.post-outer {-webkit-touch-callout:none; -webkit-user-select:none; -khtml-user-select:none; -ms-user-select:none; -moz-user-select:none;}

بحث

أحلام مستحيلة..قصة قصيرة يكتبها: حمدي الروبي


أحلام مستحيلة

يكتبها : حمدي الروبي
...........................................

الحياةُ سلسلةٌ مُتتابعة من الآمال والأحلام .. جمالها في أحلامها .. لذتُها في آمالها .. هكذا كانت ترى الحياة ، وظلت ترسم لنفسها أحلاماً ورديةً وآمالاً عطريةً لا حدود لها حتى أنهت دراستها في كلية الطب بتفوقٍ ملحوظ واستلمت وظيفتها كطبيبة لتمارس هذه المهنة الإنسانية العظيمة بحبٍّ وإخلاص ، إلى جانب مشاركاتها المتعددة في أعمال الخير والأنشطة التطوعيِّة. لم تكُن تعلم أنَّ ما تُحقِّقه في حياتها العملية ونشاطاتها التطوعية من نجاحات ، وأنَّ ما تُنجِزه نقابةُ الأطباء من أعمالٍ تخدم أعضاءها وأسرهم ، لم تكن تعلم أنَّ كُلَّ ذلك يتم بخطواتٍ مرسومةٍ وبرامجَ مُحكَّمةٍ تُصمِّمها وتُنفذها تلك المجموعة الدعوية المُنظمة تنظيماً دقيقاً ، إلى أن صارحتها صديقتها المُقرَّبةُ ( دكتورة سوزان ) فسألتها :
- وما هدف هذه الجماعة يا سوزان ؟
فاقتربت منها بمودة واهتمام وأجابت:
- نحمِلُ الخيرَ لِمِصْر.
ومِن خلال الجماعة كانت دكتورة سوزان سبباً في تعرُّفِها على ( الدكتور أحمد ) وإتمام خطوبتهما والبدء في الترتيب والاستعداد للزواج.
ويستيقظ العالم على صوت انتفاضة الشعب المصري يهزُّ الشوارع والميادين .. ويمتلىء قلبُها فرحاً وسعادةً وأحلاماً .. وتشعر بالعزَّةِ والكبرياءِ والنصرِ وهي تعقد قرانها بين المتظاهرين المحتفلين في ميدان التحرير ليلة تنحي الرئيس المصري مبارك .. لن ينسى التَّاريخُ هذه الليلة ، ولن تُمحى من ذاكرتها ؛ لأنَّ هذه الليلة الأسطورية شهدت بدايةً جديدة لحياتها ولوطنها ؛ وأحلاماً جديدة .. لها .. ولجماعتها.
وتتابعت الأحداث بشكلٍ متسارعٍ وجنوني ، لتجد ( الدكتورة أيتين ) نفسها وزوجها وجماعتها في مواجهة عنيفة مع الواقع ، بعد التغيرات الحادة في الثلاثين من يونيو ، وبعد حالة التصادمية والانقسام التي شطرت المجتمع.
تجلس بجوار زوجها أمام شاشة التلفاز يتابعان في توجسٍ وقلق .. يتلقى زوجها مكالمة عبر الهاتف المحمول تزيده حزنا وهمَّا :
- أيتين ، الوضعُ في مصر لم يعُد آمنا ، يجب أن نُغادر.
- ما هذا الكلام! مصر بلدُ الأمان! ثم كيف نُغادر ! وعملُنا ! وأحلامُنا ! والجنين النابض في أحشائي ! والجماعة ؟!
- الجماعة !! الجماعة صارت ( محظورة ) .. مُطاردة.
- لا ، لا أغادر بلدي مصر ، لا أستطيع !
تُسرِعُ نحو الشُّرفة .. تنظر إلى الشارع الفسيح .. تدير وجهها نحو زوجها ثانية في دهشةٍ واستنكار :
- مصر ! القاهرة ! النيل ! التَّاريخ ! الأزهر ! الحضارة ! الأمن ! الأسرة ! .. لا .. لا .. مستحيل .. وأحلامي ! .. مستحيلٌ ما تقول.
- صدقيني يا عزيزتي ، من الحُمقِ أن نبقى هنا ، على الأقل هذه الأيام ، فلن تمرَّ الشهور القادمة بسلام.
يُغمِضُ عينيه في ألم .. تتسربُ الدموعُ من بين جفونه .. يُطرِقُ رأسه في استسلام :
- لقد قام ( الأخوة ) بترتيب كل شيء ، وسوف نسافرُ الأسبوعَ القادمَ إلى .... إلى الصومال.
لم تصدِق ما سمعت .. أصابها ذهولٌ .. تملكها الصمتُ الذي أخرس كل شيءٍ حولها .. وضعت رأسها بين كفيها .. ظلت تبكي .. لا تجد مقدرة على الصراخ وإن كانت تحتاج إليه.
وسافرت الدكتورة أيتين _ بل هربت _ مع زوجها إلى الصومال ليعملا كطبيبينِ في إحدى لِجان الإغاثة الإنسانية التَّابعة لنقابة أطباء مصر.
وهناك لم تجد ( آيتين ) غير قسوة الحياة ، ومرارة الغربة ، وضراوة الانقطاع عن الأهل والوطن. ولم يخفف عنها وطئة ما تُعانيه إلا أن ترى أجمل وأهم أحلامها يتحقق أمام عينيها ، تراه ، تلمسه ، تسمع صوته ، تضمه في صدرها ، وذلك بعد أن وضعت وليدها الأول .. وضعته غريبا عن وطنه .. يبكي ليل نهار وكأنه يتألم لغربةِ أمهِ وأبيه.
وتنطوي صفحة ( الجماعة ) أو هكذا تخيل البعض .. وتستقرُّ الأمورُ في مصر أو هكذا زعمَ البعض .. ويبشرها زوجها باقتراب العودة :
- صحيح ، لا أصدق ، بشَّرك الله بكل خير.
- لكن لن نرجع ثلاثتنا إلى مصر.
- ماذا ! لم أفهم.
- ستعودين أنتِ و ( يوسف ) فقط ، وسأبقى أنا هنا بعض الوقت .. لقد أكَّد لي ( الأخوة ) في مصر ضرورة أن أظلَّ هنا ؛ لخدمة نشاط الجماعة بالصومال ؛ ولأن رجوعي الآن غير آمن.
آهِ يا مصر .. ما أجملك .. ما أروعك .. ما أعظمك .. ما أحنَّ قلبك على أبنائك .. لا تصدِق أنها في وطنها مرةً أخرى .. لا تريد أن تذهب إلى بيت أبيها .. ظلت تتجول في شوارع القاهرة وميادينها ساعاتٍ طوال ، والطفل على ذراعها يضحكُ ملء فيهِ يُشاركها فرحة الرجوع للوطن.
عادت أيتين الى وظيفتها ، وتنقضي بضعة أسابيع ، لتجد دكتورة سوزان في وجهها :
- آيتين ، الدكتور أحمد رُبَّما ، رُبَّما لا يعود ثانية إلى مصر .
- لماذا ؟ ما الخطب ؟ هل أصابه مكروه !؟
- لا اطمئني ، إنه بخير ، لكن ( الجماعة ) وجهته إلى ميدانٍ آخر للجهاد ، إنه الآن في ساحة أخرى من ساحات الدعوة والجهاد من أجل إقامة شرع الله.
شعرت أن الأرض تدور بها ، تحاول لملمة كيانها المتهاوي ، نظَّمت أنفاسها المضطربة .. نظرت إليها بتعجبٍ واستنكار :
- وأنت ؟ وزوجكِ ؟ لماذا لم تُرسلكما (الجماعة) إلى إحدى ساحات الدعوة والجهاد خارج مصر ؟ لماذا أنتِ وزوجكِ دائما هنا ! وغيركما فقط مَنْ تحكُم عليه الجماعة بالاغتراب والنفي والموت !
نظرت إليها صديقتها د/ سوزان _ بعيون يملؤها شرٌّ تراه منها لأولِ مرة _ وقالت :
- الأمر مجرد توزيع أدوار ومهام لا غير.
- صحيح. لقد فهمت. الآن فقط فهمت !
وليتها لم تفهم أي شيء .. إن بعض البشر إذا فهموا الحقيقة ماتوا كمداً وحزنا.
ومع أول خروجٍ لها من بيتها ارتدت أيتين _ بلا وعي أو تفكير _ النقاب ؛ ربما لتخفي وراءه حزنها وألمها وحسرتها ، وربما لتستر به مشاعر البغض والحنق التي ملأت صدرها ، أو ربما لتُخفي به صفحات عمرها التي اصْفَرَّتْ وتلاشت .. وأحلامها التي ذبُلت وتساقطت.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق