين بعد جديه يحش قصاب في إطار به السومري أيتها الريح عصبة انا احمليني جاهزين اي اي بين محملين بالقصب ثوم ريوني الحد يرون على صفحات السماء عن الماء النبتة التي حسبتها أرضا تهتز عند وصول القارب يعني القادم أصوات أصوات تحملها الريح بعيدا في الليل[16]

 اساطير الإلهية

شكلت أساطير الآلهة في بلاد الرافدين نبعاً غزيراً للإبداع الفني والأدبي الذي انتشر في كل بقاع العالم وترك تأثيرات واسعة على الأساطير والإبداعات الإنسانية، وكانت هدفاً للدارسين والباحثين على اختلاف انتماءاتهم.ولعل الشاعر عبد الكريم كاصد بموضوعه الخلود في الأساطير وجمع المعلومات عنها الانتباه إلى مجمع الآلهة في الديانة القديمة والذي لعب دوراً هاماً معروفاً في ملحمة جلجامش مثلاً حيث قرر مصير انكيدو، بشيء من العسف والظلم.كذلك موقف آنو المعروف مع آدابا في أسطورته.

لقد دفعه هذا الموقف وتلك الأهمية التي تتمتع بها الآلهة وسط مجلسها إلى متابعتها وتدوين المعلومات عنها والعناصر المكونة لها والوظائف المناطة بها، مع تحولاتها ومتغيراتها التي تحصل بشكل موضوعي بين المراحل الحضارية.

انكي

قال اله الحكمة انكي:

 يا كوخ القصب اسمع يا كوخ القصب

  يا جدار يا جدار

 انتبه يا جدار

اهدم بيتك وابن قاربا

هدمت بيتي ولم ابن القارب

متى ابني القارب يا انكي  

في هذه القصيدة نلاحظ السمة الاسطورية الواضحة بضعة ألاف من السنين لم يجمعوا على تحديد عددها .لكن استمرار المنخفضات على احتواء المياه وإكسابها الاستقرار النسبي إلى جانب التجدد الهادئ لمناسيبها قد خلق واقعا تضاريسيا خاصا ذي سمات تختلف عن البحار من جهة وتختلف عن سمات مياه الأنهار من جهة اخرى…يتأكد هذا الأمر حين  نعلم إن نسبة الملوحة مثلا في مياه الأهوار تنخفض كثيرا عن نسبتها في مياه البحار ، كما إن درجة العذوبة فيها بالتالي تنخفض أيضا عن نسبتها في مياه الأنهار.وهو أمر طبيعي ينسجم مع منطق الطبيعة التي خلقتها ، فالمنخفضات تنفتح على الجانبين إن الملاحم العراقية القديمة جميعها قد استلهمت مواضيعها الكبرى  من شكل الأرض  وتضاريسها المميزة ،فالبرك الكبيرة المليئة بالمياه العذبة وهي تمتزج بمياه البحر المالحة  وشكل الأنهار والجداول والأرض الطينية المنخفضة إضافة إلى السحب الكثيفة المنخفضة والبحر نفسه ، فضلا عن القصب والزوارق، كلها حاضرة بقوة ايحائاتها في جميع الملاحم وإعمال الأدب الأخرى [17].

 في ملحمة الاهوار الجنة الضائعة يصف الشاعر الاله انكي  وهو يحاكي الكوخ  “كوخ القصب ” حينما يطلب منه اجابة وكذلك يسال الجدار الذي يكون في جامدا واقفا لكن الشاعر   وقد أشار المؤرخ والباحث الألماني ” أريش فون  دانيكين” صاحب كتاب  ( عربات الالهه )إلى إن الدقة التي اتسم بها وصف الاله انكي  الأسطوري  لشكل الأرض من الجو تضاهي الدقة التي تقدمها الكاميرات الحديثة المثيته على متون المركبات الفضائية الحديثة.لقد احتضنت الكتابات السومرية القديمة قصة الطوفان الشهيرة  التي انتقلت إلى الأديان السماوية الأخرى بل راح البعض يسميها قصة الطوفان الإنجيلية  . ويذكر المؤرخون إن النبي إبراهيم ( ع) قد نقل قصة الطوفان  بعد هروبه من مدينة أور إلى فلسطين  وتبناها مؤلفوا الكتاب المقدس .إن( ملحمة كلكامش)تروي القصة كاملة في اثني عشر مقطعا شعريا.

فتذكر الملحمة أن ” انليل ” أبو الآلهة  قد صنع منصة أو جزيرة من القصب  ( إشارة إلى الجباشة  الحالية في الاهوار ) ليؤسس بذلك معجزته التي تعني بداية الخلق ،لكنة بعد فترة زمنية اقنع الآلهة بان ترسل فيضانا يقضي على الحياة في الجزر القصبية التي تكاثرت . وكان ذلك أمرا فضيعا خاصة انه لم يكن هناك سبب ظاهر ، إلا أن نصا بابليا ظهر لاحقا أوضح السبب المتمثل بان سكان الأرض قد أصبحوا من الكثرة بحيث تسببوا بإزعاج ” انليل”بضوضائهم .  وكان الإله ” انكي” ، اله الحكمة والسلام هو المعارض الوحيد لقرار أغلبية الالهه ، فلم يستطع منعه رغم انه دخل معهم في جدال طويل حول ضرورة عدم الإقدام على إبادة البشر عابدي الالهه وخدمهم  ، لأن قرار الأغلبية لم يكن قابلا للتغيير . لقد أراد الإله ” انكي” أن يحذر البشر من الكارثة إلا إن قانون الآلهة كان يحرّم علية إفشاء ألأسرار السماوية إلى بني الإنسان بشكل مباشر ، فلجأ إلى مخاطبة جدار بيت ” أوتا- نابشتم ” المبني من القصب :-

( يا بيت القصب ، يا بيت القصب ،  يا جدار ، آه يا جدار ، اسمع يا بيت القصب ، انتبه يا جدار ، يا رجل شروباك ، يا أبن اوبارو-توتو ، هدم بيتك وابن قاربا ، اترك ممتلكاتك وتشبث بحياتك … خذ معك في القارب بذرة جميع المخلوقات الحية. ) وبعد ذلك الموقف المتمرد من قبل الإله ” انكي ” لصالح  الإنسان قام أوتا نبشتم ببناء سفينته التي حملت أصناف المخلوقات الحية فأنقذ بذلك الحياة بعد الطوفان . وبعد أن يندم الإله ” انليل” على قراره في تسليط الفيضان على البشر  حسبما تقول الأسطورة ينحسر الطوفان ولكن بدون ضمان بعدم تكرار الكارثة. إن تمرد انكي على الالهه على أية حال يذكرنا بتمرد ” برميثيوس ” على الآلهة  في الأساطير الإغريقية ، لكن الفارق هنا هو إن ملحمة كلكاميش كانت قد ظهرت مكتوبة قبل ظهور الالياذه التي ألفها هوميروس الإغريقي  بفترة زمنية سحيقة تقدر بألف وخمسمائة سنة

الأساطير البطولية

ان الاساطير  البطولية هي توثيقات وروايات حقيقة لماضيهم السحيق. وخُصوصًا، أساطير الخلق التي تتخذ من الزمن البدائي مسرحًا لحدوثها حيث لم يكن العالم قد اتخذ شكله اللاحق بعد. بينما تُفسر أساطير أخرى كيف أُنشئت وقُدِّست عادات المجتمع ومؤسساته ومحرماته نظرا لاستخدام مصطلح الأسطورة على نطاق واسع ليُشير إلى أنَّ القصة ليست صحيحة بشكل موضوعي، فإن تحديد سرد ما باعتباره أسطورة يمكن أن يكون سببا في إثارة جدل كبير، حيث يرى العديد من أتباع الديانات أن قصصهم الدينية صحيحة، وبالتالي يعترضون على وصف تلك القصص بأنَّها أساطير، لكنهم يرون أنَّ قصص الديانات الأخرى ما هي إلاَّ أسطورة. وعلى هذا النحو، يصف بعض العلماء جميع الروايات الدينية بأنها أساطير لأسباب عملية، وذلك تجنبًا للتقليل من قيمة أي تقليد ولأن الثقافات تنظر لبعضها البعض بصورة مختلفة. ويتجنب علماء آخرون استخدام مصطلح «الأسطورة» تمامًا وبدلاً من ذلك يستخدمون مصطلحات مختلفة مثل «التاريخ المقدس» أو «القصة المقدسة» أو ببساطة «التاريخ»؛ لتجنب وضع إيحاءات ازدراء على أي سرد مقدس وهذا يعني إن ملاحم وادي الرافدين الشعرية وغيرها هي الأولى في التاريخ كما يقول الدكتور صامويل نوح كرامر الأمريكي من بنسلفانيا . بل إن كرامر نفسه يؤكد على إن قصة الطوفان كانت متداولة بين سكان الوادي قبل تدوينها في ملحمة كلكاميش ويحدد فترة ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد . إن الملحمة تحقق نهاية ذات معنى فرغم إن ندم الآلهة يولد الاطمئنان لدى البشر إلا إن كلكامش الذي يعثر على شجرة الخلود بعد رحلة مرهقة ومحفوفة بالمخاطر يدرك في النهاية إن الموت هو المصير المحتوم للإنسان بعد إن تقوم أفعى بسلب شجرته أثناء توقفه لغرض الاستحمام في احد الجداول . يتقبل كلكامش مصيره ويدرك أن الخلود الذي ينشده لايكمن  في شجرة يعثر عليها في قاع البحر بل بالعودة إلى الحياة وممارسة العدل بين سكان مملكته فكان ملكا بطلا أسطوريا لجنوب العراق

 في جنوب العراق

تنطوي قصيدة “في جنوب العراق” في ديوان "الاهوار الجنة الضائعة " للشاعر عبد الكريم كاصد، على مفارقة لا تكتمل ما لم نقتبس القصيدة كلها حيث يقول الشاعر:

”الأيائل انقرضتْ

 الأسود انقرضتْ

 الحُمُر الوحشيةُ

 – يا للخيبة-

 وما زال الإنسان هناك

 في انتظار الوحوش

 ثمة إشارات عديدة إلى كَلكَامش في ملحمته،  هذه الصورة الشعرية في هذه الجملة التي تربط الخاص بالعام في اسطورة سكينة الاسم  الخاص.. والاهوازالتي ترمز إلى  العام، وبهذا نجد الجملة المركبة هذه تقودنا إلى مفهومين قالهما ماركس في فلسفته الاسطورية  " الانسان وليد بيئته " و "الخاص جوهر العام" أما كلمة  "رائحة" في وسط الجملة ربطت المعنيين ربطا معرفياً وفنياً:  لنأخذ سكينة التي تأنسجت عبق المكان كونها ابنة الاهواز، فنهلَتْ من واقعها طبيعة العلاقات الاجتماعية المتآخية، والدليل هنا أن الجمال الذي يفيض حسنا بتكوين سكينة: مستمد من عبق الروائح الزكية وطبيعتها، التي طرزها الشاعر بمفردة "رائحة" وهذا يدلنا إلى أن هذه الجملة الشعرية نفسية في جوهرها ومنشئها

 الاسطورة الرمزية

ان الاسطورة الرمزية  تقوم على أن كل أساطير القدماء لم تخرج عن أن تكون في شتى أشكالها الدينية و الأخلاقية و الفلسفية و التاريخية مجرد مجازات فُهمت على غير وجهها أو فُهمت حرفياً و  بناء الآلهه لبابل لم يكن إلا رمزاً لشروع الإنسان في بناء حواضره. تعد وسيلة لنشر الديانة البابلية و تثبيتاً لعبادة الهها مردوخ و تبريراً و ترسيخاً لطقس قديم و هو الاحتفال برأس السنة فتُتلى الملحمة كاملة من قبل الكاهن الأعلى أمام تمثال مردوخ بحضور جماهير العباد و تمثيل بعض مشاهد الملحمة وربما شارك الملك و كبار الكهنة في اتخاذ الأدوار الرئيسية فيها.السبي البابلي قدم لليهود فرصة الإطلاع على آداب و ديانة و أساطير ثقافة أرض الرافدين و عندما عادوا إلى أورشليم قاموا بتدوين نصوص التوراة المتفرقة في كتاب جامع.، أما اللقطة البلاغية فتقودنا إلى الجملة الثانية التي تأخذنا إلى التصاهر الفني الجميل، بين الجمال الأنوثي عند البعض من النساء، وبين موهبةٍ أذكتْ وأبدعتْ في حكمتها الصورة الشعرية فأحالتها إلى رقص غنائي يطرب السمع ويفرح العينين في:

"القبر"

في ركن ناء

يرقد راضي ابن هليل

رقدته الابدية

لا شاهدة

لاقبر يجاوره

لا اهل

تمر به الاسماك ولا تلتفت اليه

تعمل هذه العلامات الرسمية بمثابة تحية دائمة للمتوفى، مما يوفر حضوراً مادياً يسمح للأحباء بتكريم وتذكر أولئك الذين رحلوا. بالإضافة إلى وظيفتها العملية المتمثلة في تحديد مكان استراحة المتوفى، تحمل شواهد القبور أيضاً قيمة رمزية هائلة، مما يعكس معتقدات وقيم وتقاليد المجتمع الذي أقيمت فيه. من التصاميم المعقدة إلى النقوش المؤثرة، تقدم شواهد القبور لمحة عن حياة وتراث أولئك الذين سبقونا شواهد القبور هي تذكير ملموس للأفراد الذين غادروا هذا العالم. إنها بمثابة شهادة دائمة على وجودهم وتوفر موقعاً فعلياً لأحبائهم لزيارتهم وإبداء احترامهم. سواء أكان ذلك علامة بسيطة أو نصباً تذكارياً متقناً، فإن وجود شاهد القبر يخلق إحساساً بالديمومة، مما يسمح للأجيال القادمة بالتواصل مع أسلافهم. تمر جماعات من الطيور و يحكي  أساطير حكايات ومشاهد وغرائب ومآس وأحلام وأسفار وقصائد يقدمها الشاعر في  كتاب "الأهوار.. الجنة الضائعة" للقارئ، ومن بينها حكايات غريبة ومريبة حتى على العراقيين الذين لا يعرفون عنها الكثير.ففي قصيدة  "قبر" يحفر في جزيرة صغيرة بين جزر أخرى تتحرك في الماء تبنى من القصب والبردي، يرحل أهلها ويبقى القبر وحده وسط فضاءات الماء.

 بدءاً من العنوان، ومن التساؤل المزدوج، نحن حِيالَ عالَمَين؛ عالَم الأرضِ وعالَم السّماء، أو هذا ما يبدو للوهلة الأولى من تناول الدّيوان، ولكن، في أيّ أرضٍ وأيّة سماء سنجد أنفُسَنا ونحنُ نغوص فيهما؟ أرض الواقع أم أرض الأحلام؟ وهل تلك سماءُ النجوم والأقمار، السّماء الزرقاء أم سَماء الدّيانات والأساطير؟ هي أسئلة عن العوالم التي تثيرها قصيدة گاصد ولغته وتصويره وفلسفته في رؤية الحياة بوجوهها وأبعادها المتعددة.

للشاعر في هذه المجموعة أيضاً أسئلة مختلفة المغزى، ففضْلاً عن السّؤالين في العنوان، سوف يُوقفنا گاصد على أسئلة شتّى، هذا السؤال الذي يأتينا من عالم غير مألوف، وربّما لا إجابة له لكنه مهمّ وجميل ومدهش كعاشقَين لا يلتقيان إلا في العتمة حيث لا رؤية سوى البصيرة، لا البصر العَيانيّ. وبهذه البصيرة ذاتها نقرأ نصوصَ گاصد التي تتنقّل بين الوزن (التفعيلة) والنثر الذي يحمل إيقاعَه الخاصّ. النصوص التي تتنقّل أيضًا بين المشهد اليوميّ والسُّؤال الوجوديّ، وما بينهما الحضاريّ والأسطوريّ والتاريخيّ.

((في زاوية من القبر يكتشف أحد الموتى خطأً ما، شقًّاً ينفذ من خلاله ضوء القمر الخفيف البطيء الذي لا يراه أحد. هو مرهق بذكرياته، وها هي إحداها تلحّ عليه أن يستيقظ. استسلم إلى حالة من العداء أمسكت به دون رحمة، وظلّ أسيراً لها حتى انبلج النهار. كانت الساعة خارج القبر الرابعة عصراً على وجه التقريب، وشبه الظلّ المعتم يسود المكان. الميت يزحف، وجدران القبر تتقهقر. يتلمّس دربه في التراب العصيّ، وهو يشعر بسعادة عظيمة يعجز وصفها لأنه عثر على أحد غرمائه راقداً في حفرة بالقرب منه. ملأ منه عينيه حيث يرقد أبيض الوجه ساكناً في نعشه. اقترب منه. انحنى. جرّب التلفّظ ببعض الكلمات، ثم نجح أخيراً في القول: "ها نحن التقينا أخيراً وكل ما حصل في الماضي يعود من جديد".

البيوت

البيوت التي هبطت في المياه

ها انا الان ابصرها

وهي تفتح ابوابها

وتحدق بي

البيوت

وكما يفهم الشّاعر الشّعرَ، فهو يجسّده بالمتخيّل ، بل تحديدًا في الطريق إلى هذه المدينة، وقريباً من قسطنطين كافافيس ومحمود درويش، في ما يتعلّق بالطريق إلى البيت، ففي قصيدته "خرائط"، والمقطع الذي حمل عنوان "دليلٌ موجزٌ إلى مدينة الشّعر"، نقرأ: "إذا ما أردتَ الدخولَ إلى مدينة الشعر فإنّ أوّلَ ما يصادفُك في الطريق إلى الشّعر وعوالمه: قريةٌ في القرية نهر يقطعُهُ جسر وبيتٌ لا يسكنهُ أحدُ".

وهكذا، نسير معه في الطريق، نسير في خيالاتنا/ خيالاته، إلى أن نصل فنبصر لافتة كالإصبع تشير إلى البيت، وقد خُطّ عليها بحرفٍ صغير: "هنا يسكنُ الشاعر". فأيّ مكان وأيُّ بيت متخيّل هو هذا، سوى بيت/ مكان الحلم؟ وما البيت هنا؟ ولنلحظ أنّ البيت ليس هو المنزل أو السّكن، فالبيت يمتلك دلالات أعمق وأشدّ رسوخًا في الرّوح، وحينما يصل الشاعر إليه فإنّما يبلغ روحه ومبتغاه ومصيره. هنا نقف على ثمّة قدْر كبير من التجريد في اجتراح هذه الصورة. تجريد لا بدّ أنه يمتلك جذوره الواقعيّة.

ثمّ لا يلبث الشّاعر أن ينقلنا إلى عالم آخر، فأنتَ بحسب طائفة "الزنّ" البوذيّة، ولدخول عالم الشّاعر والشِّعر، أو "للذهاب إلى مدينة الشعر/ عليك أنْ تقطعَ الغابة/ وأن تصحبَ الذئب/ والأفضل ألاّ تذهبَ أبدًا/ هكذا يقول شاعرُ "الزنّ". بعد ذلك، ينتقل بنا الشاعر إلى "دليلٌ موجزٌ إلى غابة الشعر" في صور شبيهة بالسّرياليّة، بل هي السّرياليّة ذاتُها حيث أنت "كأرنبٍ مُسرعٍ يُمسك ساعتهُ بالمقلوب.."، ويأخذنا إلى غرائب العلاقات بين كائنات الطبيعة، لنجد أنفسَنا أمام "شريعة الغاب".

وقد انجلى شاعر الجيل الستيني مبارزا قوياً بصراعه ضد التخلف والطغيان وذلك بالدفاع عن حقوق الإنسان والمرأة بشكل خاص، والطبقات الضعيفة والفقيرة، وقد تأثر البعض من هذا الجيل أيضاً بشعار الحزب الشيوعي العراقي "ياعمال العالم أتحدوا"، والاممية الفكرية وعلاقاتها المجتمعية المطلقة، وقد انضوى البعض منهم لهذا الحزب مؤيدين أفكاره التنويرية التي تتلاءم وطموحاتهم الفكرية والثقافية والانسانية، وأيضاً في تنويع الثقافات التي جاء بها، حيث وجدو هذا الحزب السهل المبسوط أمام إبداعاتهم الخلاقة نحو إشاعة الحرية العامة والأخذ بمجتمعاتهم إلى السهل الخصب للديمقراطية، وقد اتصف هذا الجيل بالجيل الوسط مابين شعراء: جيل الرواد الذين مثلوا القيمة الفنية العالية الدقة والإبداع في شاعريتهم، وبين جيل سبعيني مرادف في تنوعه، حيث لا يقل أهمية عن الجيل الستيني في التنوير الإبداعي والخلق الفني المميز. ولا أجزم أن كل شعراء الجيل " أي جيل " يمثلون الصفوة في الإيقاع والرشاقة الأسلوبية في خلق النص الشعري المميز، كون الشعر مثله مثل كل الفنون الأخرى يخضع لتلجيات الفكر ومستوى الإلهام عند الأديب.الأديب. يقول شاعرنا عبد الكريم كاصد في مقابلة له في كتاب: "أن تجليات هذا التحول النوعي لم تستنفذ بعد إذ لا تزال هناك أشكال عديدة في الشعر العربي لم تترسخ حتى الآن كالتيار الذي يمثله شعراء عديدون ولا سيما في الشعر العراقي، وهو تيار يتعامل مع الواقع اليومي بتفصيلاته، موظفاً هذه التفصيلات من أجل التعبير عما هو أعمق في هذا الواقع. 1" لهذا ثمة بحث مستمر في الوشائج الداخلية التي تكشف عنها هوية الشاعر المحكومة بالأسرار، والتي تجعل من الإبداع خيوط حرير تجمع: بين موسوعة الشاعر الثقافية وعلومه، وبين خصوبة وتنوع سهلهِ الإبداعي.  في أحايين نادرة تطالعك دواوين شعر، لقصائدها بوحٌ يفيض شفافية، وبلاغة معنى، وصفوة خيال سارح في فضاءات راقصة بثوبها الأبيض الشفاف، ومن هذه البلاغات الشعرية أخترت للقارئ هذه القصيدة المتناغمة في تركيباتها اللغوية، وهمسها الفني الراقي عذوبة، حين ينطق لسانها جواهر الكلام، من وحي تدفق انبعاثها الروحي:

اسد الاهوار

على مشارف الاهوار

قبل اندلاع الحرب

اول حرب كبرى

وقف اخر اسد

وصاح

انا سليل الاوابد

حلية اشور وجلجامش

الوديعة التي حملها الملوك

إلى محفل الالهة

ساملا بزئيري الفضاء

ساكنا مثل اجمة

ففي قصيدة “أسد الأهوار” نقرأ:

”أنا سليل الأوابد

 حِلية آشور وكَلكَامش

الوديعة التي حملها الملوك

  إلى محفل الآلهة

سأملأ بزئيري الفضاء

ساكنًا مثل أجَمَة

 لا أدري

وقد سمّرتني السهام

أأنا أسدٌ

أم اله؟

ويميل گاصد إلى إشباع حروفه بروح السخرية، المرارة التي يعيشها ابن عصرنا تجعل الشاعر متهكّماً كي لا يسود الجِدّ على الكلام وعندها تبدو الظلمة مطبقةً تماماً، لكن صبغة الهزل التي تخفّ بها قتامة المشهد، ترسّخه أكثر. يصنع گاصد في وجوهنا ابتسامة تضيء العالم: محبته وكراهيته وجها عملة واحدة شرس  في جوعه، وشرس في شبعه. يقولون للضحية أن تنهض، وللجلّاد أن يستريح.

وهكذا يدقّ الشّعر على الوتر بصوت أعلى حين تقلّ حروفه، ويذكّرنا هذا النوع من الكتابة  بما أفضى به أنطونيو بورشيا و، تُرجمت له إلى العربية مختارات وكذلك  بورخيس، وسيوران، وبيسوا، إنها نوع جديد من الكتابة، تجمع بين الحكمة والقول الناصع والتجربة الثرّة. لاحظوا معي الإيقاع المغتمّ في هذه القصيدة:يقرّب الشّاعر الحقيقة إلينا ونراها كأنما في عدسة مجهر، ونكتشف عندها أنها لا توجد في الواقع رغم محاولة جميع العتاة في التفكير السليم إثبات عكس ذلك. يوجد الحقّ في الأفكار الغريبة وفي الخيالات والاحلام.

توسّعت في إحدى منمنمات گاصد في أثناء القراءة، فتمدّدت لديّ فوق الورق، وصارت قصةومن دون أن يتبادلا كلمة واحدة، التحمت الرؤوس والأيدي والسواعد والأذرع، وحتى الأقدام في اقتتال أبديّ. كانا سعيدين!)) في منمنمات عبد الكريم گاصد نجد كلّ ما نطلبه من الشعر والنثر. جزيل الشكر له إذن لأنه كتبها وهو يجلس في ظلّ نخلة في منتصف النهار، يحتسي النبيذ ويأكل الخبز والعسل، ويتحدث إلينا عن الحقائق فبينما هو يشعر بغضب حبيبته وإنكسارها، تتنازعه رغبة الصفح عنه والإبقاء على حبها له، الذي كان مساحة أجمل أكوان النور والرؤى، فهي مصدر إلهامه الشعري ووحي تَقلّدهُ ليس ككل الشعراء في: "أنتِ المنارة يوقدها راهب في الظلام" هي لحظة استحضار للضياء  إلى الظلمة بنور الحبيبة بتوظيف ذكي للاستعارة بشخص "الراهب" مما أدى إلى سلطنة النبوغ الشعري للتحسس النفسي، من هيام وشرود وإنفعالات وتأثر على طول زمانه المنتج للفنية التي تلازمه، وتتسع في ملاحقته المركزة لمسرحة النظر في هذا التشكيل الدلالي: "تُضيئين عند العشيّ.. وعند الضحى" ويستمر ضياء الحبيبة طاغياً عبر أوقاته الزمانية منذ بدء الليل الموسوم بـ "العشيّ" حتى الضحى، مع أن الشاعر يستمر رافضاً متمرداً على مجتمعه المهشم، وثورته التي لا تكل ولا تنطفئ ضد طغيان العادات والتقاليد التي تقيد حرية المبدع وإنتاجه الفكري، وتأكيداً لثورة الشاعر ونفوره من التخلف نجده يصرخ بقوة فاعلة في تجانس آخر: " كم من نصيحٍ رددتُ وكم عاذلٍ لجّ.. صحتُ وقد أطبق الليلُ كالموج من كلّ صوبٍ.. وأرخى سدول الهموم عليّ.. وناء " إذن فهذه الصور شاهد حق على ثورة الشاعر ورفضه للـ "النصيح " وهو المرسال الذي يأتي للشاعر لمفاوضته على أن يترك الشعر والتمرد، وأيضا رفضه للـ "العاذل"، فكلاهما يشكلان الضد والعدو بآن لحرية الشاعر ومكونه الإبداعي الذي أرخ زمنه للأزمنة الأخرى، وإلا فالزمن لا يكشف عن شئ، إذا لم يكن الشعر الوحيد الذي عبر عن تلك التحولات المغايرة من تطور فكري وعلمي وفني في مجتمعه[18].

.......

ويستدعي گاصد، في السياق، ما كتبته الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف في كتاب صغير لها عن لندن، وما يمكن أن تفعله الحداثة من تغيير فيها، من دون المساس بعوالمها الأثرية، أو طابعها التقليدي التراثي.وهنا يتحدث گاصد عن "الأهوار الشبيهة بالبشر في انبساطها، وتواضعها، وعن سمائها التي تعلوها سماء أخرى، وتموزها الذي انبعث حيًّا، وآلهتها المختبئة وراء القصب، وعن مستقبلها الذي يمكن أن نستحضره بأخف ما يحمله الناس. ومن بين أحلام ناس الأهوار التي ينقلها گاصد التمتع "بمراكز صحية وسياحية من قصب لاستقبال السائحين من الأجانب أو من المواطنين العراقيين أنفسهم، وأن تتوفر وسائط نقل لا تكلف كثيرا، حتى ولا قليلا، لتسهيل تنقلهم، ومحطات للإقامة". وهذا لن يغير من طبيعة الأهوار البكر، بل على العكس، سيزيدها حضورا وتفتحا، وفقا لگاصد.[19]

 

يروي عبد الكريم گاصد حكاية طفل أسامة ودجاجته السوداء المنقّطة باللون الأبيض التي تقبّل الضيوف من شفاههم بدربة ليست وليدة اللحظة حتى أن أنها أدخلت منقارها في فم الراوية بعد أن دارت حوله، وقفزت على كتفيه كنوع من الترحيب بالقادم الجديد إلى هذا الفردوس المفقود.

ديوان الأهوار بتقنية السهل الممتنع

لا يمكن أن نمرّ على “ديوان الأهوار” مرور الكرام، فهو تجربة شعرية قائمة بذاتها تُحيل قارئها إلى الزمكان السومري، وثقافته، وقيمه الاجتماعية والأخلاقية والروحية. يتألف الديوان من 26 قصيدة.

تحدث الشاعر عبد الكريم عن براءة البيئة الريفية ونظافتها قياساً لبيئة المدينة الملوثة وتمنى لو تستثمر هذه البيئة لأغراض السياحة وان يجري الاهتمام بناس الأهوار الأصليين وتوفير الحياة الكريمة لهم.

خلاصة البحث  

        الحمد ﷲ على توفيقي وبعد .. مما لاشك فیه ان ّ الاھتمام الكبیر الذي یبدیه التوضيح الاسطوري الیوم ، في رصد النماذج الشعرية ، بمختلف توجھاتھا ، من خلال ضبط أدواتھا والكشف عن سُبل معالجتھا للنصوص الأدبیة؛ إنما یصدر عن عمق وشمولیة النظر الاسطوري الذي بات یؤمن بان الحدیث عن منھج نموذجي، أو منھج متكامل ، إنما ھو بدعة نظریة ؛ لا یمكن إثبات دعائمھا على أرضیة التطبیق يجسد المشهد الشعري والتقاطه بأدواته الفنية المتآزرة ملمحا بارزا من ملامح عالم الشاعر العراقي المتميز عبد الكريم كاصد ، فالمشهد هو الوسيلة الأثيرة لديه لبناء قصيدته بناءً. وليس المشهد عند عبد الكريم لوحة مرسومة للتأمل والفرجة ، بل هو مشهد حيوي نابض بالحياة ، إنه مسرح حيٌّ تتجلى فيه عناصر الزمان والمكان ، وتبدو فيه أدوات اللون بدرجاته والضوء بمستوياته ، والصوت بإيقاعاته، وفي هذا المسرح تتصارع الأفكار والمشاعر والكائنات الحية ، فكل نص إبداعي یجترح منھجا خاصا یتلائم مع طبیعة ھذا النص ، والمنھج بوصفه منظومة من التصورات المعرفیة لا یستمد فاعلیته وحقوله الإجرائیة من فراغ،  إنما ھو ستمدنا من شبكة من الخطوط المنھجیة المتضافرة ، لذا فان تحدید الناقد لمنھجه إنما یمثل الزاویة الفنیة التي سینطلق منھا في تحلیل النص الإبداعي ، ولیس الفصل التام أو تفضیل منھج ما على منھج آخر.  

من ھنا جاءت دراستنا لتسلط الضوء على واحد من المناھج النقدیة الحدیثة ، وھو المنھج الأسطوري وقد حاولنا  ربط وترسیخ دلالة ھذه الصورة بالعبادات القدیمة، وقد رفد تلك الدراسة ، بدراسة مقارنة في التاریخ القدیم للجزیرة العربیة مستعینا بنظریات علم الانثربولوجي الحدیث الخاص بھذا الشأن ، والحقیقة إن ھذه المقالة جاءت عامة في القصیدة القدیمة ولو إن الباحث رفد ھذه الدراسة بدراسة فنیة لإحدى القصائد القدیمة مفیدا من الجانب النظري الثر الذي قدمھ لكنت الدراسة أغنى  واشمل ، لان قصر مجال الدراسة في الجوانب التاریخیة والانثربولوجیة یفتح باب النقد على مصراعیھ بوجھ النقد الأسطوري من لدن خصومة بوصفھ نقدا خارجیا ، أي یصب اھتمامھ على خارج النصوص الأدبیة فحسب .  

وكانت هذه من الدراسات الرائدة في ھذا المجال لكنھا افتقرت إلى التحلیل النصي الذي وجوده بلا شك سیثري تلك الدراسة بشكل أعمق  إذ نجح الوصف من خلال الاستعانة بالقرائن الفنیة في توجيه القارئ إلى الدلالات الداخلیة العمیقة للنص ، التي حولت دلالته إلى مجال آخر مختلف عن مجال الغزل .   والحقیقة إن العمل ما یزال بحاجة إلى جھود كبیرة للارتقاء بھذا المنھج وتقویم سبلھ ، وقد جاءت دراستنا ھذه بوصفھا جزءا یسیرا من دراسة أكثر عمقا وشمولا في ھذا المجال ، وما زالت في مرحلة البحث والإعداد.  

 والله ولي التوفیق .   

 

المصادر والمراجع:

 1-    أحمد محمد ويس، وظيفة الانزياح من منظور الدارسات الأ سلوبية، مجلة، علامات في النقد، مج6، ع21، ط1، 1996.

2-    آمنة بلعلي، خطاب الانساق، الشعر العربي في مطلع الالفية الثالثة، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت ،لبنان. ط1.

   عبد الفتاح محمد أحمد،المنھج الأسطوري في تفسیر الشعر الجاھلي، دار المناھل للطباعة والنشر والتوزیع، بیروت، لبنان، الطبعة الأولى ،٢٠١١  . 

3-    آيليا حاوي، العقل في الشعر، مجلة الاداب، بيروت، ط1،  199.

4-    بروين حبيب، تقنيات التعبير في شعر  قباني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1،1999 .

5-    د. بشرى البستاني، الهايكو العراقي والعربي بين البنية والرؤى، الشبكة الالكترونية،

 .http://wahathaikusyria.blogspot.com/2016/10/blog-post_27.html

 

6-    جان كوهن، بنية اللغة الشعرية، تر: محمد الولي، محمد العمري، دار توبقال للنشر، المغرب، ط1 ،1986.

7-    جمال مصطفى، هايكو مختا ارت عالمية معاصرة، دار طوى للنشر والاعلام.

8-    حسن البصري، كمال البصري، بيان الصورة الفنية في لبيان العربي، موازنة وتطبيق، العراق المجمع العلمي العراقي ،1978.

9-    عناد غزوان ،   التحلیل النقدي والجمالي للأدب ، المؤسسة العربیة للدراسات والنشر ، بیروت ٢٠١٧ .

10-                       حسني التهامي، الهايكو وافاق التجريب في القصيدة العربية، محاضرة برعاية اربطة الادباء الكويتية2020 

11-                       ریتا عوض ، أسطورة الموت والانبعاث    ، ط1، 2018، دار الابداع ،صلاح الدين، تكريت.

12-                       عبد الله الغذامي، ثقافة الأسئلة في مقالات النقد والنظرية، دار سعاد الصباح، الكويت، ط2، 1993.

13-                       عبد الكريم كاصد، الحقائب، تموز للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2011.

14-                       عبد الكريم كاصد، النقر على أبواب الطفولة، الاعمال الشعرية الكاملة للشاعر، ج1، مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، القاهرة، ط1، 2019. 

15-                       عبد الكريم كاصد، حذام، تموز للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2011.

16-                       عبد الكريم كاصد، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الأول، مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر ،القاهرة، مصر. ط1، 2019.

17-                       عبد الكريم كاصد، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الثاني، مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر ،القاهرة، مصر، ط1، 2020.

18-                       عبد الكريم كاصد، شجرة عند الباب ،مؤسسة أروقة للطباعة والنشر، ال قاهرة2000

19-                       عبد القادر الرباعي، الصورة الفنية في شعر أبي تمام، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت ،لبنان، ط2 ،1978.

20-                       علي أبو زيد، الصورة الفنية في شعر دعبل الخزاعي، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1996.

21-                       كولردج، النظرية الرومنتيكية في الشعر، سيرة أدبية، تر: د. عبد الحكيم حسان، دار المعارف بمصر ،القاهرة، ط1، 1971.

22-                       د. محمد غنيمي هلال، النقد الادبي الحديث، دار الثقافة، بيروت، ط1، 1973.

23-                       محمد سعيد الصكار، (د ارسة في فنه الشعري) منة حسن على، دار الشؤةن الثقافية، وازرة الثقافة، بغداد، ط1، 2018.

24-                       محمد عبد المطلب، قضايا الحدائة عند عبد القاهر الجرجاني، الشركة المصرية العالمية، القاهرة، ط1.

25-                       وجدان عبد الإله الصايغ، الصورة البيانية في شعر عمر أبوريشة، دار مكتبة الحياة، مؤسسة الخليل التجارية، بيروت –لبنان ،1997.

 

26-                       وليد ابراهیم قصاب، البلاغة العربية، علم البيان، دار الفكر، المعاصر، بيروت، ط1، 2012

1.     Yasuda, Kenneth.The Japanese Haiku: It Essential Natures, History and possibilities In English with selected Examples.Tokyo: Tuttle com pany,1973.

2.     Cuddon, J.A.A DICTIONARY of LITERARY Term. London: Penguin Book, 1984

 

 

 

 



[1] في نقد الشعر العربي المعاصر, رمضان الصباغ, دار المعارف, ط1, الإسكندرية 1998 :344.

[2] الأسطورة في لغة ادونيس, محمد الصالح, مكتبة علاء الدين,ط1, المغرب 2006 :21.

[3]  وليد ابراهیم قصاب، البلاغة العربية، علم البيان، دار الفكر، المعاصر، بيروت، ط1، 2012

[4] لغز عشتار, فراس السواح, دار علاء الدين, ط6, دمشق 1996: 234, وينظر: موسوعة الفلكلور الفلسطيني, سرحان نمر , ط2, ج2, 432

[5]  وجدان عبد الإله الصايغ، الصورة البيانية في شعر عمر أبوريشة، دار مكتبة الحياة، مؤسسة الخليل التجارية، بيروت –لبنان ،1997.

[6] أسطورة سيزيف, ألبير كامو, ترجمة زكي حسن, دار مكتبة الحياة, بيروت 1989: 139, وينظر: قاموس أساطير العالم: 126.

[7] بروين حبيب، تقنيات التعبير في شعر  قباني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1،1999

[8] محمد عبد المطلب، قضايا الحدائة عند عبد القاهر الجرجاني، الشركة المصرية العالمية، القاهرة، ط1.

[9] ينظر:قاموس أساطير العالم, آرثر كورتل, ترجمة سهى الطريحي, دار نينوى, دمشق 2010: 120.

[10] في المصدر: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام يقول..

[11] في المصدر: يا أبه.

[12] المجالس: 110.

[13] الأسطورة في لغة ادونيس, محمد الصالح, مكتبة علاء الدين,ط1, المغرب 2006 :21.

[14] لغز عشتار, فراس السواح, دار علاء الدين, ط6, دمشق 1996: 234, وينظر: موسوعة الفلكلور الفلسطيني, سرحان نمر , ط2, ج2, 432

[15] ينظر:الأدبوالأسطورة, راضية بو بكري, مختارات جامعة باجي (أعمال ملتقى الأدبوالأسطورة) عنابه 2007: 17.

[16] لغز عشتار, فراس السواح, دار علاء الدين, ط6, دمشق 1996: 234

[17] أساطير العالم, آرثر كورتل, ترجمة سهى الطريحي, دار نينوى, دمشق 2010: 120.

[18] الدكتور مصطفى ناصف: قراءة ثانیة لشعرنا القدیم، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزیع، بیروت، لبنان، الطبعة الثانیة ١٩٨١م، ص ٣٥ – ٥٤ 

[19] الدكتور مصطفى ناصف: قراءة ثانیة لشعرنا القدیم، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزیع، بیروت، لبنان، الطبعة الثانیة ١٩٨١م، ص ٣٥ – ٥٤ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق